خصائص الوحي المعرفية .
بسم الله الرحمن الرحيم
خصائص الوحي المعرفية: أ- ربانيَّة المصدر: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف: 9]، فالعلم الموحى به محفوظ من التحريف والتبديل، مؤتمن الطريق كي ما يصل إلى الناس، وهم على يقينٍ أنه من المصدر كما أُنزِل، فقد تكفَّل الله - تعالى - بعصمة رسله، والنص الموحى مقدَّس، وعلى أعلى درجات اليقين، هذا التأكيد على ربانية المصدر يعطي العلم المأخوذ من الوحي قيمةً أساسية وكبرى بين غيره من العلوم، ويكسِبه مركز الثقة ومحور اليقين فيكون معيارًا لغيره في الخطأ والصواب، والكذب والصدق، والحق والباطل؛ أي: هو المرجع والمعيار للحقيقة والحق، وهو الحكم. والمصدرية هذه لا تلغي الفكر البشري، بل تكسبه ثقة ويقينًا أكثر في وضع معيار لتقويم أفكاره، وعقائده وما أخذه عن عالم الشهادة، كما تمنحه دور الفهم المعلم المأخوذ من المصدر الرباني وجعلِه قاعدة للتحاكم: "فليس له أن يتلقَّى هذا التصور - من المعرفة النبوية - بمقرَّرات سابقة يستمدُّها من أيِّ مصدر آخر، أو يستمدها من مقولاته هو نفسه، ثم يحاكم إليها هذا التصور ويزنه بموازينها، إنَّما هو يتلقَّى موازينه ومقرَّراته من هذا التصور ذاته، وبتكليفٍ منه، ويستقيم على منهجه، كما يتلقى الموضوعية في هذا التصوُّر من المصدر الإلهي الذي جاء به لا من مصدر آخر خارجه، ثم هو الميزان الذي يرجع إليه بكافَّة ما يَعِنُّ له من مشاعر وأفكار وقِيَم وتصوُّرات في مجرى حياته الواقعية، كذلك ليزنها عنده ويعرف حقها من باطلها، وصحيحها من زائفها"[40]. ب- المجال غيبي: هناك جوانبُ لا يدركها العقل، ولا تَصِل لها الحواسُّ، ويختصُّ بنقلها الوحي؛ كالذات الإلهية وأسمائها وصفاتها وأفعالها؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، والمشيئة الإلهية: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40]، {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 47]، وعالم الغيب لا يُعلَم منه شيء إلا بإذنه، ولا نعلم تفاصيله إلا من الوحي: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26- 27]. كما أوضح الوحي مجال العقل؛ كي لا يرهق بالبحث في غير مجالاته: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59]، ففي الآية إرشادٌ إلى توجيه الطاقة الفكرية إلى المجالات القابلة للإدراك كي ما تحقق العمارة والخلافة والتمكين في الأرض، وتبتعد عما لا طاقة لها به، ولا طائل من وراء الخوض فيه، وفي هذا توفيرٌ للجهد وعدم إهدار للوقت في بحوث لا نهاية لها[41]. ج- الكمال والخلود: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون} [النحل: 64]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]. هذه المعرفة شاملةٌ لكل ما اختلف فيه الذين أنزل عليهم الكتاب، فالوحي نَزَل بالحق الكامل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 176]، هداية للناس الهداية الكاملة دون أن يحتاجوا إلى غيره مما لم يرشد إليه: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} [الجاثية: 20]، يبصر بها الناس الحق والحقيقة التي يبحثون عنها من كبرى اليقينيَّات، والمسائل الوجودية، والأخلاقية والأخروية، والجواب عن هذا لا يكون كاملاً إلاَّ في الوحي: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]. والوحي هدايته خالدة، وشاملة لكل زمان ومكان؛ لأنه من عند من يعلم ويحيط بكل شيء مكانًا وزمانًا؛ {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، والعقول مهما بلغت فلن تصل حتى إلى ما يقارب علمه؛ {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة : 255]. فالمعرفة من الوحي شاملة لحقائق الألوهية والربوبية، والكون المخلوق، ولحقائق الإنسان... فالكل يأخذ منها، وإن تفاوتوا في الأخذ والعطاء فليس تفاوتًا فيما يجب العلم به وإنما تفاوت في الفهم والاستزادة مما يعمِّق الفهم وييسِّره، ومن ثَمَّ فهي يقينٌ لكلِّ مستويات البشر، وجميع ظروفه وملابساته، وجميع أزمانه وأمكنته، وهي شاملة للكينونة الإنسانية بكلِّ ما فيها، ولما وراء هذه الكينونة الإنسانية بكلِّ ما فيها، وشاملة كذلك لمبدأ خلقه ومنتهاه، وشاملة لتفسير الوجود والمعرفة والقيم. د- التوازن والثبات: العلم المتلقَّى من الوحي صادرٌ عن الله - تعالى - في أصله؛ لذاك هو منزَّه عن الأهواء، والتأثُّر بالعوارض، والتَّغيُّر على حسب الأحوال، فنزوله كان عن علم محيط بالزمان والمكان، لكلِّ الظروف والوقائع، فكانت أحكامه ثابتةً، وما أنزل على قوم هو صالح لهم في كل عصورهم، وما أرسل للناس كافَّة هو لكلِّ الأقوام والأمم والأفراد أينما وُجِدوا وحيثما كانوا، فأصوله ثابتة تُسايِر المتغيِّرات، وهذا الثبات يكسبه التوازن في إصدار الأحكام، والمصدريَّة لليقين والحق، إذ المعيار كيما يتحاكم إليه لا بُدَّ أن يكون ثابتًا لا يتغيَّر، ومتوازنًا مع كل ما يحاكم إليه؛ قال - تعالى -: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48]، فالله أنزل القرآن أفضل الكتب مشتمِلاً على الحق من الأحكام والأخبار، مصدِّقًا لما ورد في الكتب السابقة، ومؤكِّدًا عليها، مطابقًا لما فيها، مهيمنًا عليها بما فيه من زيادة عليها واستيعاب لها كلها، ففيه نبأ السابقين وخبر اللاحقين. ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتحاكم إليه؛ لأنه معيارٌ ثابت غير مضطرب ولا متغيِّر، ولا يتقلب ولا يرجع لأهواء الناس؛ لأنها لا قرار لها، وما لا مستقر له لا يُقَعَّد عليه، فمعلومٌ أن القانون والبديهي لا يكون إلا على تصوُّر صادق ثابت، فإن تصور أن ثباته ربما لا يناسب تحوُّلات الأزمنة وتنوع الأماكن والمجتمعات، وما يلحقها من تغير للتقاليد والعادات والثقافات، كان الردُّ أن لكل أمة مما سبق شرعةً في الأحكام التشريعية، وسنة وسبيلاً يتبعونه، وهذه الأمة هذا سبيلها، فالشرائع تتغيَّر بحسب تغيُّر الأمم في الأزمنة الغابرة؛ لأن كل أمة أنزل عليها تشريع. غير أن الأصول وهي العقائد ثابتة، لكن ما بعد نزول القرآن فكلها أمة واحدة تشملها شريعة وعقيدة واحدة؛ قال - تعالى -: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيب} [الشورى: 13]، فهذا ما استوى فيه الأنبياء - حتى أولو العزم - وهو التوحيد والأخلاق والقيم والآداب، فهي ثابتةٌ بين كل الأمم متوازنة مع زمانهم ومكانهم. هـ- العملية والإيجابية: الوحي يزوِّد الإنسان بمعرفة موضوعية ذات حقائق بالوجود وصور الخلافة فيه والسير في الأرض، بل الإيمان والمعرفة والتعقُّل وكل وسائل الإدراك كان ذمها في القرآن حال تعطيلها عن أداء العمل الذي تم إبلاغه بالعلم، فكلُّ علم انتفى عنه العمل فهو مذمومٌ في الوحي، فسوَّى بين وجود وسائل المعرفة وعدمها حال لم يبادر صاحبها إلى العمل بمقتضى العلم الحاصل معه؛ قال - تعالى - عمَّن تركوا العمل بما علموا: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير} [الملك: 8- 10]، فنفيهم للتعقُّل والسماع هو نفيٌ للاستجابة لمقتضى العلم الحاصل من الوحي. والوحي يبثُّ في واقع كوني محسوس، ويبرهن على صحَّته من الكون، ويرشد إلى الكون كمصدر للمعرفة، ويجعله محورَ استخلافٍ الوحيُ منهاجه، فالعمل أساسُ العلم في الوحي: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]. فكان المنهج الربانيُّ واقعيًّا عمليًّا، يرفع الإنسان من حال التَّرَف الفكري إلى العمل الإيجابي القلبي، وعمل الجوارح لتسخير الكون لفائدته والتمكُّن منه، أو للقربة من خالق الكون بكل ذلك، وكلها تحقِّق التوازُن والانسجام والشمولية المعرفية الإدراكية والإرادية للإنسان؛ لأنها من عند من فَطَره: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، ومخالفة فطرة الله - تعالى - التي خلق الناس عليها هي علَّة كل اضطراب فكري أو نفسي أو عملي، فهي أسُّ الفوضى في عالم البشر. ح- خصوصية الطريق: فالوحي علمٌ لآحاد الناس ممن اصطفاهم الله - تعالى - وعصمهم وهيَّأهم لحمل الرسالة، وليست للعامَّة ولا أحد له القدرة أن يكتسب الوحي، أو يصل إليه بعقله وقواه الإدراكية، مهما علا في العلوم، ومارس من رياضات قلبية. والخصوصية هنا في الطريق والموضوع المدرَك، أمَّا الخطاب فهو للناس كافَّة، فهم لا يصلون إلى مصدر الوحي، ولا ترتقي عقولهم إلى إدراكه عن الملائكة، أو عن الله - تعالى - لعلوِّه، لكن تصل إلى الخطاب النبوي فتأخذ العقول العلم الموحى به من سماع كلام الأنبياء؛ أي: خطابهم، وهذا شامل لكل الناس، فالإيحاء خاصٌّ، والموحى به يبلِّغ للناس عامَّة، فالنبوة خاصة والتكليف عام؛ {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26- 27]. ط- خصوصية الغاية: القرآن الكريم ذكر مفهومين يوضِّحان أن الغاية الرئيسة: • معرفة الله والتقرُّب إليه. • إقامة العدل والقسط في المجتمع البشري. فالوحي أُنزِل ليُعَرِّف بالمصدر الإلهي، ويعرف بطرق إقامة العدل، والقسط في كل شيء؛ {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]. "فالدعوة إلى الله ومعرفته والتقرب إليه هي التوحيد النظري والتوحيد العملي الفردي الاجتماعي، والتوحيد الاجتماعي هو مقدمةٌ ووسيلةٌ للوصول إلى الغاية السامية وهي الحركة إلى الله فقط"[42]، فالفلاح فلاحٌ دنيوي يكون بإقامة القسط والعدل والميزان في نواحي الدنيا النفسية والاجتماعية والمادية، حتى في الصناعة والزراعة والتجارة؛ لأنها كلها قائمة على قوانين ثابتة، والميزان لكل حركة وفعل وجزء ومادة وفكرة، فيكون بعده العدل ليكون الانتفاع والخير والاستفادة عن قدر منظم، فأصل النظام وجود الميزان، والميزان وُجِد لإقامة العدل، ولا نظام دون عدل في الفكر أو الفعل، والفلاح الدنيوي تمهيدٌ للفلاح الأخروي؛ بأن يسخر ذلك العدل والقسط لمعرفة المعبود والتقرُّب منه وإليه، وليكون العدل أكثر ثباتًا ويقينًا لا بُدَّ من تزكية له من منزل الميزان؛ لأنه هو من يعلم المقادير، فهو من يضبط العدل من الظلم. فالوحي هو ميزان العدل ومنهج للوزن، وإدراك الفلاح الدنيوي لإصابة الفلاح الأخروي. رابط الموضوع: مفهوم الوحي - علوم قرآن - موقع آفاق الشريعة - شبكة الألوكة |
رد: خصائص الوحي المعرفية .
جزاك الله خير وبارك الله فيك |
رد: خصائص الوحي المعرفية .
رائع ما قرأته هنآ بارك الله فيك 8
|
| الساعة الآن 10:15 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
HêĽм √ 3.2 OPS BY: ! ωαнαм ! © 2011-2012
جميع الحقوق محفوظة لمركز دراسات وأبحاث علوم الجان العالمي