|
رد: ذم الإختلاف والفرقة في الكتاب والسنة
هذا كله محافظة على الاجتماع، وخوفا من التفرق، الذي يضعف الأمة أمام هجمات الأعداء ومحافظة على دماء المسلمين وأعراضهم، وأموالهم، لما يحصل، في الخروج على الإمام من الفتن، وسفك الدماء، وذهاب الأموال، وهتك الأعراض، كما جرب الناس ذلك وعانوا منه العنت، والشر الكثير، و الشرع جاء باحتمال أقلّ الأمرين ضررًا، لدفع ما هو أعظم، ولهذا جاءت النصوص عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –بالأمر بقتل من خرج بطلب السلطة، والمسلمون لهم سلطان قائم، لما في ذلك من الفتن والتفرق، كما في صحيح مسلم عن عوف بن عرفجة قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم –يقول: ((ستكون هنات، وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان)).
وفي النسائي، عن أسامة بن شريك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه سلم -: ((أيما رجل خرج، يفرق بين أمتي فاضربوا عنقه)).
وفي صحيح مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية، ومن قتل تحت راية عُمِيّة، بغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، فقتل، فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي بعهد ذي عهدها، فليس مني، ولست منه)).
فحذر- صلى الله عليه وسلم – مما يفرق، ويوهن الجماعة، وأمر بقتل من يريد أخذ السلطة ممن هي بيده، واجتمع عليه المسلمون، سواء كان برا، أو فاجرا، وأخبر أن من قتل تحت راية عُمَّية أن قتلته جاهلية، ومن قاتل لعصبية أنه كذلك، وتبرأ ممن يفرق بين أمته.
وأما قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [سورة الحجرات: 9] فليس فيه الأمر بالقتال ابتداء، ولكن إذا حصل القتال بين طائفتين من المؤمنين، يجب الإصلاح بينهما، بدون قتال ما أمكن ذلك امتثالا لأمر الله تعالى، ويكون الإصلاح بالعدل، والإنصاف، وقد تكون إحدى الطائفتين أقرب إلى الحق، فتعان على الحق، ويحال بين الأخرى وبين البغي والظلم، فإن أبت إحداهما قبول الصلح والحكم بينهما بالحق، وأبت إلا البغي وركوب العسف والتمادي في الباطل، فعند ذلك تقاتل تلك الطائفة منعا للقتال الذي هو أعظم من قتالها لأنها إذا لم تقاتل حتى تفيء إلى أمر الله، بل تركت حتى تتقاتل هي والأخرى صار الفساد أعظم، ثم إنّ الذي يقاتل الطائفة الباغية غير الطائفة المبغي عليها، فهذا من نصر المظلوم، ودفع الفساد العظيم بما هو أقلّ منه فسادا.
قال ابن جرير: ((يقول جل ذكره: وإن طائفتان من أهل الإيمان، اقتتلوا، فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل، فإن بغت إحداهما على الأخرى، يقول: فإن أبت إحدى الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله لها أو عليها، وتعدت ما جعل الله عدلا بين خلقه، وأجابت الأخرى منهما، فقاتلوا التي تبغي، أي التي تعتدي، وتأبى الإجابة إلى حكم الله حتى تفيء إلى أمر الله، أي حتى ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه، فإن فاءت ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ﴾يقول: فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياهم، إلى الرضا بحكم الله في كتابه، فأصلحوا بينها وبين الطائفة الأخرى ﴿بِالْعَدْلِ﴾ يعني الإنصاف بينهما، وذلك حكم الله في كتابه، جعله عدلا بين خلقه، وهذا ليس فيه قتال الأئمة الذين بأيديهم السلطة، بل هذا نوع آخر، وإنما المأمور به في هذه الآية، دفع الفتنة، وتقليلها ما أمكن بالإصلاح، أو بالقتال إذا لم يمكن بدونه، فتقاتل الفئة الباغية على الأخرى، حتى تذعن لحكم الله، ويصير الدين كله لله، وكلمة المسلمين مجتمعة والمأمور بالقتال هم المؤمنون الذين ليسوا من إحدى الطائفتين، أمر الله تعالى بأن يقاتلوا من بغى على أخيه، وتعدى بقتال، ولم يقبل الصلح بالعدل، فقتال مثل هؤلاء من باب الجهاد، ونصر المظلوم.
أمّا إذا وقع بغي ابتداء، بغير قتال مثل أخذ المال، أو رئاسة بظلم، فهذا لم يأذن الله تعالى، بقتالهم على ذلك، بل أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – مع ذكره لظلمهم بالصبر، وإعطائهم حقوقهم، وأن يطلب المظلوم حقه من الله تعالى، ولم يأذن للمظلوم المبغي عليه بقتال الباغي، في مثل هذه الصور، التي يكون القتال فيها قتال فتنة وحذر من الخروج على الأئمة، وإن كانوا ظلمة وجائرين، يضربون الظهور، ويأخذون المال، ويمنعون الحقوق، بل نهى عن معصيتهم حينئذ، ونـزع يد الطاعة منهم، ما لم يأمروا بمعصية الله تعالى. فعند ذلك لا طاعة لهم، ولا يسمع لقولهم، وكذلك إذا ارتدوا عن الإسلام، وكفروا به صراحة، فلا يجوز أن يكونوا حينذاك أئمة على المسلمين، فطاعتهم مقيدة بأن لا يأمروا بمعصية الله تعالى –فهم لا يطاعون في كل شيء، وإنما يطاعون إذا أمروا بطاعة الله، أو بما ليس فيه معصية لله تعالى، أمّا إذا أمروا بمعصية الله تعالى، فلا سمع لهم ولا طاعة.
وكذلك النهي عن الخروج عليهم مقيد بكونهم مسلمين مصلين، أمّا إذا كفروا كفراً صريحا، وارتدوا ردة واضحة جلية، فلا يجوز حينئذ أن يكونوا ولاة على المسلمين، وعلى هذا دلت النصوص عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم–.
جاء في صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب، قال: ((بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم – سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطبا، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا نارا، فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها، قال: فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من النار، فكانوا كذلك، وسكن غضبه، وطفئت النار، فلما رجعوا، ذكروا ذلك للنبي- صلى الله عليه وسلم – فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف))[27].
وفيه أيضاً عن أم سلمة، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((سيكون أمراء تعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا ننابذهم؟ قال: لا ما صلوا)).
وفيه أيضا عن عوف بن مالك، سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قال: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، إلا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينـزعن يداً من طاعة)).
قال النووي: أجمع العلماء على وجوب طاعة ولاة الأمور من غير معصية، وعلى تحريمها في المعصية، نقل الإجماع القاضي عياض، وآخرون، قال: وتجب طاعتهم فيما يشق على النفوس وما تكرهه، وغيره فيما ليس بمعصية، فإن كانت لمعصية فلا سمع ولا طاعة، كما صرح به في الأحاديث، فتحمل الأحاديث التي فيها إطلاق السمع والطاعة على المقيدة، وفي حديث عبادة قال: ((بايعنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم – فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن ترون كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان)).
ونقل النووي عن عياض، أنه قال: ((أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل))ا.هـ يعني انعزل حكما، لأنه لا يجوز أن يتولى الكافر على المسلمين، فولي الأمور هو الذي يقيم الحدود، ويقود المسلمين في جهاد أعدائهم، ويذود عن بلادهم، فإذا لم يكن على دينهم لا يتوقع منه فعل ذلك.
والمقصود أن النبي – صلى الله عليه وسلم – حذر من الخروج عن الطاعة، ومفارقة الجماعة وذم ذلك، وجعله من أمر الجاهلية، لأن أهل الجاهلية، لم يكن لهم رئيس يجمعهم، وشأنهم التفرق والاختلاف، ويرون السمع والطاعة مهانة وذلة، والخروج عن الطاعة وعدم الانقياد عندهم فضيلة، يمتدحون بها.
فجاء الإسلام مخالفا لهم في ذلك، آمرا بالصبر على جور الولاة، والسمع والطاعة لهم في غير معصية، والنصح لهم، وبالغ صلوات الله وسلامه عليه في ذلك حتى قال فيما أوصى به في حجة الوداع: ((اسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله أمركم، وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف)).
مع أنه – صلى الله عليه وسلم – كان دائما يأمر بإقامة رئيس حتى في الجماعة القليلة والمدة القصيرة، ويحث على طاعته، كما أمر المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمروا أحدهم، مبالغة في طلب الاجتماع، وحرصا على عدم الفرقة، ومخالفة لأمر الجاهلية وتقدم الحديث الذي في صحيح مسلم: ((إنّ الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل، وقال، وكثر السؤال وإضاعة المال)) وهذه أصول الإسلام فإنّه بني على عبادة الله وحده، والجن والإنس خلقوا لذلك.
ولهذا صار من أصول أهل السنة صلاة الجمع وغيرها خلف البر والفاجر، ويرون أن ترك الصلاة خلفهم من سنة المبتدعين، وإذا كان الإمام مستورا فإنّه يصلى خلفه بالاتفاق من أئمة المسلمين، ومن زعم أنها غير جائزة فقد خالف الإجماع من أهل السنة، وقد كان الصحابة يصلون خلف الفسقة والظلمة، بل ومن كان متهما بالإلحاد كابن أبي عبيد، وكان داعيا إلى الضلال، ولم يكونوا يعيدون الصلاة، وقد أنكر الإمام أحمد على من يعيدها إنكارا شديدا وعد ذلك من البدع.
والاعتصام بحبل الله يتضمن الاجتماع على الحق، والتعاون على البر والتقوى، والتناصر على أعداء الله وأعداء المسلمين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأكد ذلك بقوله: ﴿وَلا تَفَرَّقُوا﴾.
وفي الحديث الذي أخرجه الترمذي وصححه، قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن، السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)).
وفي خطبة عمر رضي الله عنه المشهورة التي ألقاها في الجابية، قوله: ((عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد)) وفيها: ((من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة)).
والمراد بالجماعة أهل الحل والعقد من كل عصر.
وقال البخاري: ((الجماعة هم أهل العلم، وهذا لا يخالف قول الجمهور من العلماء لأن أهل العلم، يقولون بمقتضى أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – التي تنص على وجوب طاعة الأمراء، الذين يتولون أمور المسلمين، وإن كانوا فجرة، ماداموا على الإسلام، لم يخرجوا إلى الكفر الصريح كما في صحيح مسلم من غير وجه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني)).
وفيه عن ابن عباس، قال: نـزل قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [الإسراء: 59] في الإسراء.
وفي صحيح مسلم عن حذيفة، قال: قلت يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن.قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر.قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها.فقلت: صفهم لنا؟ قال: نعم، قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا.قلت: يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين، وإمامهم.قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على شجرة حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك.
وفي لفظ آخر: قلت: وهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: نعم. قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك فاسمع وأطع)).
وفي رواية قال عن الخير الثاني: صلح على دخن، وجماعة على إقذاء فيها، وقلوب لا ترجع إلى ما كانت عليه:
فالخير الأول:النبوءة وما اتصل بها من خلافة ليس فيها فتنة، والشر هو ما حصل من الفتنة بسبب مقتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وتفرق الناس حتى صار حالهم شبيها بحال الجاهلية، يقتل بعضهم بعضا، ولهذا قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – متوافرون، فأجمعوا على أن كل دم، أو مال، أو فرج أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، أنـزلوهم منـزلة الجاهلية، فيبين أنهم جعلوا ذلك غير مضمون، كما أن ما يصيبه أهل الجاهلية بعضهم من بعض، غير مضمون، لأن الضمان إنما يكون مع العلم بالتحريم فأما مع الجهل كحال البغاة من أهل القبلة والكفار، فلا ضمان، لهذا لم يضمن النبي – صلى الله عليه وسلم – أسامة دم الذي قتله بعد ما قال: ((لا إله إلا الله))، مع تغليظه – صلى الله عليه وسلم – في ذلك، وردد عليه قوله: أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله، ثلاث مرات حتى قال أسامة فتمنيت أني لم أسلم قبل ذلك.
والخير الثاني:اجتماع الناس على معاوية بعد أن تنازل الحسن له عن الأمر، وكان ذلك صلحا على أقذاء، ودخن في ذلك الاجتماع حيث لم ترجع القلوب إلى ما كانت عليه زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – وخلفائه قبل الفتنة.
والمقصود أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أخبر بأنه يكون أئمة لا يهتدون بهديه – صلى الله عليه وسلم – ولا يستنون بسنته، وأخبر أن فيهم رجالا قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس، ومع ذلك أمر بالسمع والطاعة للأمير، وإن ضرب الظهر، وأخذ المال، وفي ذلك بيان وجوب طاعة السلطان، سواء كان عادلا أو ظالما جائرا وهذا حماية منه – صلى الله عليه وسلم – للأمة من التفرق، الذي يضعفها، ويجعلها نهبة للأعداء، كما هو الواقع من حال المسلمين اليوم، لما تفرقوا، وأصبحوا دويلات لكل دويلة حدودها، واتجاهاتها.
وعلاقتها مع أعدائها أوثق من علاقتها مع الدول الإسلامية، وبذلك صار المسلمون غثاء كغثاء السيل ذهبت مهابتهم من قلوب أعدائهم وقذف في قلوبهم الوهن فوصلوا إلى حالة من الشقاق والاختلاف، وصاروا فيها من أبعد الناس عن الاتفاق والائتلاف.
والواجب عليهم الحذر مما وقع فيه من قبلهم، من الاختلاف في دينهم أشد الحذر وقد أكثر الله ورسوله في تحذيرهم من ذلك، ورتب تعالى العذاب على الاختلاف.
وهم قد جربوا ذلك بأنفسهم، فلما كانوا ممتثلين لأمر ربهم بالاتفاق والاعتصام بكتاب الله تعالى، منتهين عن التفرق والاختلاف، كانوا خير أمة أخرجت للناس، فحصل لهم الخير العظيم الذي لم يطرق العالم مثله، من كثرة الإيمان بالله وانتشار العدل بن الناس، وقوة المسلمين، وسيطرتهم على معظم الأرض، وقمع الباطل وحزب الشيطان، فلما سلكوا مسالك من تقدمهم، من التفرق في الدين وتقليد أعدائهم ذهبت ريحهم، ثم لم يزل النقص فيهم إلى أن صاروا أذلة يستجيرون بأعدائهم، مع كثرة عددهم، والله تعالى جعل الاختلاف من طبيعة البشر، فلذلك بيَّن علاجه بيانا واضحاً بأن نرد ما اختلفنا فيه إلى كتابه، وسنة رسوله، وبذلك يحصل الاتفاق والاعتصام بحبل الله.
والمقصود أن الله تعالى لم يأذن بقتال الأمراء والولاة، والخروج عليهم لما في ذلك من الفتن والفساد الكبير، والواقع أكبر شاهد لذلك.
وأما إذنه بدفع الصائل بالقتال، كما في الحديث: ((من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد))، ونحو ذلك، فهذا ليس فيه فتنة ولا هو من دواعي التفرق والاختلاف، فهو مثل قتال اللصوص، وقطاع الطرق فليس قتالهم فتنة، إذ الناس كلهم أعوان على قتالهم، فلا يكون في قتال هؤلاء ضرر عام يشمل الظالم والمظلوم وغيرهما، كقتال ولاة الأمور، فإن فيه فتنة وشرا عاما أعظم من ظلمهم، فالمشروع فيه الصبر والاحتمال.
وبهذا تجتمع النصوص وتتفق، ويزول التعارض الذي يتوهمه بعض الناس.
وهذا الأمر مما ينبغي الاهتمام بفهمه، فإن خطره عظيم، والنصوص التي تقدم ذكر بعضها تدل على وجوب الكف عن القتال في الفتنة، ولكن إذا كان الخارج مارقا من الدين ظاهر الضلال، ويتدين بقتال المسلمين كالخوارج والروافض الذين يرون قتل المسلمين من فضائل الأعمال، فإنهم يقاتلون ويرغب في قتالهم، كما أمر الرسول- صلى الله عليه وسلم – بقتال الخوارج ورغب فيه، و الروافض أشر من الخوارج.
وما قاله بعض العلماء من وجوب القتال مع من هم أولى بالحق، فالصواب خلافه – أي وجوب الكف عن القتال- لأن القتال فيه من الشر العظيم، والفتنة والفساد أعظم مما في ترك القتال كما هو الواقع، لأن القتال في مثل ذلك لأجل ترك واجب مثل الامتناع من طاعة معين والدخول في الجماعة، وفي قتال الممتنعين ما فيه من سفك دماء المسلمين، والفتن العظيمة أعظم مما يحصل بتركه، وإن كان غيرهم أولى بالطاعة والمقصود أن الله تعالى نهى عن التفرق، وعن أسباب الفتن، مما يضعف الأمة ومن تتبع تاريخ المسلمين عرف أن أكثر الاختلاف والتفرق حصل في مسائل الصفات والقدر، والإمامة، وغالب ذلك مما يدخله الاجتهاد، فهم في ذلك مابين مجتهد مخطئ، ومخطئ باغ، وباغ من غير اجتهاد، أو مقصر فيما أمر به من الصبر والاحتمال، فحصل بسبب ذلك من القتال والشرور ما هو معلوم لمن نظر في التاريخ والواقع.
وقد قال تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [آل عمران: 186] فأمر تعالى بالصبر على أذى الكفار من اليهود والنصارى والمشركين، مع التقوى.
وفي هذا تنبيه على وجوب الصبر على أذى المؤمنين بعضهم لبعض، متأولين كانوا أو غير متأولين.
والله تعالى قد أمر بالعدل مع الكفار، وغيرهم، كما قال تعالى: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8].
فنهى تعالى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على عدم العدل فيهم، فكيف إذا كان البغض لفاسق مؤمن، أو مبتدع متأول، فهو أولى بوجوب العدل معه وأن لا يحمل بغضه على ظلمه.
والإسلام جاء بتأليف القلوب، وجمعها على الحق، ومناصرة المؤمنين، ومعاونتهم على البر والتقوى، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2] فأمر بتنمية الخير وتكثيره، وبإماتة الشر وتقليله، وأمر بالأسباب التي تجلب الخير ومودة المسلم لأخيه، ونهى عن الأسباب التي تجلب العداوة والبغضاء، مما يدل على أن الإسلام مبني على وجوب التآلف بين أهله والاجتماع عليه، وتحريم الفرقة والاختلاف.
فلهذا حرم السب، والسخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب، وما أشبه ذلك مما يسبب الفرقة بجلب العداوة والبغضاء، وتنافر القلوب.
وحرم الأفعال الداعية إلى ذلك، ففي الصحيحين عن ابن مسعود، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)).
وقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات: 11] فهذه الأمور التي نهى عنها وهي السخرية واللمز، والتنابز بالألقاب - هي مما يوغر الصدور، ويحدث البغضاء الداعية إلى التقاطع والاختلاف، وتفرق القلوب والأفكار ثم تفرق الأبدان.
وأمر بعكس ذلك مما يدعو إلى الألفة، والمحبة كطيب الكلام، ولين الجانب وإفشاء السلام، والدعاء بأحسن الأسماء وأحبها إلى المدعو، والهدية، وما أشبه ذلك مما يجلب المحبة، ويجمع القلوب، ويشعر بالأخوة الصادقة.
وهذا لا ينافي لزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن المقصود منه رحمة الخلق و امتثال أمر الله تعالى، وقد قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110] قال أبو هريرة: كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأتون بهم في الأقياد والسلاسل، تدخلونهم الجنة.
فهذه الأمة خير الأمم لبني آدم، فإنهم يعاقبونهم بالقتل والأسر، وسبي الأموال والأولاد، ومقصودهم بذلك الإحسان إليهم، وسوقهم إلى كرامة الله تعالى ورضوانه من دخول الجنة، والحيلولة بينهم وبين النار، عكس ما يفعله النصارى والملحدون، الذين يجهدون أنفسهم، ويبذلون أموالهم يبعدون بذلك الناس عن الله تعالى وهدايته، ويكرهون إليهم الإسلام، بما يظهرونه من تشويه للإسلام وأهله.
وكذا إذا رد المؤمن على أهل البدع، فإنّه يجب أن يكون مقصوده بيان الحق وهداية الخلق، ورحمتهم والإحسان إليهم، وإذا بالغ في ذم بدعة أو معصية فينبغي أن يكون قصده بيان ما فيها من الفساد، وتحذير الناس من الوقوع فيها.
وكذا إذا هجر إنسانا أو عزره، أو أقام عليه الحد، فلا يجوز أن يكون ذلك للتشفي والانتقام، بل يكون للرحمة والإحسان، فإن العقوبات الشرعية إنما شرعت رحمة من الله بعباده، فهي صادرة عن رحمة الله لخلقه، وإرادة الإحسان إليهم ونفعهم، كما يقصد الوالد بتأديب ولده نفعه والإحسان إليه، وكما يقصد الطبيب بإجراء العملية للمريض شفاءه والإحسان إليه.
ولهذا أمر الله تعالى بالصلاة على من أقيم عليه الحد، والاستغفار له، كما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يفعله، وأمر بالصلاة على الأموات من المسلمين، فكل مسلم لم تعلم ردته، ولا نفاقه فإنّه يصلى عليه، ويستغفر له، وإن كان فيه بدعة وفسوق هذا هو مذهب أهل السنة، مخالفين بذلك نهج أهل الزيغ من الخوارج والمعتزلة، الذين يكفرون بالذنوب، أو يحكمون على أصحابها بالخلود في النار.
ومن القواعد التي قررها شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المحققين، أن المتأول إذا قصد متابعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – فاجتهد وأخطأ أنه لا يكفر، ولا يفسق سواء كان ذلك في المسائل العملية الفروعية، أو في العلمية الاعتقادية الأصولية.
والتفريق بين مسائل العمل والاعتقاد في ذلك من أقوال أهل البدع.
ولا يعرف عن أحد من الأئمة أنه كفر كل مبتدع بل المنقول عنهم يخالف ذلك ولكن قد ينقل عن بعضهم أنه كفر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر منه، ولا يلزم إذا كان القول كفرا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل، فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين، كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع.
وإذا لم يكن الإنسان في نفس الأمر كافرا، ولا منافقا فهو من جملة المؤمنين فيستغفر له ويترحم عليه، وإذا قال المسلم في دعائه: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ﴾ [الحشر: 10] دخل في ذلك كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ بتأويل تأوله، فخالف السنة، أو أذنب ذنبا، فإنّه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم، وكذا الموجودون ومن يوجد بهذه الصفة يدخلون في ذلك، وإن كانوا من الثنتين والسبعين فرقة، فما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارا، بل مؤمنين فيهم ضلال، وذنوب يستحقون بها الوعيد، كما يستحقه عصاة المؤمنين من غير أهل البدع.
والنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يخرج الثنتين والسبعين من الإسلام، بل جعلهم من أمته، ولم يقل إنهم مخلدون في النار، فينبغي مراعاة هذا الأصل، فإنّه أصل عظيم ومعلوم أن كثيراً من المنتسبين إلى السنة فيهم بدع من جنس بدع الجهمية والمعتزلة، ولا يقول عاقل يعرف شيئا من علم الكتاب والسنة أن مثل هؤلاء كفار، أو أنهم خارجون من الفرقة الناجية مطلقا.
قال شيخ الإسلام: من كفَّر الثنتين والسبعين فرقة كلهم، فقد خالف الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، مع أن الحديث في ذلك قد ضعفه ابن حزم وغيره، لكن حسنه غيره، وصححه الحاكم وغيره ورواه أهل السنن من طرق.
وليس قوله في: الثنتين والسبعين ((كلها في النار)) بأعظم من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ [النساء: 10] وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً﴾ [النساء: 30] وأمثال ذلك من نصوص الوعيد الصريحة بإدخال من فعل ما ذكر النار، ومع ذلك لا نشهد على معين ممن أكل مال يتيم ظلما، أو أكل مالا بالباطل، أو ارتكب ما توعد عليه بدخول النار، لا نشهد عليه بالنار، لإمكان أنه تاب، أو كانت له حسنات محت سيئاته، أو كفَّر الله عنه بمصائب أصيب بها، أو غير ذلك.
والمقصود أنه يجب العدل في الحكم والقول، وأن يتبع كتاب الله تعالى – فإن الله تعالى قد أغنانا به، وبيَّن لنا به ما نحتاجه في جميع شئوننا، وأن نرجع إليه إذا حصل بيننا خلاف، فهو كفيل بحل جميع مشكلاتنا، ففيه الهدى والنور.
وقد ذكر الله تعالى – أن المختلفين اختلفوا بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فلذلك ذمهم الله، لأن العلم جاءهم من الله واضحا جليا، فاختلفوا، قاصدين البغي معرضين عن الهدى، مع علمهم بالحق، ولم يكونوا باختلافهم مجتهدين مخطئين قال تعالى: ﴿الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران: 19] قال الزجاج: اختلفوا للبغي، لا لقصد البرهان.
وقال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 213] يعني أن الذين اختلفوا في الكتاب هم اليهود والنصارى، الذين قال رسولنا - صلى الله عليه وسلم – أن هذه الأمة ستسلك مسالكهم فهدى الله المؤمنين من هذه الأمة لما اختلف فيه أولئك من الحق.
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [يونس: 93].
وقال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنْ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الجاثية: 17- 19] فهذه الآيات ونظائرها في كتاب الله تعالى، فيها البيان أن المختلفين ما اختلفوا حتى جاءهم العلم، والبينات – أي الدلائل الواضحات – بأن ما جاءت به من الرسل هو الحق، فاختلفوا للبغي والظلم، لا لأن الحق اشتبه عليهم بالباطل، وهذه حال أهل البدع، و الاختلاف المؤدي إلى الضلال.
فأصحاب الأهواء عامة لا يختلفون إلا بعد ظهور الحق لهم، ووضوح الهدى، فيبغي بعضهم على بعض، فكل فريق منهم له نحلة يضلل من خالفه فيها، ويرد الحق إذا لم يتفق مع باطله، ويكذب به.
وأما رسل الله تعالى – فإنهم جاءوا بدين واحد، هو دين الإسلام – وأمرهم أن يدعوا إليه، ونهاهم عن التفرق فيه، وهو في الحقيقة دين أول الرسل وآخرهم، كما قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشورى: 13].
وقال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران: 19]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون: 51- 53] فقوله أمتكم أمة واحدة، يعني شريعتكم ودينكم واحدا، ولكن الناس اتخذوا كتبا كتبوها مبتدعين فيها غير ما جاءتهم به رسلهم مختلفين متفرقين بغيا وعدوانا.
وقد قال تعالى: ﴿لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 1-5] ونظير هذه الآيات قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم: 30- 32] فنهاهم أن يكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا - يعني فرقا متعددة وأحزابا متعادية، وأعاد لفظة ﴿مِنْ﴾ في قوله: ﴿مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ﴾ ليبين أن هذا بدل من الذي قبله، والبدل هو المقصود، وما قبله توطئة له، فهذا تحذير بليغ عن الاختلاف والتفرق.
ودلت هذه الآية على أنّ الاختلاف والتفرق شيعا لا ينفك عن الشرك لما فيه من عبادة الأهواء.
فالله تعالى جعل دينه واحدا، وأمر رسله أن تدعوا إليه من أولهم إلى خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كما قال تعالى عن أولهم (نوح عليه السلام): ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 72] وقال تعالى عن خليله، وأبى الأنبياء بعده: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 131 – 132] أي أن إبراهيم ويعقوب كلاهما وصى بنيه بهذا القول وقال يوسف عليه السلام: ﴿فَاطِرَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 101] وقال موسى لقومه: ﴿يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 84].
وقال المؤمنون الذين كانوا سحرة فهداهم الله: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ [الأعراف: 126].
وقالت ملكة اليمن بعد أن هداها الله تعالى: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل: 44] وأخبر تعالى عن أنبياء بني إسرائيل بقوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا﴾ [المائدة: 44] وقال حواريُ عيسى عليه السلام: ﴿قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ [المائدة: 111] وقال تعالى عن خاتم رسله: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الزمر: 11- 12] وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64] وفي الصحيحين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد)).
وليس تنوع الشرائع مخالفا لذلك أو مانعا منه، بل أصل الدين الذي جاءت به الرسل كلهم واحد، هو الإسلام، وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وإن كان لكل نبي شرعة، وهذا مثل ما كان في أول الإسلام لما كانت القبلة إلى بيت المقدس ثم حولت إلى الكعبة، والدين واحد في كلتا الحالتين، وهكذا شرائع الأنبياء، ولهذا إذا ذكر الله الحق جعله واحدا، وإذا ذكر الباطل جعله متعددا، كقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153].
فالمتعين على المسلم أن يكون أصل قصده توحيد الله تعالى – بعبادته وحده لا شريك له، وطاعة رسوله – صلى الله عليه وسلم – باتباع أمره، واجتناب نهيه، يدور مع ذلك حيث وجده، في قوله، وعمله، فلا ينتصر لقوله شخص مهما كان، انتصارا مطلقا إلا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأنه لا ينطق عن الهوى، وهو معصوم عن الخطأ في ما يبلغه عن الله تعالى، ويعلم أن أفضل الناس بعد الأنبياء هم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فلا ينتصر لطائفة انتصارا عاما مطلقا إلا لهم، ومن عداهم فالانتصار لهم يجب أن يكون بقد ما معهم من الحق، وذلك لأن الحق والهدى يدور مع الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه إذا اجتمعوا فهم على الحق قطعا، بخلاف أصحاب غيره من الأئمة، فيجوز أن يجتمعوا على الباطل، أمّا مجموع الأمة فلا تجتمع على ا لباطل ومن الممتنع أن لا يعرف الصحابة الحق الذي جاء به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأن يعرف أحد من العلماء بعد الصحابة، مالا يعرفه الصحابة بمجموعهم، أو يعرف حقا يخالف ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم - بل كل ما خالف قوله أو فعله فهو باطل.
والصحابة هم الذين بلغوا الدين عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – فلا يمكن معرفة ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلا بواسطتهم، لهذا صار الطعن فيهم طعنا في الدين.
والمؤمن بالله حقا، ظاهرا وباطنا هو الذي قصده اتباع الحق، وما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإن وقع في خطأ فهو غير مقصود، بخلاف أهل البدع والاختلاف فإنهم لا يقصدون اتباع الحق، بل يتبعون أهواءهم، وما تزينه لهم شياطينهم وعلى ذلك يعادون ويوالون، ويقصدون نصر جاههم، ورياستهم، وما ينسب إليهم، لا يريدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله.
ولهذا نجدهم يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهدا معذورا، ويرضون على من يوافقهم وإن كان جاهلا منافقا سيء القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، ولهذا يذكر العلماء: أن من عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا، ولعن بعضهم بعضا ومن مدائح أهل السنة أنهم يخطئون ولا يكفرون، فأهل البدع يحمدون من لم يحمده الله ورسوله، ويذمون من حمده الله ورسوله.
فهم في الحقيقة يتبعون أهواءهم، ولهذا يسميهم السلف أهل الأهواء، لأنهم لا ينظرون إلى أن يكون دين الله هو الظاهر، وكلمته العالية، ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس، قال الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [الأنفال: 39] فإذا لم يكن الدين كله لله فالفتنة موجودة.
وأصل هذا الدين أن يكون الحب لله، والبغض لله، والموالاة له، والمعاداة فيه، والعبادة كلها لله، وهذا لا يمكن إلا بمتابعة الرسول- صلى الله عليه وسلم -.
ولهذا قال العلماء:إنّ قول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى)) نصف الدين، ونصفه الآخر قوله – صلى الله عليه وسلم - ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) لأن الأول يتضمن المقاصد، والثاني يتضمن المتابعة، وكلاهما شرط في صلاح العمل وتهيئته للقبول.
فلا بد من إخلاص العمل لوجه الله تعالى، ومن الاعتصام بحبل الله، وهو اتباع كتابه وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم- فإن لم يكن ذلك فالهلاك أقرب إلى الإنسان من عنقه، وألزم له من ظله، نسأل الله الهداية والتوفيق وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الآيات من سورة آل عمران رقم:102- 107.
[2] تفسير الطبري جـ7 ص 71 بتحقيق محمود شاكر ط المعارف.
[3] تفسير ابن جرير جـ7 ص 71.
[4] المصدر نفسه.
[5] المسند جـ3 ص26، 59، 14، 17 وانظر الترمذي جـ4 ص343.
[6] تفسير الطبري جـ7 ص73.
[7] ابن جرير جـ7 ص75
[8] نسبه شيخ الإسلام ابن تيمية إليه ولم أجده في ديوانه.
[9] الآية رقم: 65 من سورة النساء.
[10] الآية 90 من سورة النحل.
[11] الآية 58 من سورة النساء.
[12] الآية 152 من سورة الأنعام.
[13] قال السيوطي رواه أبو يعلي والخطيب في المتفق والمفترق انظر الجامع الكبير المصور عن المخطوطة جـ1 ص 887.
[14] الآية 26 من سورة ص.
[15] الآية 44 من سورة المائدة.
[16] الآية: 153 من سورة الأنعام.
[17] رواه مسلم جـ4 رقم 2889.
[18] الآية 159 من سورة الأنعام.
[19] الآية 213 من سورة البقرة.
[20] المنهاج جـ3 ص33.
[21] انظر صحيح مسلم جـ2 ص1340 رقم 1715.
[22] المصنف جـ15 ص21.
[23] المصدر نفسه جـ15 ص24.
[24] الآية 213 من سورة البقرة.
[25] الآية 19 من سورة آل عمران.
[26] الآية 17 من سورة الجاثية.
[27] صحيح مسلم جـ2 ص227.
منقول موقع الأوكة
|