|
رد: من كتاب الحرز الأمين في تدبر سورتي الاخلاص والمعوذتين
سورة الفلق
قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}.
كان النبي قبل نزول هذه السورة وسورة الناس يتعوذ من الجان وعين الإنسان فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما، وترك ما سواهما»( ).
اسم السورة:
تسمى هذه السورة: سورة الفلق، وتسمى مع السورة التي بعدها {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} بالمعوذتين؛ قال ابن القيم ( ): «فسورة الفلق تتضمن الاستعاذة من شر المصيبات، وسورة الناس تتضمن الاستعاذة من شر العيون التي أصلها كلها الوسوسة».
سبب النزول:
روي عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما، أن هذه السورة مع سورة الناس نزلتا في سحر اليهود للنبي ( ).
فضل المعوذتين:
عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله : «ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}»( ).
وفي بعض الروايات عند أحمد وأبي داود وغيرهما أن الرسول قال لعقبة بن عامر : «ألا أعلمك سورتين من خبر سورتين قرأ بهما الناس؟» قلت: بلى يا رسول الله. فأقرأني: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثم أقيمت الصلاة فتقدم رسول الله فقرأ بهما ثم مر بي، فقال: «كيف رأيت يا عقيب! اقرأ بهما كلما نمت، وكلما قمت»( ).
وعن عقبة بن عامر قال: «أمرني رسول الله أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة»( ).
وعن ابن عابس الجهني أن النبي قال له: يا ابن عابس «ألا أدلك - أو قال: ألا أخبرك - بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} هاتين السورتين»( ).
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يقرأ بهما وينفث في كفيه، ويمسح بهما رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، وما بلغت يداه من جسده»( ).
قال ابن القيم رحمه الله ( ): «والمقصود: الكلام على هاتين السورتين، وبيان عظيم منفعتهما، وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما، وأنه لا يستغني عنهما أحد قط، وأن لهما تأثيرًا خاصًا في دفع السحر والعين وسائر الشرور، وأن حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس».
معاني المفردات والجمل:
قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}.
قوله: {قُلْ} الأمر فيه للرسول ولكل فرد من أفراد أمته ممن يصلح له الخطاب؛ فلا يدخل فيه المجنون والصغير ونحوهما؛ لقوله : «رفع القلم عن ثلاثة؛ النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصغير حتى يبلغ»( ).
وعن أبيّ بن كعب قال: «سألت رسول الله عن المعوذتين؟ فقال: «قيل لي»، فقلت: فنحن نقول كما قال رسول الله »( ).
وجملة {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وما بعدها إلى نهاية السورة في محل نصب مقول القول.
ومعنى {أَعُوذُ}: أعتصم وألتجئ وأستجير وأتحصن وأتحرز وألوذ ( ) وهذا هو الركن الأول من أركان الاستعاذة، وهو نفس «التعوذ».
قوله: {بِرَبِّ الْفَلَقِ}: (برب): جار ومجرور متعلق بقوله: (أعوذ)، وهذا هو الركن الثاني من أركان الاستعاذة، وهو: المستعاذ به، وهو رب الفلق. والباء: للاستعانة، و(الرب): لغة: مأخوذ من التربية والتنمية للشيء والقيام عليه وإصلاحه.
قال تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ}( )، أي: اللاتي تربونهن في حجوركم. وقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}( )، أي: القيوم على كل شيء سبحانه.
والرب: هو الخالق المالك المدبر؛ فرب الفلق خالقه ومالكه ومدبره.
ويأتي «الرب» بمعنى المعبود؛ كما في قوله تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}( )؛ أي: أآلهة.
ويأتي بمعنى «الصاحب»؛ كما في قوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}( )؛ فالمعنى هنا: صاحب العزة ( ).
و (الرب) بالتعريف لا يطلق إلا على الله.
و «رب كذا» بالإضافة يطلق على الله وعلى غيره، فيقال: رب الدار، ورب الناقة، قال تعالى: {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ}( ).
وربوبية الله عز وجل لخلقه تنقسم إلى قسمين:
ربوبية عامة لجميع خلقه بمعنى: خالقهم ومالكهم ومدبرهم، كما في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين}.
وربوبية خاصة بأوليائه بتوفيقه لهم للطريق المستقيم في الدنيا، وفي الآخرة إلى الجنة، كما في قول المؤمنين {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}( ).
و(الفلق): الخلق، والشق، وكل ما انشق عن شيء فهو فلق( )؛ فالصبح والحب فلق ( )، قال تعالى: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}( )، وقال تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ}( ). أي الذي خلق وشق الحب والنوى فأخرج منه النبتة فأخرج من الحبة السنابل الكثيرة المشتملة على مئات الحبات كما قال عز وجل: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ}( )، وأخرج من النواة النخلة؛ بل العدد من النخيل المثمرة؛ كما قال عز وجل: {وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}( ).
وخلق وشق الصبح وضياءه من ظلام الليل الدامس البهيم، وفي الحديث: «أنه ما رأى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح»( ).
وكل ما انفلق وانشق عن غيره من نبات، وحيوان وغير ذلك فهو فلق ( ).
قال ابن تيمية رحمه الله ( ): «وإذا قيل: الفلق يعم ويخص، فبعمومه للخلق استعيذ من شر ما خلق، وبخصوصه للنور النهاري – يعني الصبح – استعيذ من شر غاسق إذا وقب».
وقال ابن القيم رحمه الله ( ): «واعلم أن الخلق كله فلق، وذلك أن فلق «فعل» بمعنى «مفعول» كقبض وسلب وقنص بمعنى مقبوض ومسلوب ومقنوص. والله عز وجل (فالق الإصباح) و (فالق الحب والنوى) وفالق الأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأجنة، والظلام عن الإصباح، ويسمى الصبح المتصدع عن الظلمة «فلقا وفرقا» يقال: هو أبيض من فرق الصبح وفلقه.. يفرق ظلام الليل بالإصباح.. ومنه فلقه البحر لموسى، وسماه «فلقًا».
قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}.
في هذه الآيات: الركن الثالث من أركان الاستعاذة، وهو المستعاذ منه، وهو أمور أربعة؛ الأول منها: ذكره الله عز وجل بقوله:
{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}: فهذا هو المستعاذ منه الأول في هذه السورة. وقوله: {مِنْ شَرِّ}: جار ومجرور متعلق بـ (أعوذ)، و(ما) موصولة، وهي تفيد العموم( )، لكنه عموم تقييدي وصفي لا عموم إطلاقي؛ أي: أعوذ برب الفلق من شر جميع المخلوقات التي فيها شر؛ سواء من شرور الدنيا أو الآخرة، من شر شياطين الإنس والجن، وشر السباع والهوام، وشر النار وغير ذلك، وليس المراد الاستعاذة من شر كل ما خلقه الله، وإن كان مما ليس فيه شر؛ بل هو خير محض كالجنة والملائكة، وكذا الأنبياء؛ فإنه خير محض؛ بل الخير كله حصل على أيديهم( ).
فدخل تحت قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} الاستعاذة من كل شر، في أي مخلوق قام به الشر: من حيوان أو غيره، إنسيًا كان أو جنيًا أو هامة أو دابة أو ريحًا أو صاعقة، أو أي نوع كان من أنواع البلاء والشرور( ).
وقد روي أنه إذا سافر فأقبل الليل، قال: «يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك، وشر ما فيك، وشر ما خلق فيك، وشر ما يدب عليك، أعوذ بالله من أسد وأسود، ومن الحية والعقرب، ومن ساكن البلد، ومن والد وما ولد»( ).
قال : «من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق. لم يضره شيء حتى يرتحل منه»( ).
وفي الحديث الآخر: «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن»( ).
والشر: هو الآلام الحسية والمعنوية، الجسدية والنفسية، وما يسببها من الكفر والشرك والمعاصي؛ فما من ألم نفسي أو معنوي، جسدي أو نفسي إلا سببه الكفر والمعاصي، قال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}( ).
|