|
كيف تتعرف على الملائكة وتؤمن بهم ؟؟(5)
قدراتهم
1- قدرتهم على التشكل :
أعطى الله الملائكة القدرة على أن يتشكلوا بغير أشكالهم ، فقد أرسل الله جبريل إلى مريم في صورة بشر :
( واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً مشرفاً –
فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثَّل لها بشراً سوياً –
قالت إني أعوذ بالرَّحمن منك إن كنت تقيّاً – قال إنَّما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيّاً )
[ مريم : 16-19] .
وإبراهيم – عليه السلام – جاءَته الملائكة في صورة بشر ،
ولم يعرف أنهم ملائكة حتى كشفوا له عن حقيقة أمرهم ،
( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاماً قال سلامٌ فما لبث أن جاء بعجلٍ حنيذٍ –
فلمَّا رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفةً قالوا لا تخف إنَّا أرسلنا إلى قوم لوطٍ )
[ هود : 69-70] .
وجاؤوا إلى لوط في صورة شباب حسان الوجوه ، وضاق لوط
بهم ، وخشي عليهم قومه ،
فقد كانوا قوم سوء يفعلون السيئات ، ويأتون الذكران من العالمين :
( ولمَّا جاءت رُسُلُنَا لوطاً سِيءَ بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب ٌ )
[ هود : 77 ] .
يقول ابن كثير : " تبدى لهم الملائكة في صورة شباب حسان امتحاناً واختباراً حتى
قامت على قوم لوط الحجة ، وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر " (1) .
وقد كان جبريل يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم في صفات متعددة ،
فتارة يأتي في صورة دحية بن خليفة الكلبي ( صحابي كان جميل الصورة ) ، وتارة في صورة أعرابي .
وقد شاهده كثير من الصحابة عندما كان يأتي كذلك .
في الصحيحين عن عمر بن الخطاب قال : " بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ،
إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ،
ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ،
ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد ، أخبرني عن الإسلام " .
وفي الحديث أنه سأله عن الإيمان والإحسان والساعة وأماراتها (2) .
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد أن السائل جبريل ، جاء يعلم الصحابة دينهم .
ورأت عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم واضعاً يده على معرفة فرس دحية الكلبي يكلمه ،
فلما سألته عن ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم : ( ذلك جبريل ، وهو يقرئك السلام ) (3) .
وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ،
وأنه لما هاجر تائباً جاءه الموت في منتصف الطريق إلى الأرض التي هاجر إليها ،
فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فحكّموا فيه ملكاً جاءَهم في صورة آدمي ،
يقول عليه السلام : ( فأتاهم ملك في صورة آدمي ، فجعلوه بينهم ، فقال :
قيسوا ما بين الأرضين ، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ) ،
ولا بدّ أنهم حكموه بأمر الله ، فأرسل الله لهم هذا الملك في صورة آدمي ،
والقصة في صحيح مسلم ، في باب التوبة (4) .
وسيأتي في قصة الثلاثة الذين ابتلاهم الله من بني إسرائيل الأبرص والأقرع والأعمى ،
وأن الملك تشكل لهم بصورة بشر .وقد خاض بعض أهل العلم في كيفية تشكل الملائكة بنظرة عقلية مجردة ،
فجاؤوا بكلام غث ، وما كان أغناهم عن الخوض في هذا المبحث الغيبي ، فالله أعلمنا بتشكلهم ،
ولم يعلمنا بكيفية ذلك ، وكان يسع هؤلاء ما وسع رسول الله وأصحابه من بعده ،
فيقفوا حيث وقفوا ، وإن شئت أن ترى شيئاً من كلام من تكلم في هذا الموضوع ،
فارجع إلى كتاب السيوطي : ( الحبائك في أخبار الملائك ) (5) .
2- عظم سرعتهم :
أعظم سرعة يعرفها البشر هي سرعة الضوء ، فهو ينطلق بسرعة (186) ألف ميل في الثانية الواحدة .
أمّا سرعة الملائكة فهي فوق ذلك ، وهي سرعة لا تقاس بمقاييس البشر ،
كان السائل يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يكاد يفرغ من سؤاله
حتى يأتيه جبريل بالجواب من ربّ العزة سبحانه وتعالى ، واليوم لو وُجدت المراكب التي تسير بسرعة الضوء ،
فإنها تحتاج إلى ( مليار ) سنة ضوئية حتى تبلغ بعض الكواكب الموجودة في آفاق
هذا الكون الواسع الشاسع .
3- علمهم :
والملائكة عندهم علم وفير علّمهم الله إيّاه ، ولكن ليس عندهم القدرة التي أعطيت للإنسان في التعرف على الأشياء :
( وعلَّم آدم الأسماء كلها ثُمَّ عرضهم على الملائكة فقال أَنبِئُونِي بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين –
قالوا سبحانك لا علم لنا إلاَّ ما علَّمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم ) [ البقرة : 31-32 ] .
فالإنسان يتميز بالقدرة على التعرف على الأشياء ، واكتشاف سنن الكون ،
والملائكة يعلمون ذلك بالتلقي المباشر عن الله سبحانه وتعالى .
ولكنّ الذي علمهم الله إياه أكثر مما يعرفه الإنسان ، ومن العلم الذي أعطوه علم الكتابة :
( وإنَّ عليكم لحافظين – كراماً كاتبين – يعلمون ما تفعلون )
[ الانفطار : 10-12 ] .
وسيأتي إيضاح هذا في مبحث ( الملائكة والإنسان ) .
اختصام الملأ الأعلى :
والملائكة تتحاور فيما بينها فيما خفي عليها من وحي ربها ، ففي سنن الترمذي ،
ومسند أحمد عن ابن عباس : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
( أتاني الليلة ربي – تبارك وتعالى – في أحسن صورة – قال : أحسبه قال :
في المنام – فقال : يا محمد ، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قال : قلت : لا .
قال : فوضع يده بين كتفيّ ، حتى وجدت بردها بين ثدييّ ، فعلمت ما في السماوات ،
وما في الأرض .فقال : يا محمد ! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟
قلت : نعم ، في الكفارات والدرجات ، والكفارات : المكث في المساجد بعد الصلاة ،
والمشي على الأقدام إلى الجماعات ، وإسباغ الوضوء في المكاره ، والدرجات : إفشاء السلام ،
وإطعام الطعام ، والصلاة بالليل والناس نيام .
قال : صدقت ، ومن فعل ذلك عاش بخير ، ومات بخير ، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه .
وقال : يا محمد ، إذا صليت فقل : اللهم إني أسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ،
وحبّ المساكين ، وأن تغفر لي ، وترحمني ، وتتوب عليّ ، وإذا أردت بعبادك فتنة ،
فاقبضني إليك غير مفتون ) (6) .
قال ابن كثير في هذا الحديث بعد ذكره له :
" هذا حديث المنام المشهور ، ومن جعله يقظة فقد غلط ، وهو في السنن من طرق ،
وهذا الحديث رواه الترمذي من حديث جهضم بن عبد الله اليمامي به .
وقال الحسن : صحيح ، وليس هذا الاختصام هو الاختصام المذكور في القرآن في قوله :
( ما كان لي علم بالملإ الْأَعْلَى إذ يختصمون – إن يُوحَى إليَّ إلاَّ أنَّما أنا نذيرٌ مُّبين)
[ ص : 69-70 ] .
فإن الاختصام المذكور في الحديث ، قد فسره الرسول صلى الله عليه وسلم .
والاختصام المذكور في القرآن فسرته الآيات بعده :
( إذ قال ربُّك للملائكة إني خالق بشراً من طينٍ – فإذا سوَّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين –
فسجد الملائكة كلُّهم أجمعون – إلاَّ إبليس استكبر وكان من الكافرين )
[ ص : 71-74 ] .
فالاختصام المذكور في القرآن كان في شأن آدم – عليه السلام –
وامتناع إبليس من السجود له ، ومحاجته ربّه في تفضيله عليه " (7) .
4- منظمون في كل شؤونهم :
الملائكة منظمون في عبادتهم ، وقد حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على
الاقتداء
بهم في ذلك فقال : ( ألا تصفّون ما تصفّ الملائكة عند ربها ) ؟
قالوا : يا رسول الله ، وكيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال :
( يتمون الصفوف ، ويتراصون في الصف ) (8) .
وفي يوم القيامة يأتون صفوفاً منتظمة : ( وجاء ربُّك والملك صفّاً صفّاً ) [ الفجر : 22 ] ،
ويقفون صفوفاً بين يدي الله تعالى : ( يوم يقوم الرُّوح والملائكة صفّاً لا يتكلَّمون إلاَّ من
أذن له الرَّحمن وقال صواباً ) [ النبأ : 38 ] ، والروح : جبريل .
وانظر إلى دقة تنفيذهم للأوامر ، ففي صحيح مسلم ، ومسند أحمد عن أنس رضي الله عنه :
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( آتي باب الجنة فأستفتح ، فيقول الخازن :
من أنت ؟ فأقول : محمد ، فيقول : بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك ) (9) .
ويمكن أن نلاحظ دقة تنفيذهم للأوامر من استعراض حديث الإسراء ؛
إذ كان جبريل يستأذن في كل سماء ، ولا يُفْتَحُ له إلا بعد الاستفسار .
5- عصمة الملائكة :
نقل السيوطي عن القاضي عياض : أن المسلمين أجمعوا على أن الملائكة مؤمنون فضلاء ،
واتفق أئمة المسلمين أن حكم المرسلين منهم حكم النبيين سواء في العصمة مما ذكرنا عصمتهم منه ،
وأنهم في حقوق الأنبياء والتبليغ إليهم كالأنبياء مع الأمم .
واختلفوا في غير المرسلين منهم ، فذهب طائفة إلى عصمتهم جميعاً عن المعاصي ،
واحتجوا بقوله تعالى : ( يا أيها الَّذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها النَّاس والحجارة عليها
ملائكة غلاظٌ شدادٌ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) [التحريم : 6] ،
وبقوله : ( وما منَّا إلاَّ له مقامٌ معلومٌ – وإنَّا لنحن الصَّادقون – وإنَّا لنحن المسبحون )
[ الصافات : 164-166 ] ،
وبقوله : ( ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ) الآية [ الأنبياء : 19 ] ،
وقوله : ( كرام بررةٍ ) [عبس : 16]،
وقوله : ( لاَّ يمسُّه إلاَّ المطهَّرون ) [ الواقعة : 79 ]
ونحوه من السمعيات .
وذهبت طائفة إلى أن هذا خصوص للمرسلين منهم والمقربين ، واحتجوا بقصة هاروت وماروت وقصة إبليس ،
والصواب عصمتهم جميعاً وتنزيه جنابهم الرفيع عن جميع ما يحط من رتبهم وينزلهم عن جليل مقدارهم .
قال : والجواب عن قصة هاروت وماروت أنها لم يرو فيها شيء لا سقيم
ولا صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن قصة إبليس أن الأكثر ينفون
أنه من الملائكة ويقولون : إنه أبو الجن ،كما أن آدم أبو البشر ، انتهى " (10) .
وتعرض لهذه المسألة الصفوي الأرموي فما نقله عنه السيوطي فقال :
" الملائكة معصومون ، والدليل عليه من وجوه :
أحدهما : قوله تعالى في وصفهم : ( ويفعلون ما يؤمرون ) [ التحريم : 6 ]
وقوله تعالى : ( وهم بأمره يعملون ) [ الأنبياء : 27 ] وهما يتناولان فعل المأمورات وترك المنهيات ؛
لأن النهي أمر بالترك ، ولأنه سيق في معرض التمدح ، وهو إنما يحصل بمجموعها .
وثانيها : قوله تعالى : ( يسبحون اللَّيل والنَّهار لا يفترون ) [ الأنبياء : 20 ] ،
وهو يفيد المبالغة التامة في الاشتغال بالعبادة ، وهو يفيد المطلوب .
وثالثهما : الملائكة رسل الله لقوله تعالى : ( جاعل الملائكة رسلاً ) [فاطر :1]
والرسل معصومون ؛ لأنه قال في تعظيمهم : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [الأنعام : 124] ،
وهو يفيد المبالغة التامة في التعظيم " (11) .
--------------------------------
(1) البداية والنهاية : 1/43 .
(2) رواه مسلم : 1/37 . ورقمه : 8 . ورواه البخاري عن أبي هريرة : 1/114 .
ورقمه : 49 . واللفظ لمسلم .
(3) أخرجه أحمد في مسنده ، وابن سعد في الطبقات ، بإسناد حسن .
وحديث إقراء جبريل عائشة السلام من غير رؤيتها له ، رواه البخاري في صحيحه : 6/305 .
ورقمه : 3217 . ورواه أيضاً : 7/106 . ورقمه : 3768 .
(4) صحيح مسلم : 4/2118 . ورقمه : 2766 .
(5) ص : 261 .
(6) صحيح سنن الترمذي : 3/9 . ورقمه: 2580 ، 2581 .
(7) راجع تفسير ابن كثير : 6/73-74 .
(8) رواه مسلم : 1/322 . ورقمه : 430 .
(9) صحيح مسلم : 1/188 . ورقمه : 197 .
(10) الحبائك في أخبار الملائك ، للسيوطي : ص252 .
(11) الحبائك في أخبار الملائك : ص253 .
أسالكم الدعاء لأخى الحبيب بالرحمة والمغفرة
حيث توفاه الله تعالى يوم الإثنين 27/10/2014
الموافق 3 محرم 1436 هجرية
|