|
رد: محبة النبي صلى الله عليه وسلم د. ناصر بن محمد الأحمد
صور من محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم:
لنسرح بخيالنا مع الرعيل الأول، وكيف كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف عرف أولئك أن يأخذوا الإيمان والخلق والعبادة من نبيهم ومن هديه، فارتقوا في درجات سلم العبودية، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه. أما نحن فنقول: أشهد أن محمداً رسول الله لكن الفرق كما بين السماء والأرض.
لما أدرك الصحابة نعمة بعثة الرسول بينهم، قام في قلوبهم من حبه الشيء العظيم، فعمر ذكره والثناء عليه قلوبهم ومجالسهم، ما أن يسمعوا بلالاً رضي الله عنه يردد من خلفه بصدق: "أشهد أن محمداً رسول الله" تخرج حارّة من قلوبهم فتترجم حية في واقع حياتهم، فهذا مهتم بأمر سواكه، وهذا مهتم بنعله وهذا مهتم بوضوءه وطهوره، وهذا يصلح له دابته، وهذا يحفظ له ماله وقوته وهذا يبادر إليه فيستضيفه، وهذا، وهذا، وتجاوز بهم الحب إلى أن يقتسموا شعره إذا حلقه ويتوضؤون بفضلة وضوءه، بل وما يتنخم ولا يتفل إلا ومدوا أيديهم في الهواء يتلقون أثراً من النبي صلى الله عليه وسلم. قال عروة بن مسعود يا قوم، والله لقد وفدت على كسرى وقيصر والملوك فما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً صلى الله عليه وسلم والله ما يحدون النظر إليه تعظيماً له وما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فيُدلك بها وجهه وصدره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوءه.
وها هم يرحلون في طلب حديثه وذكره وكلامه الشهور الطويلة من أجل تجديد العهد بحديثه، وجرسه في أسماعهم، وصداه في قلوبهم.
نعم لقد شهد أولئك النفر والصحب الكرام حق الشهادة أن محمداً رسول الله، فأحبوه صدق المحبة، كان الرجل منهم ما أن يخلو بأهله، فيذكر أنه قد يفترق عن حبيبه ورسوله في الآخرة، حتى يُرى أثر ذلك في وجهه فتصيبه الهموم والأحزان. قالت عائشة رضي الله عنها جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي وأحب إليّ من أهلي وأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكُركَ فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك، عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفعت مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيت ألا أراك فلم يَرُدّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما). وما فرح الصحابة فرحاً مثل فرحهم عندما جاء ذلك الأعرابي فقال يا رسول الله الرجل يحب القوم ولمّا يلحق بهم، قال عليه الصلاة والسلام: "المرء مع من أحب" قال أنس فأنا أحب النبي وأبو بكر وعمر. نعم: بمثل هذا كان يحدّث الرجل منهم نفسه، وذلك لتمام المحبة لهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان الواحد منهم يحدث نفسه: هذه مجالسنا معه في الدنيا فهل يا ترى نكون معه في الجنة؟ هذا السؤال كان يشغل جانباً كبيراً من مشاعر وأحاسيس ووجدان أولئك المؤمنين الصادقين. لقد شهدوا حق الشهادة أن محمداً رسول الله. فأحبوه صدق المحبة، محبة أخرجتهم من ملذاتهم ومراداتهم إلى مراده هو، وما يأمر به وينهى عنه. فلم يبق في قلوبهم تعظيم لأحد، أو توقير فوق تعظيم وتقدير رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم. جادوا بأموالهم في سبيل دينه ودعوته، جادوا بأنفسهم في سبيل الذب عنه.
تجود بالنفس إذا ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
كان الشيخ الهرم الكهل الذي فني وذهبت قوته وأقبل ضعفه، وذهبت صحته وأقبل مرضه، كان يتمنى أن لو كان شاباً يقاتل ويناضل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ليتني أكون فيها جذعا" صحيح البخاري.
لا توجد منةٌ لإنسان مهما بلغ مثل منّة الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة، فما من بيت إلا ونالته من بركة هذا النبي الكريم أشياء وأشياء. رُئي الإمام أحمد رحمه الله في المنام بعد موته، فسُئل عن حاله؟ فقال: "لولا هذا النبي الكريم لكنا مجوساً". قال ابن رجب رحمه الله: "وهو كما قال، فإن أهل العراق لولا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لكانوا مجوساً، وأهل الشام ومصر لولا رسالته لكانوا نصارى، وأهل جزيرة العرب لولا رسالته لكانوا مشركين عباد أوثان". وكان أيوب السخيتاني وهو من كبار التابعين يبكي كثيراً ويقول: لولا هذا النبي لكنا كفاراً. وهذا عبيدة بن عمرو المرادي يقول له محمد بن سيرين إن عندنا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من قِبل أنس بن مالك، فقال: لأن يكون عندي منه شعرة أحبُّ إلي من كل صفراء وبيضاء على ظهر الأرض. قال الذهبي رحمه الله، وهذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب، وهو أن يؤثر شعرة نبوية على كل ذهب وفضة بأيدي الناس. ومثل هذا يقوله هذا الإمام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين سنة. وقد كان ثابت البُناني إذا رأى أنس أخذ يده فقبلها، ويقول، يدٌ مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كان حب النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب الأمة حباً عظيماً، لقد كان حباً لأمره ونهيه، لقد كان حباً شرعياً، وصل بهم إلى أعلى درجات الإيمان. لقد كان خالد بن معدان قلما يأوى إلى فراشه إلا وهو يذكر شوقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار ثم يسميهم، ويقول: هم أصلي وفصلي، وإليهم يحن قلبي طال شوقي إليهم.
لقد كانت محبة الرسول صلى الله عليه وسلم والثناء عليه وشكره كان ذلك كله شعاراً خالط باطن الأمة. وكان وثاراً ترتديه الأمة والمؤمنون طيلة حياتهم.
سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيراً يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين! قالت: أرونيه حتى أنظر إليه! قال: فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.
وروى ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار وهو مستنتل من الصف، فطعن رسول الله في بطنه بالقدح وقال: استو يا سواد بن غزية قال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق فأقدني! قال: فكشف رسول الله عن بطنه ثم قال: استقد! قال: فاعتنقه وقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ فقال: يا رسول الله حضر ما ترى فلم آمن القتل، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله بخير وقال له خيرا.
ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بلال يؤذن فإذا قال: "أشهد أن محمداً رسول الله" انتحب الناس، فلما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أبو بكر: أَذِّنْ، فقال له: إن كنتَ إنما أعتقتني لأكون معك فسبيلك ذلك، وإن كنت أعتقتني لله فخلني ومن أعتقتني له، فقال: ما أعتقتك إلا لله، قال: فإني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قا: فذاك إليك. ولما فتح عمر بيت المقدس وقدم ليتسلم مفاتيحه حضرت الصلاة فقال: يا بلال ألا تؤذن لنا رحمك الله، قال بلال: يا أمير المؤمنين والله ما أردت أن أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن سأطيعك إذا أمرتني في هذه الصلاة وحدها، فلما أذن بلال وسمع الصحابة صوته ذكروا نبيهم صلى الله عليه وسلم فبكوا بكاء شديداً، ولم يكن من المسلمين يومئذ أطول بكاء من أبي عبيدة ومعاذ ابن جبل، حتى قال لهما عمر: حسبكما رحمكما الله.
عن سعيد بن عبد العزيز قال: قال بلال حين حضرته الوفاة:
غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه
ولقد تجاوز الصحابة الكرام مسألة إيثار محابِّ النبي صلى الله عليه وسلم المأمور بها، وراحوا يحبون ما أحبه بطبعه من لباس أو زينة أو طعام، ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، قال أنس بن مالك: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام، فقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزاً من شعير، ومرقاً فيه دُباء وقديد، قال أنس: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي الصحفة، قال: فلم أزل أحب الدباء منذ يومئذ، وفي روايةٍ لمسلم قال أنس رضي الله عنه: فما صُنع لي طعامٌ بعد أقدر أن يُصنع فيه دباء إلاّ صُنع.
لقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم المثل الأعلى في اتباعهم وتضحيتهم بأموالهم وأنفسهم وأهليهم في تحقيق محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وطاعتهم له، فهذا أبو بكر رضي الله عنه يُضرب عند الكعبة ضرباً مبرحاً حتى أُغمي عليه، وحينما فاق كان أول كلمة قالها: ماذا فعل رسول الله؟ أين رسول الله؟ فأخبره أهله بسلامة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه بخير، ولكنه يطلب منهم حمله إليه ليراه بعينيه، فحينما رآه سالماً أعيد إلى بيته وإلى فراشه، ما اطمأن بالجواب الشفوي من أهله، لم يطمئن إلا بعد رؤيته له سالماً عندها تهون النفس وتهون كل المصائب
وضرب الصديق لنا أروع الأمثلة لحب النبي وفدائه له بنفسه، لقد ضحى بنفسه، وعرضها للهلاك والموت ليلة الهجرة إلى المدينة ليفدي بذلك رسول الله لمحبته له، وكان رضي الله عنه يعلل هذه التضحية بقوله: "إن قُتلتُ فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلتَ أنت هلكت الأمة".
وفي الطريق إلى الغار كان الصديق يمشي أمام النبي ساعة، ويمشي خلفه ساعة، فسأله عن السبب فقال: أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأذكر الرصد فأمشي أمامك. فلما انتهيا إلى الغار قال: مكانك يا رسول الله، حتى استبرئ لك الغار، فاستبرأه.
فلما انتهيا إليه قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فمسحه فوجد في جانبه ثقباً فشق إزاره، وسدها به، وبقي اثنان فألقمهما رجله، ثم قال لرسول الله ادخل، فدخل النبي ، ووضع رأسه في حجره، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه النبي ، فسقطت دموعه على وجه النبي ، فقال: "ما لك يا أبا بكر؟" قال: لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل عليه النبي ، فذهبت ما يجده.
هل بالله عرف التاريخ مثل هذه التضحية، ومثل هذه المحبة؟ الله أكبر، إنه حب فريد، حب الصدّيق لرسول الله ، إنه حب ينبع من إيمان عميق، وإخلاص شديد.
وهذا زيد بن الدثنة رضي الله عنه يخرجه أهل مكة من الحرم كي يقتلوه فيجتمعون حوله، فيقول له أبو سفيان: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال زيد: والله لا أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي.
هكذا كانت المحبة الصادقة في قلوب أصحابه رضوان الله عليهم مما جعل أعدى أعداء الإسلام يقولون: ما رأيت في الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً.
والحمد لله أولاً وآخراً ..
|