الخامس أن ما يأتي به السحرة والكهان والمشركون وأهل البدع من أهل الملل لا يخرج عن كونه مقدورا للانس والجن وآيات الانبياء لا يقدر على مثلها لا الانس ولا الجن كما قال تعالى : قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
السادس أن ما يأتي به السحرة والكهان وكل مخالف للرسل تمكن معارضته بمثله وأقوى منه كما هو الواقع لمن عرف هذا الباب وآيات الانبياء لا يمكن أحدا أن يعارضها لا بمثلها ولا بأقوى منها وكذلك كرامات الصالحين لا تعارض لا بمثلها ولا بأقوى منها بل قد يكون بعض آيات أكبر من بعض وكذلك آيات الصالحين لكنها متصادقة متعاونة على مطلوب واحد وهو عبادة الله وتصديق رسله فهي آيات ودلائل وبراهين متعاضدة على مطلوب واحد والادلة بعضها أدل وأقوى من بعض ولهذا كان المشايخ الذين يتحاسدون ويتعادون ويقهر بعضهم بعضا بخوارقه إما بقتل وإمراض وإما بسلب حاله وعزله عن مرتبته وإما غير ذلك خوارقهم شيطانية ليست من آيات الانبياء والاولياء وكثير من هؤلاء يكون في الباطن كافرا منافقا وكثير منهم يموت على غير الاسلام وكثير منهم يكون مسلما مع ظلم يعرف انه ظلم ومنهم من يكون جاهلا يحسب أن ما هو عليه مما أمر الله به ورسوله هذا كما يقع للملوك المتنازعين على الملك من قهر بعضهم لبعض فهذا خارج عن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وسنة خلفائه الراشدين .
السابع أن آيات الانبياء هي الخارقة للعادات عادات الانس والجن بخلاف خوارق مخالفيهم فإن كل ضرب منها معتاد لطائفة غير الانبياء وآيات الانبياء ليست معتادة لغير الذين يصدقون على الله ويصدقون من صدق على الله وهم الذين جاءوا بالصدق وصدقوا وتلك معتادة لمن يفتري الكذب على الله أو يكذب بالحق لما جاءه فتلك آيات على كذب أصحابها وآيات الانبياء آيات على صدق أصحابها فإن الله سبحانه لا يخلى الصادق مما يدل على صدقه ولا يخلي الكاذب مما يدل على كذبه إذ من نعته ما أخبر به في قوله أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ثم قال خبرا مبتديا ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته فهو سبحانه لا بد أن يمحق الباطل ويحق الحق بكلماته وقال تعالى : وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون كما أخبر في موضع أنه لم يخلق الخلق عبثا ولا سدى وإنما خلقهم بالحق وللحق فلا بد أن يجزي هؤلاء وهؤلاء باظهار صدق هؤلاء وإظهار كذب هؤلاء كما قال تعالى : : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق .
الثامن ان هذه لا يقدر عليها مخلوق فلا تكون مقدورة للملائكة ولا للجن ولا للانس وإن كانت الملائكة قد يكون لهم فيها سبب بخلاف تلك فإنها إما مقدورة للانس أو للجن أو مما يمكنهم التوصل اليها بسبب وأما كرامات الصالحين فهي من آيات الانبياء كما تقدم ولكن ليست من آياتهم الكبرى ولا يتوقف اثبات النبوة عليها وليست خارقة لعادة الصالحين بل هي معتادة في الصالحين من أهل الملل في أهل الكتاب والمسلمين وآيات الانبياء التي يختصون بها خارقة لعادة الصالحين.
التاسع أن خوارق غير الانبياء والصالحين من السحرة والكهان أهل الشرك والبدع تنال بأفعالهم كعباداتهم ودعائهم وشركهم وفجورهم ونحو ذلك وأما آيات الانبياء فلا تحصل بشيء من ذلك بل الله يفعلها آية وعلامة لهم وقد يكرمهم بمثل كرامات الصالحين وأعظم من ذلك مما يقصد به إكرامهم لكن هذا النوع يقصد به الاكرام والدلالة بخلاف الآيات المجردة كانشقاق القمر وقلب العصا حية وإخراج يده بيضاء والإتيان بالقرآن والإخبار بالغيب الذي يختص الله به فأمر الآيات الى الله لا إلى اختيار المخلوق والله يأتي بها بحسب علمه وحكمته وعدله ومشيئته ورحمته كما ينزل ما ينزله من آيات القرآن وكما يخلق من يشاء من المخلوقات بخلاف ما حصل باختيار العبد إما لكونه يفعل ما يوجبه أو يدعو الله به فيجيبه فالخوارق التي ليست آيات تارة تكون بدعاء العبد والله تعالى : يجيب دعوة المضطر وان كان كافرا لكن للمؤمنين من إجابة الدعاء ما ليس لغيرهم وتارة تكون بسعيه في أسبابها مثل توجهه بنفسه وأعوانه وبمن يطيعه من الجن والانس في حصولها وأما آيات الانبياء فلا تحصل بشيء من ذلك .
من كتاب النبوات لشيخ الإسلام ابن تيمية .
يتبع..