التحصُّن من الجنّ
وقال بعضُ أصحاب التفسير في قوله تعالى: " وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ من الإنسِ يَعُوذونَ بِرِجالٍ من الْجِنِّ فزادُوهُمْ رَهقاً " : إنَّ جماعة من العرب كانوا إذا صاروا في تيه من الأرض، وتوسَّطوا بلاد الحُوش، خافوا عبث الجنَّانِ والسَّعالي والغيلان والشياطين، فيقوم أحدهم فيرفع صوته: إنا عائذرن بسيِّد هذا الوادي فلا يؤذيهم أحدٌ، وتصير لهم بذلك خفارة.
أثر عشق الجن في الصرع
وهم يزعمون أن المجنون إذا صرعَتْه الجنّيّةُ، وأنّ المجنونةَ إذا صرعها الجنيّ - أنّ ذلك إنما هو على طريق العشْق والهوى، وشهوة النِّكاح، وأن الشيطان يعشق المرأة منّا، وأنَّ نظْرته إليها من طريق العُجب بها أشدُّ عليها من حُمّى أيام، وأنّ عين الجانّ أشدُّ من عين الإنسان.
قال: وسمع عمرو بن عُبيد، رضي اللّه عنه، ناساً من المتكلّمين يُنْكِرون صَرْع الإنسان للإنسان، واستهواء الجنّ للإنس، فقال وما ينكرون من ذلك وقد سمعوا قول اللّه عزّ ذكره في أكَلة الرِّبا، وما يصيبهم يوم القيامة، حيث قال: " الَّذينَ يأْكُلُونَ الرِّبا لا يقومُون إلاّ كما يَقُومُ الَّذي يَتَخبَّطهُ الشَّيْطانُ منَ المَسِّ " ، ولو كان الشَّيطانُ لم يَخْبِطْ أحداً لما ذكر اللّه تعالى به أكلة الرّبا، فقيل له: ولعلّ ذلك كان مرّةً فذهب، قال: ولعله قد كثر فازداد أضعافاً، قال: وما يُنكرون من الاستهواء بعد قوله تعالى: " كالَّذي استهْوَتْهُ الشّياطينُ في الأرض حَيْرانَ " .
الطاعون طعن من الشيطان
زعم العرب أن الطاعون طعن من الشيطان قال: والعرب تزعم أن الطاعون طعنٌ من الشيطان، ويسمُّون الطَّاعون رماح الجنّ، قال الأسديُّ للحارث الملك الغسّاني:
لَعَمْركَ ما خَشيتُ على أُبيٍّ ... رِماحَ بني مُقيِّدة الحمارِ
ولكني خَشيت على أُبيٍّ ... رِماحِ الجنِّ أو إياكَ حارِ
يقول: لم أكن أخاف على أُبيّ مع منعته وصرامته، أن يقتله الأنذال، ومن يرتبط العير دونَ الفَرس، ولكني إنما كنت أخافك عليه، فتكونُ أنت الذي تطعَنه أو يطعَنه طاعونُ الشّام.
وقال العُمانيّ يذكر دولة بني العبّاس:
قد دَفع اللّه رِماح الجن ... وأذهب العذابَ والتَّجنِّي
وقال زيد بن جُندب الإياديّ:
ولولا رِماحُ الجنِّ ما كان هزهم ... رِماح الأعادي من فصيح وأعجم
ذهب إلى قول أبي دؤاد:
سُلِّط الموتُ والمنونُ عليهم ... فلهم في صَدى المقابر هامُ
يعني الطاعون الذي كان أصاب إياداً.
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه ذكر الطَّاعون فقال: " هو وَخْزٌ من عَدُوِّكم " : وأنَّ عَمْرو بن العاص قام في النّاس في طاعون عَمَواس فقال: إنّ هذا الطاعون قد ظهر، وإنما هو وخْزٌ من الشَّيطان، ففِرُّوا منه في هذه الشِّعاب.
وبلغ مُعاذ بن جبَلٍ، فأنكر ذلك القول عليه.
تصور الجنّ والغيلان والملائكة والناس
وتزعم العامَّة أنّ اللّه تعالى قد مَلّك الجن والشياطين والعُمَّار والغيلانَ أنْ يتحوّلوا في أيِّ صورة شاؤوا، إلاّ الغول، فإنّها تتحوَّل في جميع صُورة المرأة ولباسها، إلاّ رجليها، فلا بُدَّ من أن تكون رجليْ حمار.
وإنما قاسُوا تصوُّر الجن على تصوُّر جبريل عليه السلام في صورة دَحْية بن خليفة الكلبي، وعلى تصوُّر الملائكة الذين أتوا مريم، وإبراهيم، ولوطاً، وداود عليهم السلام في صورة الآدميِّين، وعلى ما جاء في الأثر من تصوُّر إبليس في صورة سُراقة بن مالك بن جعْشم، وعلى تصوّره في صورة الشيخ النجدي، وقاسوه على تصوُّر مَلَكَ الموت إذا حضر لقبض أرواح بني آدم، فإنه عند ذلك يتصوّر على قدر الأعمال الصالحة والطالحة.
قالوا: وقد جاء في الخبر أنّ من الملائكة من هو في صورة الرِّجال، ومنهم من هو في صورة الثِّيران، ومنهم من هو في صورة النسور، ويدلُّ على ذلك تصديقُ النبي صلى الله عليه وسلم لأميّة بن أبي الصّلت، حين أُنشِد:
رَجُلٌ وثَوْرٌ تحت رِجْلِ يمينه ... والنَّسْر للأُخرى ولَيْثٌ مُرْصدُ
قالوا: فإذ قد استقام أن تختلف صُورهم وأخلاط أبدانهم، وتتفق عقولهم وبيانهم واستطاعتهم، جاز أيضاً أن يكون إبليس والشّيطان والغول أن يتبدلوا في الصُّور من غير أنْ يتبدلوا في العقل والبيان والاستطاعة.
قالو: وقد حوَّل اللّه تعالى جعفر بن أبي طالب طائراً، حتى سماه المسلمون الطّيّار، ولم يخرجْه ذلك من أن نراه غداً في الجنة، وله مثلُ عقل أخيه علي رضي اللّه عنهما، ومثل عقل عمه حمزة رضي اللّه تعالى عنه، مع المساواة بالبيان والخلق.
من كتاب الحيوان للمؤلف:أبو عثمان عمرو