والثاني : فسق الأعمال .
ولهذا كان السلف يقولون : احذروافتنة العالم الفاجر،والعابد الجاهل؛فإن
فتنتهما فتنة لكل مفتون .
الأصل الخامس :تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب
إنّ الأعمال لا تتفاضل بصُوَرِهَا وعَدَدِها ، وإنما تتفاضَلُ بتَفاضُلِ ما في
القُلوبِ ، فتكونُ صورةُ العملينِ واحدةً ، وبينَهما في التَّفاضُلِ كما بين
السماءِ والأرضِ ، والرَّجُلانِ يكون مَقامُهُما في الصَّفِّ واحداً ، وبين
صلاتَيْهِما كما بينَ السَّماءِ والأرضِ ، وذلكَ أنَّ أحدهما مقبلٌ على الله
عزوجل ، والآخر ساهٍ غافل ، فينصرف من صلاته مثلما دخل فيها بخطاياه
وذنوبه ، وأثقاله لمْ تخفَّ عنه بالصلاة ، فإنَّ الصلاة إنَّما تكفِّرُ سيئاتِ منْ
أدَّى حقَّها ، وأكملَ خشوعها ، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه .
وكلُّ قولٍ وفعلٍ رتَّبَ الشارع ما رتَّبَ عليه من الثوابِ، فإنّما هو القولُ التّامُّ
والفعل التامّ ، كقوله صلى الله عليه وسلم : » مَنْ قَالَ : سبحانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ في يَوْمٍ مِائة مَرَّةٍ ، حُطَّتْ عَنْهُ خَطاياهُ وَلَوْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ «18 .
وليسَ هذا مرتباً على مجرَّدِ قولِ اللَّسانِ ، نعم مَنْ قالها بلِسانِهِ ، غافِلاً عن
معناها ، مُعرِضاً عن تَدَبُّرِها ، وَلَمْ يُواطِئ قَلْبُهُ لسانَهُ ، ولا عَرَفَ قَدْرَها
وحَقيقَتَها ، راجياً معَ ذلك ثوابَها ، حَطَّتْ من خطاياهُ بِحَسَبِ ما في قَلْبِهِ ...
فالعمل الذي يكفِّرُ الذنوبَ تكفيراً كاملاً هو العمل الكامل ، وأمَّا عملٌ شملته
الغفلةُ ، أو لأكثرهِ ، وفقد الإخلاصَ الذي هو روحه ، ولمْ يقدِّرْهُ حقَّ قدْرهِ ؛
فأيُّ شيءٍ يكفِّرُ هذا ؟!
وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة ، وهما :
تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان .
وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه .
ومن لم يكن له فقه نفس في هذين الأمرين ومعرفة بهما، فإنه يفوته ربح
كبير وهو لا يشعر .
وتأمَّلْ هذا الذي نحَّى غصن الشوك عن الطريق ، فعله إذْ ذاك بإيمانٍ
خالص ، وإخلاص قائم بقلبه ، فغفر له بذلك ، وليس كلّ من نحّى غصن
شوكٍ عن الطريق يغفر له .
وانظر وقتَ أخذِكَ في القراءةِ إذا أعْرضْتَ عن واجبها وتدبُّرها وتعقُّلها ،
وفهم ما أريدَ بكلِّ آيةٍ ، وحظِّكَ من الخطابِ بها ، وتنزيلها على أدْواءِ قلبكَ
والتقيُّدِ بها ، كيفَ تدْرِكُ الخَتْمَةَ - أو أكثرها ، أو ما قرأتَ منها - بسهولةٍ
وخِفَّةٍ ، مستكثراً من القراءةِ ، فإذا ألزمتَ نفسكَ التدبُّرَ ومعرفةَ المراد ،
والنَّظرَ إلى ما يخُصُّكَ منه ، والتعبُّدَ بهِ ، وتنزيلَ دوائهِ على أدْواءِ قلبكَ ،
والاستشفاءَ به ، لمْ تكدْ تجوزُ السُّورةَ أو الآية إلى غيرها ، وكذلك إذا
جمعت قلبكَ كلَّهُ على ركعتينِ ، أعطيتَهُما ما تقدرُ عليه من الحضورِ ،
والخشوعِ والمراقبةِ ، لمْ تكدْ أنْ تصلِّي غيرهما إلاَّ بجهدٍ ، فإذا خلا القلب
من ذلك عددْتَ الرَّكعاتِ بلا حسابٍ .
فهكذا الأعمالُ والعُمّالُ عند اللهِ ، والغافِلُ في غَفْلَةٍ عن هذا ... ولا ريب أنّ
مجرد القيام بأعمال الجوارح ، منْ غير حضورٍ ولا مراقبةٍ ، ولا إقْبالٍ على
الله قليل المنْفعة ، دنيا وأُخْرى ، كثير المؤنةِ ، فإنَّهُ - وإنْ كثُرَ - متعبٌ غير
مفيدٍ .
وَلِمِثْلِ هذا المَعْنَى إنَّما وَقَعَ نَظَرُ أُولي الأَبْصَارِ مِنَ الْعُبَّادِ فِي مِثْلِ هذِهِ
الدَّقَائِقِ ، وَاهْتَمُّوا بإحسان العمل ، وَلَمْ تُغْنِهِمْ كَثْرَةُ الأَعْمَالِ بِالظَّاهِرِ ،
وجعلوا نصب أعْينهم قول الله تعالى:(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [ الملك: 2 ] .
وَأَمَّا الْذِينَ قَلَّ عِلْمُهُمْ ، وَكَلَّ في هذَا الْبَابِ نَظَرُهُمْ ، فَجَهِلُوا المَعَانِيَ ،
وَأَغْفَلُوا أعْمال الْقُلُوبِ، وَاشْتَغَلُوا بِإتْعَابِ النُّفُوس بالُّركُوعِ وَالسُّجوُدِ ،
وَالإِمْسَاكِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَنَحْوِهِ ، فَغَرَّهُمُ العَدَدُ وَالْكَثْرَةُ .وَمَا يُغْنِي
عَدَدُ الْجَوْزِ وَلاَ لبَّ فِيهَا ؟ وَمَا يَنْفَعُ رَفْعُ السُّقُوفِ وَلَمْ تُحْكَم مَبَانِيهَا ؟ وَمَا
يَعْقِلُ هذِهِ الْحَقَائِقَ إِلاَّ الْعَالِمُونَ بِاللَّهِ عزوجل ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى وَليُّ
الْهِدَايَةِ بِفَضْلِه .
وكفى بهذه الأُصولِ واعظاً لمن اتَّعَظَ.وما يعقلها إلاَّ كلُّ ذي فهمٍ مستقيم .