شبهات وردود :.
الشبهة الأولى
كثرة رواياته
يرى البعض أن كثرة رواياته مع قصر مدة صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يدعو إلى الشك في صحتها، ويجاب على هذه الشبهة من وجوه:
- أن كثرة روايات كثرة نسبية وليست كثرة مطلقة إذ أنه أكثر من روي عنه من الصحابة رضي الله عنهم، لا أكثر من يحفظ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما يؤكد هذا اعترافه رضي الله عنه بأن ما كان عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما من حديث أكثر مما كان عنده، لأن عبد الله كما قال: كان يكتب، وهو لا يكتب، وهذا ما أفصح عنه الإمام أبو بكر بن خزيمة بقوله: كان من أكثر أصحابه عنه رواية فيما انتشر من رواياته وروايات غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مخارج صحاح.
وإن عدم كثرة الرواية عمن عداه ممن طالت صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر نسبي، ويرجع بعض أسبابها إلى وفاة بعضهم المبكرة، إذا أن منهم من توفي، في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من توفي بعد وفاته بقليل، كما أن منهم من كان مقلاً للرواية لا يحدث إلا إذا سئل، وكان من هؤلاء الخلفاء الراشدون، وأبيه بن كعب، وابن مسعود، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم رضي الله عنهم.
- إن قصر صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم قصر نسبي: أي بالنسبة لمن طالت صحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، كالعشرة المبشرين بالجنة، وغيرهم من السابقين الأولين من الصحابة رضي الله عنهم، وإلا فإنها في الواقع ليست قصيرة كما يتوهم، إذ زادت على أربع سنين كما تقدم
وهي مدة كافية لجمعه ما جمع، وروايته ما روى من أحاديث، علماً أنه قد لازم فيها النبي صلى الله عليه وسلم ملازمة تامة، حضراً وسفراً، يدور معه حيث دار، تفرغ فيها للعلم والتحصيل، لا يشغله عنهما شاغل من تجارة، أو زراعة، أو أعباء عائلية أو غير ذلك، وهي ملازمة لم تتيسر لكثير ممن كانت صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أطول من صحبته له، لانشغالهم بأمور الحياة الضرورية، روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أنه قال: ليس كلما سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت لنا ضيعة وأشغال، ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ فيحدث الشاهد الغائب.
وروي أنه جاء رجل إلى طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، فقال: يا أبا محمد، والله ما ندري هذا اليماني أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم أم أنتم؟ تقوّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، يعني أبا هريرة، فقال: طلحة: والله ما يشك أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قوماً أغنياء، لنا بيوت وأهلون، كنا نأتي نبي الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، ثم نرجع
كما كانوا مشغولين أيضاً بأمور الدعوة، والقيام بالمهمات التي كان يكلفهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، كالخروج في السرايا والغزوات، وتبليغ العلم، ونقل الكتب إلى الملوك والأمراء المجاورين للجزيرة العربية، وما تتطلبه مثل هذه المهمات من سفر وغياب عن مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يدوم غيابهم أياماً أو أشهراً.
كما أن منهم من لم يكن يساكن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، حتى يتسنى له لقاؤه متى شاء، أو في الوقت الذي تمسح له ظروفه اللقاء به.
لهذه الأسباب وغيره لم تتيسر الملازمة التامة لكثير ممن طالت صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تيسرت لأبي هريرة رضي الله عنه، ويشهد لذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحفظنا لحديثه.
- حرصه على العلم والتحصيل ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالحفظ، كان أبو هريرة رضي الله عنه مهتماً بالعلم، حريصاً على التعلم، شهد له بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قلت : يا نبي الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: "لقد ظننت أن يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث".
وقد دعا لأبي هريرة بالحفظ وعدم النسيان، حيث أمن على دعائه بذلك. فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: فإني بينما أنا جالس وأبو هريرة، وفلان في المسجد ذات يوم ندعوا الله ونذكره، إذ خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جلس إلينا، فسكتنا، فقال: عودوا للذي كنتم فيه، قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائنا ثم دعا أبو هريرة، فقال: اللهم إني أسألك ما سألك صاحباي، وأسألك علماً لا ينسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آمين" فقلنا: يا رسول الله، ونحن نسأل الله علماً لا ينسى، فقال: "سبقكما بها الدوسي"
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رجل لابن عمر: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عمر: أعيذك بالله أن تكون في شك مما يجئ به، ولكنه اجترأ وجبنا.
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان أبو هريرة جريئاً على النبي صلى الله عليه وسلم، يسأله عن أشياء لا نسأله عنها.
- تأخر وفاته وحاجة الناس إلى علمه، وكثرة الرواة عنه: كان أبو هريرة رضي الله عنه من القلائل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين امتد بهم العمر إلى ما بعد سنة خمسين من الهجرة، واحتاج الناس إلى علمهم والرجوع إليهم فيما أشكل عليهم من أمور، ولما كان من أكثر الصحابة حفظاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمعاً له، واستعداداً لبذله، كان حرياً أن يقبل عليه طلاب العلم وعشاق المعرفة، وحماة الدين من صحابة وتابعين رضي الله عنهم، حيث روى عنه نحو ثمانية وعشرين من كبار الصحابة وصغارهم، كزيد بن ثابت، وأبي أيوب الأنصاري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعائشة، وغيرهم رضي الله عنهم، كما روى عنه وتتلمذ عليه مئات من التابعين، رضي الله عنهم
- تعدد طرق رواياته: لقد أسهم طرق بعض رواياته إلى حد ما في زيادة عدد ما نسب إليه من روايات، ومن يطلع على رواياته في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، التي بلغ عددها بشرح الشيخ: أحمد محمد شاكر رحمه الله (3848) رواية يرى أن ما يقرب من ثلثها قد تكررت روايتها فيه، لزيادة راو أو تغير صيغة أداء في السند، أو زيادة لفظ في المتن، فأدى ذلك إلى عد الرواية الواحدة في الواقع: روايتين أو أكثر حسب عدد تكررها، وهذا ما فعله المرقمون لمسند أحمد، وهم معذورون في ذلك، لأسباب فنية حديثة معروفة لدى أهل هذا العلم
- مشاركة كثير من الصحابة له فيما روى من روايات:
إن من يطلع على كتب الحديث المعتمدة والمتداولة اليوم بين المسلمين، ويتتبع فيها روايات أبي هريرة رضي الله عنه، يجد أن أكثرها قد شاركه في روايتها صحابي أو أكثر، ولا سيما التي كانت مثار اعتراض أو طعن من قبل أهل الأهواء والبدع، وغيرهم ممن لا خبرة لهم بما تصح به الأحاديث، وما لا تصح.