بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير وشرح الآية (16). من سورة الجن مقارنة من كتب التفاسير الجزء8
التفسير الكبير ج30 ص142
الجن : ) 16 ( وأن لو استقاموا . . . . .
هذا من جملة الموحى إليه والتقدير : قل أوحي إلي أنه استمع نفر وأن لو استقاموا فيكون هذا هو النوع الثاني مما أوحي إليه ، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : ) أن ( مخففة من الثقيلة والمعنى : وأوحي إليَّ أن الشأن والحديث لو استقاموا لكان كذا وكذا . قال الواحدي : وفصل لو بينها وبين الفعل كفصل لا والسين في / قوله : ) أَن لا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً ( و ) عَلِمَ أَن سَيَكُونُ ( .
المسألة الثانية : الضمير في قوله : ) اسْتَقَامُواْ ( إلى من يرجع ؟ فيه قولان : قال بعضهم : إلى الجن الذين تقدم ذكرهم ووصفهم ، أي هؤلاء القاسطون لو آمنا لفعلنا بهم كذا وكذا . وقال آخرون : بل المراد الإنس ، واحتجوا عليه بوجهين الأول : أن الترغيب بالانتفاع بالماء الغدق إنما يليق بالإنس لا بالجن والثاني : أن هذه الآية إنما نزلت بعدما حبس الله المطر عن أهل مكة سنين ، أقصى ما في الباب أنه لم يتقدم ذكر الإنس ، ولكنه لما كان ذلك معلوماً جرى مجرى قوله : ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ ( ) القدر : 1 ( وقال القاضي : الأقرب أن الكل يدخلون فيه . وأقول : يمكن أن يحتج لصحة قول القاضي بأنه تعالى لما أثبت حكماً معللاً بعلة وهو الاستقامة ، وجب أن يعم الحكم بعموم العلة .
المسألة الثالثة : الغدق بفتح الدال وكسرها : الماء الكثير ، وقرىء بهما يقال : غدقت العين بالكسر فهي غدقة ، وروضة مغدقة أي كثيرة الماء ، ومطر مغدوق وغيداق وغيدق إذا كان كثير الماء ، وفي المراد بالماء الغدق في هذه الآية ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الغيث والمطر ، والثاني : وهو قول أبي مسلم : أنه إشارة إلى الجنة كما قال : ) جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ( وثالثها : أنه المنافع والخيرات جعل الماء كناية عنها ، لأن الماء أصل الخيرات كلها في الدنيا .
المسألة الرابعة : إن قلنا : الضمير في قوله : ) اسْتَقَامُواْ ( راجع إلى الجن كان في الآية قولان : أحدهما : لو استقام الجن على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم ، ونظيره قوله تعالى : ) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ ( ) المائدة : 65 ( وقوله : ) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لاَكَلُواْ ( ) المائدة : 66 ( وقوله : ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ ( ) الطلاق : 2 ، 3 ( وقوله : ) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ( إلى قوله ) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ( ) نوح : 12 ( وإنما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع ، فإن اللائق بالجن هو هذا الماء المشروب والثاني : أن يكون المعنى وأن لو استقام الجن الذين سمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام لوسعنا عليهم الرزق ، ونظيره قوله تعالى : ) وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ (
( الزخرف : 33 ) واختار الزجاج الوجه الأول قال : لأنه تعالى ذكر الطريقة معرفة بالألف واللام فتكون راجعة إلى الطريقة المعروفة المشهورة وهي طريقة الهدى والذاهبون إلى التأويل الثاني استدلوا عليه بقوله بعد هذه الآية ) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ( فهو كقوله : ) إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( ( آل عمران : 178 ) ويمكن الجواب عنه أن من آمن فأنعم الله عليه كان ذلك الإنعام أيضاً ابتلاء واختباراً حتى يظهر أنه هل يشتغل بالشكر أم لا ، وهل ينفقه في طلب مراضي الله أو في مراضي الشهوة والشيطان ، وأما الذين قالوا : الضمير عائد إلى الإنس ، فالوجهان عائدان فيه بعينه / وههنا يكون إجراء قوله : ) لاَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً ( على ظاهره أولى لأن انتفاع الإنس بذلك أتم وأكمل .
المسألة الخامسة : احتج أصحابنا بقوله : ) لِنَفْتِنَهُمْ ( على أنه تعالى يضل عباده ، والمعتزلة أجابوا بأن الفتنة هي الاختبار كما يقال : فتنت الذهب بالنار لاخلق الضلال ، واستدلت المعتزلة باللام في قوله ) لِنَفْتِنَهُمْ ( على أنه تعالى إنما يفعل لغرض ، وأصحابنا أجابوا أن الفتنة بالاتفاق ليست مقصودة فدلت هذه الآية على أن اللام ليست للغرض في حق الله . وقوله تعالى : ) وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ ( أي عن عبادته أو عن موعظته ، أو عن وحيه . يسلكه ، وقرىء بالنون مفتوحة ومضمومة أي ندخله عذاباً ، والأصل نسلكه في عذاب كقوله : ) مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ( ( المدثر : 42 ) إلا أن هذه العبارة أيضاً مستقيمة لوجهين الأول : أن يكون التقدير نسلكه في عذاب ، ثم حذف الجار وأوصل الفعل ، كقوله : ) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( ( الأعراف : 155 ) والثاني : أن يكون معنى نسلكه أي ندخله ، يقال : سلكه وأسلكه ، والصعد مصدر صعد ، يقال : صعد صعداً وصعوداً ، فوصف به العذاب لأنه ( يصعد فوق طاقة ) المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه ، ومنه قول عمر : ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح ، يريد ما شق علي ولا غلبني ، وفيه قول آخر وهو ما روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن صعداً جبل في جهنم ، وهو صخرة ملساء ، فيكلف الكافر صعودها ثم يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة ، فإذا بلغ أعلاها جذب إلى أسفلها ، ثم يكلف الصعود مرة أخرى ، فهذا دأبه أبداً ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : ) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ( ( المدثر : 17 ) .
التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب ، اسم المؤلف: فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي ، دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000م ، الطبعة : الأولى
فائدة البحث : ــ مقارنة من كتب التفاسير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
شيوخ وأعضاء وزوار موقعنا الكرام
من عنده شرح أو تحليل أوإيضاح أو إضافة فليتفضل مشكورا .
ويسعدنا بل يشرفنا مشاركاتكم وآرائكم الكريمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
وتقبلوا أجمل وأطيب دعواتنا