بسم الله الرحمن الرحيم
رَحِمَكَ الله .. وَعَظْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا ..
كتبه / الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السحيم حفظه الله ..
واليوم سمعت آيات طالما سمعتها ، وكان الحديث فيها عن واعظ آخر
استوقفتني الآيات وما تحمله من نبأ عظيم
هزّتني وكأنني أسمعها لأول مرة
وما ذلك بمستغرب على كتاب لا كالكتب
{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}
وهو كتاب لا تنقضي عجائبه ، ولا يَخلَق على كثرة الترداد .
ذلكم الواعظ هو مؤمن آل يا سين الذي وعظ قومه حياً وميتاً ..
أما حال حياته فقد جاء ساعياً مُسرعاً: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ}
وأما بعد مماته فإنه لما قيل له:{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} فلما أفضى إلى الجنة {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (
26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} تمنى أن يعلم قومه أن الله غفر له وأكرمه ليرغبوا في
دين الرسل .
قال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله- في قوله تعالى:{بِمَا غَفَرَ لِي}:
وفي " ما " قولان :
أحدهما: أنها مع غفر في موضع مصدر، والمعنى : بغفران الله لي .
والثاني: أنها بمعنى الذي ، فالمعنى ليتهم يعلمون بالذي غفر لي به ربي فيؤمنون، فنصحهم حيا
وميتا )) اهـ .
حَـمَلَ هـمّ الدعـوة حيّـاً وميّـتـاً
وأراد لقومه الهداية مع ما كادوه به حتى قتلوه
قال الإمام الزمخشري -رحمه الله-:
( وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ ، والحلم عن أهل الجهل ، والترؤّف على من أدخل
نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي ، والتشمر في تخليصه ، والتلطف في افتدائه ، والاشتغال
بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه ، ألا ترى كيف تمنى الخير لِقَتَلَتِه والباغين له الغوائل ؟ وهم
كفرة عبدة أصنام ! ويجوز أن يتمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره ، وأنه كان
على صواب ونصيحة وشفقة ، وأن عداوتهم لم تُكسِبه إلا فوزا ، ولم تُعقبه إلا سعادة ؛ لأن في ذلك
زيادة غبطة له ، وتضاعف لذة وسرور ، والأول أوجه. ) اهـ .
وقال الإمام القرطبي -رحمه الله- :
( وفي معنى تمنيه قولان :
أحدهما: أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته .
الثاني: تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله . قال ابن عباس : نصح قومه حيا
وميتا. )) اهـ .
هذا واعظ وعَظَ قومه حياً وميتاً ..
وآخر وَعَظ أمّـه حياً وميتاً .. وعزّاها في مصابها بعد موتها ذلكم هو ذو القرنين ..
فإنه كتب إلى أمه كتاباً قبل موته ، وكان في كتابه إليها :
يا أماه ! اصنعي طعاما واجمعي من قدرت عليه من نساء أهل المملكة ولا يأكل طعامك من أصيب
بمصيبة ، فصنعت طعاما وجمعت الناس ، وقالت : لا يأكل من أصيب بمصيبة قط ، فلم يأكل أحد ،
فعلمت ما أراد .
فلما حُمِل تابوته إليها تلقته بعظماء أهل المملكة ، فلما رأته قالت : يا ذا الذي بلغ السماء حلمه ،
وجاز أقطار الأرض ملكه ، ودانت الملوك عنوة له . مَالَكَ اليوم نائما لا تستيقظ ؟ وساكتا لا تتكلم ؟
من بلّغك عَنِّي بأنك وعظتني فاتعظت ، وعزيتني فتعزيت ، فعليك السلام حيا وميتا ، ثم أمرت
بدفنه .
وفي رواية لهذه القصة أنها قالت : فنِعْم الحيّ كنت ، ونِعْم الهالك أنت .
وعظوا أحياء وأمواتا
وعظوا وهم على فُرش الموت
ووعظوا وهم جثث هامدة
ووعظوا وهم تحت أطباق الثرى
فـلله درّهـم !
لقد خُـلِّد ذِكرهم
وسُـطِّر خـبرهم