|
وسام الشرف
|
بيانات اضافيه [
+
]
|
|
رقم باحث : 8176
|
|
تاريخ التسجيل : Jan 2010
|
|
أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
|
|
المشاركات :
1,109 [
+
] |
|
التقييم : 10
|
|
|
لوني المفضل : Cadetblue
|
|
ويعظم نظر المخلوق إليه وإطلاعه عليه بكل قلبه وجوارحه, ويستحيى من الناس ولا يستحيى من الله, ويخشى الناس ولا يخشى الله, ويعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه, وإن عامل الله عامله بأهون ما عنده وأحقره, وإن قام في خدمة من يحبه من البشر قام بالجد والاجتهاد وبذل النصيحة, وقد افرغ له قلبه وجوارحه, وقدمه على كثير من مصالحه, حتى إذا قام في حق ربه -إن ساعد القدر- قام قياما لا يرضاه مخلوق من مخلوق مثله, وبذل له ما يستحي أن يواجه به مخلوق لمثله, فهل قدر الله حق قدره من هذا وصفه؟
ص -168- وهل قدره حق قدره من شارك بينه وبين عدوه في محض حقه من الإجلال والتعظيم والطاعة والذل والخضوع والخوف والرجاء؟ فلو جعل له من أقرب الخلق إليه شريكا في ذلك لكان ذلك جراءة وتوثبا على محض حقه, واستهانة به وتشريكا بينه وبين غيره فيما لا ينبغي ولا يصلح إلاّ له سبحانه فكيف وإنما أشرك معه أبغض الخلق إليه, وأهونهم عليه, وأمقتهم عنده, وهو عدوه على الحقيقة؟ فإنه ما عبد من دون الله إلاّ الشيطان, كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ولما عبد المشركون الملائكة بزعمهم وقعت عبادتهم للشيطان, وهم يظنون أنهم يعبدون الملائكة, كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} فالشيطان يدعو المشركين إلى عبادته, ويوهمهم أنه ملك, كذلك عباد الشمس والقمر والكواكب يزعمون إنهم يعبدون روحانيات هذه الكواكب. وهي التى تخاطبهم, وتقضي لهم الحوائج, ولهذا إذا طلعت الشمس قارنها الشيطان فيسجد لها الكفار, فيقع سجودهم له, وكذلك عند غروبها, وكذلك من عبد المسيح وأمه لم يعبدهما وإنما عبد الشيطان, فإنه يزعم أنه يعبد من أمره بعبادته وعبادة أمه, ورضيها لهم وأمرهم بها, وهذا هو الشيطان الرجيم, لا عبد الله ورسوله, فنزل هذا كله على قوله تعالى {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} فما عبد أحد من بني آدم غير الله كائنا من كان إلاّ وقعت عبادته للشيطان فيستمتع العابد
ص -169- بالمعبود في حصول غرضه, ولهذا قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الأِنْسِ} أي من إغوائهم وإضلالهم وقال أوليائهم من الإنس {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.
فهذه إشارة لطيفة إلى السر الذي لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله, وأنه لا يغفره بغير التوبة منه, وإنه يوجب الخلود في العذاب, وأنه ليس تحريمه وقبحه لمجرد النهى عنه, بل يستحيل على الله سبحانه أن يشرع لعباده إلها غيره, كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كمال ونعوت جلاله, وكيف يظن بالمنفرد بالربوبية والإلهية والعظمة والجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك, أو يرضي به؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
فصل:
فلما كان الشرك أكبر شيء منافاة للأمر الذي خلق الله له الخلق, أمر لأجله بالأمر, الذي كان من أكبر الكبائر عند الله, وكذلك الكبر وتوابعه كما تقدم, فإن الله سبحانه خلق الخلق, وأنزل الكتاب, لتكون الطاعة له وحده, والشرك والكبر ينافيان ذلك, وكذلك حرم الله الجنة على أهل الشرك والكبر ولا يدخلها من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.
فصل:
ويلي ذلك في كبر المفسدة: القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله. ووصفه بضد ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا أشد شيء منافاة ومناقضة لكمال من له الخلق والأمر, وقدح في نفس الربوبية وخصائص الرب, فإن صدر ذلك عن علم فهو عناد أقبح من الشرك وأعظم إثماً
ص -170- عند الله فإن المشرك المقر بصفات الرب خير من المعطل الجاحد لصفات كماله! كما أن أقر للملك بالملك, ولم يجحد ملكه ولا الصفات التي استحق بها الملك, لكن جعل معه شريكا في بعض الأمور تقربا إليه, خير ممن جحد صفات الملك, وما يكون به ملكا, هذا أمر مستقر في سائر الفطر والعقول.
فأين القدح في صفات الكمال والجحد لها من عبادة واسطة بين المعبود الحق وبين العابد يتقرب إليه بعبادة تلك الواسطة إعظاما له وإجلالا؟.
فداء التعطيل هذا الداء العضال الذي لا دواء له. ولهذا حكى الله عن إمام المعطلة فرعون أنه أنكر على موسى ما أخبر به من أن ربه فوق السموات, فقال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً}. واحتج الشيخ وأبو الحسن الأشعري في كتبه على المعطلة بهذه الآية. وقد ذكرنا لفظه في غير هذا الكتاب, والقول على الله بلا علم والشرك متلازمان. ولما كانت البدع المضلة جهلا بصفات الله وتكذيبا بما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم عنادا وجهلا كانت من أكبر الكبائر, أن قصرت عن الكفر, وكانت أحب إلى إبليس من كبار الذنوب, كما قال: بعض السلف"البدعة أحب إلي إبليس من المعصية"لان المعصية يتاب منها والبدعة لايتاب منها وقال إبليس لعنه الله"أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلاّ الله, فلما رأيت ذلك ثبتت فيهم الأهواء, فهم يذنبون ولا يتوبون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا".
ومعلوم أن المذنب إنما ضرره على نفسه وأما المبتدع فضرره على النوع, وفتنة المبتدع في أصل الدين, وفتنة المذنب في الشهوة, والمبتدع قد قعد للناس
ص -171- على صراط الله المستقيم يصدهم عنه, والمذنب ليس كذلك. والمبتدع قادح في أوصاف الرب وكماله, والمذنب ليس كذلك, والمبتدع يقطع على الناس طريق الآخرة, والعاصي بطيء السير بسبب ذنوبه.
فصل:
ثم لما كان الظلم والعدوان منافيان للعدل الذي قامت به السموات والأرض, وأرسل الله سبحانه رسله صلى الله عليه وسلم وأنزل كتبه ليقوم الناس به كان من أكبر الكبائر عند الله, وكانت درجته في العظمة بحسب مفسدته في نفسه, وكان قتل الإنسان ولده الطفل الصغير الذي لا ذنب له -وقد جبل الله سبحانه القلوب على محبته ورحمته وعطفها عليهم, وخص الوالدين من ذلك بمزية ظاهرة وقتله خشية أن يشاركه في مطعمه ومشربه وماله- من أقبح الظلم وأشده وكذلك قتله أبويه الذين كانا سبب وجوده, وكذلك قتله ذا رحمه, وتتفاوت درجات القتل بحسب قبحه وإستحقاق من قتله السعي في إبقائه ونصيحته, ولهذا كان أشد الناس عذابا يوم القيامة نبيا من قتل النبي أو قتله نبي ويليه من قتل إماما أو عالما يأمر الناس بالقسط, ويدعوهم إلى الله سبحانه, وينصحهم في دينهم, وقد جعل الله سبحانه جزاء قتل النفس المؤمنة عمدا الخلود في النار, وغضب الجبار, ولعنته وإعداد العذاب العظيم له, هذا موجب من قتل المؤمن عمدا ما لم يمنع منه مانع. ولا خلاف أن الإسلام الواقع بعد القتل طوعا واختيارا مانع من نفوذ ذلك الجزاء وهل تمنع توبة المسلم منه بعد وقوعه؟ فيه قولان للسلف والخلف, وهما روايتان عن أحمد.
والذين قالوا لا تمنع التوبة من نفوذه رأوا أنه حق لآدمي لم يستوفه في دار الدنيا, وخرج منه بظلامته, فلا بد أن يستوفى له في دار العدل.
قالوا: وما استوفاه الوارث فإنما استوفى محض حقه الذي خيره الله بين
ص -172- استيفائه والعفو عنه, وما ينفع المقتول من استيفاء وارثه؟ وأي استدراك لظلامته حصل له باستيفاء وارثه؟.
وهذا أصح القولين في المسألة أن حق المقتول لا يسقط باستيفاء الوارث, وهما وجهان لأصحاب أحمد و الشافعي وغيرهما.
ورأت طائفة أنه يسقط بالتوبة واستيفاء الوارث, فإن التوبة تهدم ما قبلها, والذنب الذي قد جناه قد أقيم عليه حده.
قالوا: وإذا كانت التوبة تمحو أثر الكفر والسحر, وهما أعظم إثماً من القتل, فكيف تقصر عن محو أثر القتلة؟ وقد قبل الله توبة الكفار الذين قتلوا أولياءه, وجعلهم من خيار عباده, ودعا الذين أحرقوا أولياءه وفتنوهم عن دينهم ودعاهم إلى التوبة. وقال تعالي {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} فهذه في حق التائب وهي تتناول الكفر فما دونه.
قالوا: وكيف يتوب العبد من الذنب ويعاقب عليه بعد التوبة؟ هذا معلوم انتفاؤه في شرع الله وجزائه.
قالوا: وتوبة هذا المذنب تسليم نفسه ولا يمكن تسليمها إلى المقتول فأقام الشارع وليه مقامه, وجعل تسليم النفس إليه كتسليمها إلى المقتول, بمنزلة تسليم المال الذي عليه لوارثه, فانه يقوم مقام تسليمه للموروث.
والتحقيق في المسألة: أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله وحق للمظلوم المقتول, وحق للولى, فإذا سلم القاتل نفسه طوعا واختيارا إلى الولي ما فعل, وخوفا من الله وتوبة نصوحا, يسقط حق الله بالتوبة, وحق الولي بالاستيفاء أو الصلح أو العفو. وبقى حق المقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن, ويصلح بينه وبينه, فلا يبطل حق هذا ولا تبطل توبة هذا.
ص -173- وأما مسألة المال فقد اختلف فيها, فقالت طائفة: إذا أدي ما عليه من المال إلى الوارث فقد بريء من عهدته في الآخرة, كما بريء منها في الدنيا.
وقالت طائفة بل المطالبة لمن ظلمه بأخذه باقية عليه يوم القيامة, وهو لم يستدرك ظلامته بأخذ وارثه له, فأنه منعه من انتفاعه به في طول حياته, ومات ولم ينتفع به. فهذا ظلم لم يستدركه, وإنما ينتفع به غيره باستدراكه, وبنوا على هذا أنه لو انتقل من واحد إلي واحد وتعدد الورثة. كانت المطالبة به للجميع, لأنه حق كان يجب عليه دفعه إلى كل واحد منهم عند كونه هو الوارث وهذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد.
وفصل شيخنا رحمه الله بين الطائفتين, فقال: أن تمكن الموروث من أخذ ماله أو المطالبة به فلم يأخذه حتى مات, صارت المطالبة به للوارث في الآخرة, كما هي له كذلك في الدنيا, وإن لم يتمكن من طلبه وأخذه, بل حال بينه وبينه ظلما وعدوانا, فالطلب له في الآخرة.
وهذا التفصيل من أحسن ما يقال, فإن المال إذا استهلكه الظالم على الموروث وتعذر عليه أخذه منه صار بمنزلة عبده الذي قتله قاتل, وداره التي أحرقها غيره, وطعامه وشرابه الذي أكله وشربه غيره, ومثل هذا إنما تلف على الموروث لا على الوارث, فحق المطالبة لمن تلف على ملكه, فيبقى أن يقال فإذا كان المال عقارا أو أرضا أو أعيانا قائمة باقية بعد الموت, فهي ملك للوارث يجب على الغاصب دفعها إليه كل وقت, وإذا لم تدفع إليه استحق المطالبة بها عند الله تعالى كما يستحق المطالبة بها في الدنيا.
وهذا سؤال قوى لا مخلص منه إلاّ بان يقال: المطالبة لهما جمعيا, كما لو غصب مالا مشتركا بين جماعة استحق كل منهم المطالبة بحقه منه, وكما لو استولى على وقف مرتب على بطون فأبطل حق البطون كلهم منه كانت المطالبة يوم القيامة لجميعهم ولم يكن بعضهم أولى بها من بعض, والله أعلم.
ص -174- فصل:
|