04 Apr 2010, 02:40 AM
|
#11
|
|
وسام الشرف
|
بيانات اضافيه [
+
]
|
|
رقم باحث : 8176
|
|
تاريخ التسجيل : Jan 2010
|
|
أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
|
|
المشاركات :
1,109 [
+
] |
|
التقييم : 10
|
|
|
لوني المفضل : Cadetblue
|
|
ولا تجد أحدا ملابس شيئا من ذلك إلا ويعلوه من الوحشة بحسب ما لابسه منه فتعلو الوحشة وجهه وقلبه فيستوحش ويستوحش منه.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه فلا يزال مريضا معلولا لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان بل الذنوب أمراض القلوب وداؤها ولا دواء لها إلا تركها وقد أجمع السائرون إلى الله أن القلوب لا تعطي مناها حتى تصل إلى مولاها ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة ولا تكون صحيحة سليمة حتى ينقلب داؤها فيصير نفس دوائها ولا يصح لها ذلك إلا بمخالفة هواها فهواها مرضها وشفاؤها مخالفته فإن استحكم المرض قتل أو كاد وكما أن من نهى نفسه عن الهوى كانت الجنة مأواه كذلك يكون قلبه في هذه الدار في جنة عاجلة لا يشبه نعيم أهلها نعيما البتة بل التفاوت الذي بين النعيمين كالتفاوت الذي بين نعيم الدنيا والآخرة وهذا أمر لا يصدق به إلا من باشر قلبه هذا وهذا ولا تحسب أن قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط بل في دورهم الثلاثة هم كذلك أعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار فهؤلاء في نعيم وهؤلاء في جحيم وهل النعيم إلا نعيم القلب؟ وهل العذاب إلا عذاب القلب؟ وأي عذاب أشد من الخوف والهم والحزن وضيق الصدر وإعراضه عن الله والدار الآخرة وتعلقه بغير الله
ص -89- وانقطاعه عن الله بكل واد منه شعبة؟ وكل من تعلق به وأحبه من دون الله فإنه يسومه سوء العذاب فكل من أحب شيئا غير الله عذب به ثلاث مرات في هذه الدار فهو يعذب به قبل حصوله حتى يحصل فإذا حصل عذب به حال حصوله بالخوف من سلبه وفواته والتنغيض والتنكيد عليه وأنواع من العذاب في هذه المعارضات فإذا سلبه اشتد عليه عذابه فهذه ثلاثة أنواع من العذاب في هذه الدار
وأما في البرزخ: فعذاب يقارنه ألم الفراق الذي لا يرجو عوده وألم فوات ما فاته من النعيم العظيم باشتغاله بضده وألم الحجاب عن الله وألم الحسرة التي تقطع الأكباد فالهم والغم والحسرة والحزن تعمل في نفوسهم نظير ما تعمل الهوام والديدان في أبدانهم بل عملها في النفوس دائم مستمر حتى يردها الله إلى أجسادها فحينئذ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمر فأين هذا من نعيم من يرقص قلبه طربا وفرحا وأنسا بربه واشتياقا إليه وارتياحا بحبه وطمأنينة بذكره؟ حتى يقول بعضهم في حال نزعه: واطرباه ويقول الآخر: إن كان أهل الجنة في مثل هذا الحال إنهم لفي عيش طيب ويقول الآخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا لذيذ العيش فيها وما ذاقوا أطيب ما فيها ويقول الآخر: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ويقول الآخر: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة فيا من باع حظه الغالي بأبخس الثمن وغبن كل الغبن في هذا العقد وهو يرى أنه قد غبن إذا لم يكن لك خبرة بقيمة السلعة فسل المقوِّمين.
فيا عجبا من بضاعة معك الله مشتريها وثمنها جنة المأوى والسفير الذي جرى على يديه عقد التبايع وضمن الثمن عن المشتري هو الرسول صلى الله عليه وسلم وقد بعتها بغاية الهوان كما قيل:
ص -90- إذا كان هذا فعل عبد نفسه فمن ذا له من بعده ذلك يكرم
{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تعمي بصيرة القلب وتطمس نوره وتسد طرق العلم وتحجب مواد الهداية
وقد قال مالك للشافعي رحمهما الله تعالى لما اجتمع به ورأى تلك المخايل إني أرى الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمه المعصية
ولا يزال هذا النور يضعف ويضمحل وظلام المعصية يقوى حتى يصير القلب في مثل الليل البهيم فكم من مهلك يسقط فيه وهو لا يبصره كأعمى خرج بالليل في طريق ذات مهالك ومعاطب فيا عزة السلامة ويا سرة العطب ثم تقوى تلك الظلمات وتفيض من القلب إلى الجوارح فيغشى الوجه منها سواد بحسب قوتها وتزايدها فإذا كان عند الموت ظهرت في البرزخ فامتلأ القبر ظلمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذه القبور ممتلئة على أهلها ظلمة وإن الله منورها بصلاتي عليهم" فإذا كان يوم المعاد وحشر العباد علت الظلمة الوجوه علوا ظاهرا يراه كل أحد حتى يصير الوجه أسود مثل الحممه فيا لها من عقوبة لا توازن لذات الدنيا بأجمعها من أولها إلى آخرها فكيف يقسط العبد المنغص المنكد المتعب في زمن؟ إنما هو ساعة من حلم! والله المستعان.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تصغر النفس وتقمعها وتدسيها وتحقرها حتى تكون
ص -91- أصغر كل شيء وأحقره كما أن الطاعة تنميها وتزكيها وتكبرها قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} والمعنى: قد أفلح من كبرها وأعلاها بطاعة الله وأظهرها وقد خسر من أخفاها وحقرها وصغرها بمعصية الله
وأصل التدسية: الإخفاء ومنه قوله تعالى: {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} فالعاصي يدس نفسه في المعصية ويخفي مكانها يتوارى من الخلق من سوء ما يأتي به قد انقمع عند نفسه وانقمع عند الله وانقمع عند الخلق فالطاعة والبر تكبر النفس وتعزها وتعليها حتى تصير أشرف شيء وأكبره وأزكاه وأعلاه ومع ذلك فهي أذل شيء وأحقره وأصغره لله تعالى وبهذا الذل حصل لها هذا العز والشرف والنمو فما صغر النفس مثل معصية الله وما كبرها وشرفها ورفعها مثل طاعة الله.
فصل:
ومن عقوباتها: أن العاصي دائما في أسر شيطانه وسجن شهواته وقيود هواه فهو أسير مسجون مقيد ولا أسير أسوء حالا من أسير أسره أعدى عدو له ولا سجن أضيق من سجن الهوى ولا قيد أصعب من قيد الشهوة فكيف يسير إلى الله والدار الآخرة قلب مأسور مسجون مقيد؟ وكيف يخطو خطوة واحدة؟ وإذا قيد القلب طرقته الآفات من كل جانب بحسب قيوده ومثل القلب مثل الطائر كلما علا بعد عن الآفات وكلما نزل احتوشته الآفات وفي الحديث: "الشيطان ذئب الإنسان" وكما أن الشاة التي لا حافظ لها وهي بين الذئاب سريعة العطب فكذا العبد إذا لم يكن عليه حافظ من الله فذئبه مفترسه ولا بد وإنما يكون عليه حافظ من الله بالتقوى فهي وقاية وجنة حصينة بينه وبين ذئبه كما هي وقاية بينه وبين عقوبة الدنيا والآخرة وكلما كانت الشاة
ص -92- أقرب من الراعي كانت أسلم من الذئب وكلما بعدت عن الراعي كانت أقرب إلى الهلاك فأسلم ما تكون الشاة إذا قربت من الراعي وإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم وهي أبعد من الراعي
وأصل هذا كله: أن القلب كلما كان أبعد من الله كانت الآفات إليه أسرع وكلما كان أقرب من الله بعدت عنه الآفات والبعد من الله مراتب بعضها أشد من بعض فالغفلة تبعد القلب عن الله وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية وبعد النفاق والشرك أعظم من ذلك كله.
فصل:
ومن عقوباتها: سقط الجاه والمنزلة والكرامة عند الله وعند خلقه فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم وأقربهم منه منزلة أطوعهم له وعلى قدر طاعة العبد تكون له منزلة عنده فإذا عصاه وخالف أمره سقط من عينه فأسقطه من قلوب عباده وإذا لم يبق له جاه عند الخلق وهان عليهم عاملوه على حسب ذلك فعاش بينهم أسوء عيش خامل الذكر ساقط القدر زريَّ الحال لا حرمة له فلا فرح له ولا سرور فإن خمول الذكر وسقوط القدر والجاه جالب كل غم وهم وحزن ولا سرور معه ولا فرح وأين هذا الألم من لذة المعصية لولا سكر الشهوة؟ ومن أعظم نعم الله على العبد: أن يرفع له بين العالمين ذكره ويعلى قدره ولهذا خص أنبياءه ورسله من ذلك بما ليس لغيرهم كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} أي خصصناهم بخصيصة وهو الذكر الجميل الذي يذكرون به في هذه الدار وهو لسان الصدق الذي سأله إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}
ص -93- وقال سبحانه وتعالى عنه وعن نبيه: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} فاتباع الرسل لهم نصيب من ذلك بحسب ميراثهم من طاعتهم ومتابعتهم وكل من خالفهم فإنه من ذلك بحسب مخالفتهم ومعصيتهم.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف وتكسوه أسماء الذم والصغار فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن والمنقي والمطيع والمنيب والولي والورع والمصلح والعابد والخائف والأواب والطيب والرضي ونحوها وتكسوه اسم الفاجر والعاصي والمخالف والمسيء والمفسد والخبيث والمسخوط والزاني والسارق والقاتل والكاذب والخائن واللوطي والغادر وقاطع الرحم وأمثالها فهذه أسماء الفسوق و:{بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} الذي يوجب غضب الديان ودخول النيران وعيش الخزي والهوان وتلك أسماء توجب رضاء الرحمان ودخول الجنان وتوجب شرف المسمى بها على سائر أنواع الإنسان فلو لم يكن في عقوبة المعصية إلا استحقاق تلك الأسماء وموجباتها لكان في العقل ناه عنها ولو لم يكن في ثواب الطاعة إلا الفوز بتلك الأسماء وموجباتها لكان في العقل أمر بها ولكن لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع ولا مقرب لمن باعد ولا مبعد لمن قرب {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تؤثر بالخاصة في نقصان العقل فلا تجد عاقلين أحدهما مطيع لله والآخر عاص إلا وعقل المطيع منهما أوفر وأكمل وفكره أصح
ص -94- ورأيه أسد والصواب قرينه ولهذا تجد خطاب القرآن إنما هو مع أولي العقول والألباب كقوله تعالى: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إلا أُولُو الأَلْبَابِ} ونظائر ذلك كثيرة
وكيف يكون عاقلا وافر العقل من يعصي من هو في قبضته وفي داره وهو يعلم أنه يراه ويشاهده؟ فيعصيه وهو بعينه غير متوار عنه ويستعين بنعمه على مساخطه ويستدعي كل وقت غضبه عليه ولعنته له وإبعاده من قربه وطرده عن بابه وإعراضه عنه وخذلانه له والتخلية بينه وبين نفسه وعدوه وسقوطه من عينه وحرمانه روح رضاه وحيب وقرة العين بقربه والفوز بجواره والنظر إلى وجهه في زمرة أوليائه إلى أضعاف أضعاف ذلك من كرامة أهل الطاعة وأضعاف أضعاف ذلك من عقوبة أهل المعصية
فأي عقل لمن آثر لذة ساعة أو يوم أو دهر ثم تنقضي كأنها حلم لم يكن على هذا النعيم المقيم والفوز العظيم؟ بل هو سعادة الدنيا والآخرة ولولا العقل الذي تقوم عليه به الحجة لكان بمنزلة المجانين بل قد تكون المجانين أحسن حالا منه وأسلم عاقبة فهذا من هذا الوجه
وأما تأثيرها في نقصان العقل المعيش فلولا الاشتراك في هذا النقصان لظهر لمطيعنا نقصان عقل عاصينا ولكن الجائحة عامة والجنون فنون
ويا عجبا لو صحت العقول لعلمت أن طريق تحصيل اللذة والفرحة والسرور وطيب العيش إنما هو في رضاء من النعيم كله في رضاه والألم والعذاب كله في سخطه وغضبه ففي رضاه قرة العيون وسرور النفوس وحياة القلوب ولذة
|
|
|
|