بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ... ابن تيميه
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو عبدالله محمد بن عمر الرازي الحمد لله الواجب وجوده وبقاؤه الممتنع تغيره وفناؤه العظيم قدره واستعلاؤه العميم نعماؤه وآلاؤه الدال على وحدانيته أرضه وسماؤه المتعالي عن شوائب التشبيه والتعطيل صفاته وأسماؤه فاستواؤه قهره واستيلاؤه ونزوله بره وعطاؤه ومجيئه حكمه وقضاؤه ووجهه وجوده أو وجوده وحباؤه وعينه حفظه وعونه اجتباؤه وضحكه عفوه أو إذنه وارتضاؤه ويده وإنعامه وإكرامه واصطفاؤه ولا يجري في الدارين من أفعاله إلا ما يريد ويشاؤه العظمة إزاره والكبرياء رداؤه # أحمده على جزيل نعمه وجميل كرمه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا # أما بعد فإني وإن كنت ساكنا في أقاصي بلاد المشرق إلا أني سمعت أهل المشرق والمغرب مطبقين متفقين على أن السلطان المعظم العالم العادل المجاهد سيف الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين أفضل سلاطين الحق واليقين أبا بكر بن أيوب لا زالت آيات راياته في تقوية الدين الحق والمذهب الصدق متصاعدة إلى عنان السماء وآثار أنوار قدرته ومكنته باقية بحسب تعاقب الصباح والمساء أفضل الملوك وأكمل السلاطين في آيات الفصل وبينات الصدق وتقوية الدين القويم ونصرة الصراط المستقيم فأردت أن أتحفه بتحفة سنية وهدية مرضية فأتحفته بهذا الكتاب الذي سميته بأساس التقديس على بعد الدار وتباين الأقطار وسألت الله الكريم أن ينفعه به في الدارين بفضله وكرمه ورتبته على أربعة أقسام # القسم الأول في الدلائل على أنه تعالى منزه عن الجسمية والحيز وفيه فصول الفصل الأول # في تقرير المقدمات التي يجب إيرادها قبل الخوض في الدلائل وهي ثلاثة المقدمة الأولى اعلم أنا ندعي وجود موجود لا يمكن أن يشار إليه بالحس أنه ههنا أو هناك أو نقول أنا ندعي وجود موجود غير مختص بشيء من الأحياز والجهات أو نقول إنا ندعي وجود موجود غير حال في العالم ولا مباين عنه في شيء من الجهات الست التي للعالم هذه العبارات متفاوتة والمقصود من الكل شيء واحد # ومن المخالفين من يدعي أن فساد هذه المقدمات معلوم بالضرورة وقالوا لأن العلم الضروري حاصل بأن كل موجودين فإنه لا بد وأن يكون أحدهما حالا في الآخر أو مباينا عنه بجهة من الجهات الست المحيطة به قالوا وإثبات موجودين على خلاف هذه الأقسام السبعة باطل في بداية العقول # واعلم أنه لو ثبت كون هذه المقدمة بديهية لم كن الخوض في ذكر الدلائل جائزا لأن على تقدير أن يكون الأمر على ما قالوه كان الشروع في الاستدلال على كون الله تعالى غير حال في العالم ولا مباين عنه بالجهة إبطالا للضروريات والقدح في الضروريات بالنظريات يقتضي القدح في الأصل بالفرع وذلك يوجب تطرق الطعن إلى الأصل والفرع معا وهو باطل بل يجب علينا بيان أن هذه المقدمة ليست من المقدمات البديهية حتى يزول هذا الأشكال فنقول الذي يدل على أن هذه المقدمات ليست بديهية وجوه # الأول أن جمهور العقلاء المعتبرين اتفقوا على أنه تعالى ليس بمتحيز ولا مختص بشيء من الجهات وأنه تعالى غير حال في العالم ولا مباين عنه في شيء من الجهات ولو كان فساد هذه المقدمات معلوما بالبديهة لكان إطباق أكثر العقلاء على إنكارها ممتنعا لأن الجمع العظيم من العقلاء لا يجوز إطباقهم على إنكار الضروريات بل نقول الفلاسفة اتفقوا على إثبات موجودات ليست بمتحيزة ولا حالة في المتحيز مثل العقول والنفوس والهيولى بل زعموا أن الشيء الذي يشير إليه كل إنسان بقوله أنا موجود ليس بجسم ولا جسماني ولم يقل أحد بأنهم في هذه الدعوى منكرون للبديهيات بل جمع عظيم من المسلمين اختاروا مذهبهم مثل معمر بن عباد السلمي من المعتزلة ومثل محمد بن النعمان من الرافضة ومثل أبي القاسم الراغب وأبي حامد الغزالي من أصحابنا وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يقال بأن الله تعالى ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز قول مدفوع في بداية العقول ولا خارجه لم يقل أحد من العقلاء أنه معلوم بالضرورة وكذلك سائر لوازم هذا القول مثل كونه ليس بجسم ولا متحيز ونحو ذلك لم يقل أحد من العقلاء إن هذا النفي معلوم بالضرورة بل عامة ما يدعى في ذلك أنه من العلوم النظرية والعلوم النظرية لا بد أن تنتهي إلى مقدمات ضرورية وإلا لزم الدور القبلي والتسلسل فيما له مبدأ حادث وكل هذين معلوم الفساد بالضرورة متفق على فساده بين العقلاء # وقال مما يبين أن هذه القضية حق أن جميع الكتب المنزلة من السماء وجميع الأنبياء جاؤوا بما يوافقها لا بنا يخالفها وكذلك سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم يوافقون مقتضاها لا يخالفونها ولم يخالف هذه القضية الضرورية من له في الأمة لسان صدق بل أكثر أهل الكلام والفلسفة يقولون بموجبها وإنما خالفها طائفة من المتفلسفة وطائفة من المتكلمين كالمعتزلة ومن اتبعهم والذين خالفوها عقلاؤهم وعلماؤهم تناقضوا في ذلك وادعوا الضرورة في قضايا من جنسها وهي أبين منها ومن أنكر منهم ذلك أدى به الأمر إلى جحد عامة الضروريات والحسيات # يبين ذلك أن الذين قالوا إن الخالق سبحانه ليس هو جسم ولا متحيز تنازعوا بعد ذلك هل هو فوق العالم أم ليس فوق العالم فقال طوائف كثيرة هو فوق العالم بل هو فوق العرش وهو مع هذا ليس بجسم ولا متحيز وهذا يقوله طوائف من الكلابية والكرامية والأشعرية وطوائف من أتباع الأئمة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وأهل الحديث والصوفية وهذا هو الذي حكاه الأشعري عن أهل الحديث والسنة وقال طوائف منهم ليس فوق العالم ولا فوق العالم شيء أصلا ولا فوق العرش شيء وهذا قول الجهمية والمعتزلة وطوائف من متأخري الأشعرية والفلاسفة النفاة والقرامطة الباطنية أو أنه في كل مكان بذاته كما يقول ذلك طوائف من عبادهم ومتكلميهم وصوفيتهم وعامتهم ومنهم من يقول ليس هو داخلا فيه ولا خارجا عنه ولا حالا فيه وليس في مكان من الأمكنة فهؤلاء ينفون عنه الوصفين المتقابلين جميعا وهذا قول طوائف من متكلميهم ونظارهم والأول هو الغالب على عامتهم وعبادهم وأهل المعرفة والتحقيق منهم والثاني هو الغالب على نظارهم ومتكلميهم وأهل البحث منهم والقياس فيهم وكثير منهم يجمع بين القولين ففي حال نظره وبحثه يقول بسلب الوصفين المتقابلين كليهما فيقول لا هو داخل العالم ولا خارجه وفي حال تعبده وتألهه يقول بأنه في كل مكان ولا يخلو منه شيء # وهذه المقالات فسادها معلوم بالضرورة العقلية وإن كان قد تواطأ عليها جماعة كثيرة فإن الجماعة الذين يقلدون مذهبا تلقاه بعضهم عن بعض يجوز اتفاقهم على جحد الضروريات كما يجوز الاتفاق على الكذب مع المواطئة والاتفاق ولهذا يوجد في أهل المذاهب الباطلة كالنصارى والرافضة والفلاسفة من يصر على القول الذي يعلم فساده بالضرورة وإنما الممتنع ما يمتنع على أهل التواتر وهو اتفاق الجماعة العظيمة على الكذب من غير مواطأة ولا اتفاق فيمتنع عليهم جحد ما يعلم ثبوته بالاضطرار وإثبات ما يعلم نفيه بالاضطرار لأن هذا اتفاق على الكذب وأهل التواتر لا يتصور منهم الكذب فأما إذا لقنوا قولا بشبهة وحجج واعتقدوا صحته جاز أن يصروا على اعتقاده وإن كان مخالفا لضرورة العقل وإن كانوا جماعة عظيمة ولهذا يطبع الله على قلوب الكفار فلا يعرفون الحق قال الله تعالى ^ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ^ وقال تعالى ^ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ^ وقال تعالى ^ كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ^ وإنما تؤخذ الضروريات من القلوب السليمة والعقول المستقيمة التي لم تمرض بما تقلدته من العقائد وتعودته من المقاصد # وقال الشيخ قالت المثبتة إنما أثبته هؤلاء المتفلسفة من موجودات ممكنة ليست أجساما ولا أعراضا قائمة بالأجسام كالعقل والنفس والهيولى والصورة التي يدعون أنها جواهر عقلية موجودة خارج الذهن ليست أجساما ولا أعرضا لأجسام فإن أئمة أهل النظر يقولون إن فسادها هذا معلوم بالضرورة كما ذكر ذلك أبو المعالي الجويني وأمثاله من أئمة النظر والكلام ومن لم يهتد لهذا كالشهرستاني والرازي والآمدي ونحوهم فهم ناظروا الفلاسفة مناظرة ضعيفة ولم يثبتوا فساد أصولهم كما بين ذلك أئمة النظر الذين هم أجل منهم وسلم هؤلاء الفلاسفة مقدمات باطلة استزلوهم بها عن أشياء من الحق بخلاف أئمة أهل النظر كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي الجويني وأبي حامد الغزالي وأبي الحسين البصري وأبي عبدالله بن الهيصم الكرامي وأبي الوفاء علي بن عقيل ومن قبل هؤلاء مثل أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم وأبي الحسين الأشعري والحسن بن يحيى النوبختي ومن قبل هؤلاء كأبي عبدالله محمد بن كرام وابن كلاب وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وأبي إسحاق النظام وأبي الهذيل العلاف وعمرو بن بحر الجاحظ وهشام الجواليقي وهشام بن الحكم وحسين بن محمد النجار وضرار بن عمرو الكوفي وأبي عيسى محمد بن عيسى برغوث وحفص الفرد وغير هؤلاء ممن لا يحصيهم إلا الله من أئمة أهل النظر والكلام فإن مناظرة هؤلاء للمتفلسفة خير من مناظرة أولئك |
# وهؤلاء وغيرهم لا يسلمون للفلاسفة إمكان وجود ممكن لا هو جسم ولا قائم بجسم بل قد صرح أئمتهم بأن بطلان القسم الثالث معلوم بالضرورة بل قد بين أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب إمام الصفاتية كأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي عبدالله بن مجاهد وغيرهم من انحصار الموجودات في المباين والمحايث وأن قول من أثبت موجودا غير مباين ولا محايث معلوم الفساد بالضرورة مثل ما بين أولئك انحصار الممكنات في الأجسام وأعراضها وأبلغ # وطوائف من النظار قالوا ما ثم موجود إلا جسم أو قائم بجسم إذا فسر الجسم بالمعنى الاصطلاحي لا اللغوي كما هو مستقر في فطر العامة وهذا قول كثير من الفلاسفة أو أكثرهم وكذلك أيضا الأئمة الكبار كالإمام أحمد في رده على الجهمية وعبدالعزيز المكي في رده على الجهمية وعبد العزيز المكي في رده على الجهمية وغيرهما بينوا أن ما ادعاه النفاة من إثبات قسم ثالث ليس بمباين ولا محايث معلوم الفساد بصريح العقل وأن هذه من القضايا البينة التي يعلمها العقلاء بعقولهم # وإثبات لفظ الجسم ونفيه بدعة لم يتكلم به أحد من السلف والأئمة كما لم يثبتوا لفظ التحيز ولا نفوه ولا لفظ الجهة ولا نفوه ولكن أثبتوا الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة ونفوا مماثلة المخلوقات # ومن نظر في كلام الناس في هذا الباب وجد عامة المشهورين بالعقل والعلم يصرحون بأن إثبات وجود موجود لا محايث للآخر ولا مباين ونحو ذلك معلوم بصريح العقل وضرورته
# ومما يوضح الأمر في ذلك أن النفاة ليس لهم دليل واحد اتفقوا على مقدماته بل كان كل طائفة تقدح في دليل الأخرى فالفلاسفة تقدح في دليل المعتزلة على نفي الصفات بل على نفي الجسم والتحيز ونحو ذلك لأن دليل المعتزلة مبني على أن القديم لا يكون محلا للصفات والحركات فلا يكون جسما ولا متحيزا لأن الصفات أعراض وهم يستدلون على حدوث الجسم بحدوث الأعراض والحركات وأن الجسم لا يخلو منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث بل الأشعري نفسه ذكر في رسالته إلى أهل الثغر أن هذا الدليل الذي استدلوا به على حدوث العالم وهو الاستدلال على حدوث الأجسام بحدوث أعراضها هو دليل محرم في شرائع الأنبياء لم يستدل به أحد من الرسل وأتباعهم وذكر في مصنف له آخر بيان عجز المعتزلة عن إقامة الدليل على نفي أنه جسم وأبو حامد الغزالي وغيره من أئمة النظر بينوا فساد طريق الفلاسفة التي نفوا بها الصفات وبينوا عجزهم عن إقامة دليل على نفي أنه جسم بل وعجزهم عن إقامة دليل على التوحيد وأنه لا يمكن نفي الجسم إلا بالطريق الأول الذي هو طريق المعتزلة الذي ذكر فيه الأشعري ما ذكر # فإذا كان كل من أذكياء النظار وفضلائهم يقدح في مقدمات دليل الفريق الآخر الذي يزعم أنه بنى عليه النفي كان في هذا دليل على أن تلك المقدمات ليست ضرورية إذ الضروريات لا يمكن القدح فيها وإن قيل إن هؤلاء قدحوا في هذه المقدمات قيل فإذا جوزتم على أئمة النفاة أن يقدحوا بالباطل في المقدمات الضرورية فا التي يستدل بها أهل الإثبات أولى وأحرى # وقد بسط في غير هذا الموضع الكلام على أدلة النفاة ومقدمات تلك الأدلة على وجه التفصيل بحيث يبين لكل ذي عقل خروج أصحابها عن سواء السبيل وأنهم قوم سفسطوا في العقليات وقرمطوا في السمعيات ما ليس معهم على نفيهم لا عقل ولا سمع ولا رأي سديد ولا شرع بل معهم شبهات يظنها من لم يتأملها بينات ^ كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ^ ولهذا تغلب عليهم الحيرة والارتياب والشك والاضطراب وقد صارت تلك الشبهات عندهم مقدمات مسلمة يظنونها عقليات أو برهانيات وإنما هي مسلمات لما فيها من الاشتراك والاشتباه فلا تجد لهم مقدمة إلا وفيها ألفاظ مشتبهة فيها من الإجمال والالتباس ما يضل بها من يضل من الناس وكيف تكون النتيجة المثبتة بمثل هذه المقدمات دافعة لتلك القضايا الضروريات # وهذا الذي قد نبه عليه في هذا المقام كلما أمعن الناظر فيه وفيما تكلم أهل النفي فيه ازداد بصيرة ومعرفة بما فيه فإنه لا يتصور أن يبني النفي على مقدمات ضرورية تساوى في جزم العقل بها مقدمات أهل الإثبات الجازمة لفساد نتيجتهم وهو قولهم إنه موجود لا داخل العالم ولا خارجه جزما لا يساويه فيه جزم العقل بالمقدمات التي تبنى عليها هذه النتيجة الثابتة امتنع أن يزول ذلك الجزم العقلي الضروري بنتيجة ليست مثله في الجزم # وهذا الكلام قبل النظر في تلك المقدمات المعارضة لهذا الجزم هل هي صحيحة أو فاسدة وإنما المقصود هنا أنه لا يصح للمناظرة ولا يقبل في المناظرة أن يعارض هذا الجزم المستقر في الفطرة بما يزعمه من الأدلة النظرية وهذا المقام كاف في دفعه وإن لم تحل شبهاته كما يكفي في دفع السوفسطائي أن يقال إنما تنفيه قضايا ضرورية فلا يقبل نفيها بما يذكر من الشبهة النظرية # قال أبو عبدالله الرازي # الثاني أنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود لا يكون حالا في العالم ولا مباينا عنه في شيء من الجهات الست وعرضنا على العقل أيضا أن الواحد نصف الاثنين وأن النفي والإثبات لا يجتمعان وجدنا العقل متوقفا في المقدمة الأولى جازما في المقدمة الثانية وهذا التفاوت معلوم بالضرورة وذلك يدل على أن العقل غير قاطع في المقدمة الأولى لا بالنفي ولا بالإثبات غاية ما في الباب أنا نجد من أنفسنا ميلا إلى القول بأن كل ما سوى العالم لا بد وأن يكون حالا فيه أو مباينا عنه بالجهة والحيز إلا أنا نقول لما رأينا أن العقل لم يجزم بهذه المقدمة مثل جزمه بأن الواحد نصف الاثنين علمنا أنه غير قاطع بأن ما سوى العالم لا بد وأن يكون حالا فيه أو مباينا عنه بالجهة بل هو مجوز لنقيضه وإذا ثبت هذا فنقول إن ذلك الظن إنما حصل بسبب أن الوهم والخيال لا يتصرفان إلا في المحسوسات فلا جرم كان من شأنهما أنهما يقضيان على كل شيء بالأحكام اللأئقة بالمحسوسات فهذا الميل إنما جاء بسبب الوهم والخيال لا بسبب العقل البتة # وقال الشيخ وأما قوله إن التقسيم إلى مباين ومحايث لا يعلم فساده كما لا يعلم فساد أن الواحد نصف الاثنين فنقول إن القضايا الضرورية ليس من شرطها أن تكون مفرداتها بينة لكل أحد بل شرطها أن تكون مفرداتها إذا تصورت جزم العقل بها وتصور الواحد نصف الاثنين بين لكل أحد فلهذا كان التصديق التابع له أبين من غيره ولهذا لم يكن هذا في العقل كبيان أن خمسة وخمسين وربعا وثمنا نصف مائة وعشرة ونصف وربع وكلاهما ضروري ونظائر هذا كثيرة ومعنى المباين والمحابين ليس بينا ابتداء إذ اللفظ فيه إجمال كما تقدم ولكن إذا بين معناه لأهل العقل جزموا بانتفاء قسم ثالث كما أن معنى القديم والمحدث والواجب والممكن والجوهر والعرض ونحو ذلك |
لما لم يكن بينا بنفسه لعامة العقلاء لم يجزموا بانحصار الموجود في هذين القسمين فإذا بين لهم المعنى جزموا بذلك # فإذاقيل للعقلاء موجودان قائمان بأنفسهما لا يكون هذا خارجا عن الآخر مباينا له ولا داخلا فيه ولا بعيدا ولاقريبا منه ولا بعيدا عنه ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا أمامه ولا وراءه ولا يتصور أن يشير أحدهما إلى الآخر ولا يذهب إليه ولا يقرب منه ولا يبعد عنه ولا يتحرك إليه ولا عنه ولا يقبل إليه ولا يعرض عنه ولا يحتجب عنه ولا يتجلى له ولا يظهر لعينه ولا يستتر عنه وأمثال هذه المعاني التي يقولها النفاة علم العقلاء بالاضطرار امتناع وجود هذين # قال أبو عبد الله الرازي # الثالث أنا إذا قلنا الموجود إما أن يكون متحيزا أو حالا في المتحيز أولا متحيزا ولا حالا في المتحيز وجدنا العقل قاطعا بصحة هذا التقسيم ولو قلنا الموجود إما أن يكون متحيزا أو حالا في المتحيز واقتصرنا على هذا القدر علمنا بالضرورة أن هذا التقسيم غير تام ولا منحصر لأنه لا يتم إلا بضم القسم الثالث وهو أن يقال وإما أن لا يكون متحيدا ولا حالا في المتحيز وإذا كان الأمر كذلك علمنا بالضرورة أن احتمال هذا القسم وهو وجود موجود لا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز قائم في العقول من غير مدافعة ولا منازعة وأنه لا يمكن الجزم بنفيه ولا بإثباته إلا بدليل منفصل # وقوله إذا قدر موجود ليس بمتحيز ولا في جهة يصح فيه هذا التقسيم
فيقال له ثبوته على هذا التقدير لا يقتضي ثبوته في نفس الأمر إلا أن يكون التقدير ثابتا في نفس الأمر وهذا التقسيم ينفي ثبوت هذا التقدير في نفس الأمر وإذا كان التقسيم معلوما بالاضطرار كان من لوازم ذلك انتفاء هذا التقدير فلا يقبل إثبات هذا التقدير بالنظر لأن ذلك يتضمن القدح في الضروري بالنظري وإذا لم يكن إلى إثبات هذا التقدير سبيل لم يضر فساد التقسيم بتقدير ثبوته لأن ذلك يتضمن فساد التقسيم بتقدير ثبوت ما لم يثبت ولا يمكن إثباته # وأيضا فلو قدر أن إثبات هذا التقدير ممكن كان هذا من باب المعارضة لا من باب منع شيء من المقدمات والمعارضة تحتاج إلى إقامة الدليل ابتداء وصار هذا الاعتراض بمنزلة أن يقال إذا قدر موجد ليس بقديم ولا محدث لم يصح تقسيم الموجود إلى محدث وقديم وإذا قدر موجود ليس بواجب ولا ممكن ولا قائم بغيره لم يصح تقسيم الموجود إلى الواجب والممكن والقائم بنفسه والقائم بغيره ومعلوم أن التقسيم المعلوم بالاضطرار لا يفسد بتقدير نقيضه أو ما يستلزم نقيضه وإنما يفسد التقسيم بثبوت ما يناقضه فإذا كان المناقض لا يعلم إلا بالنظر لم يصح أن يكون مناقضا فعلم أن هذا من باب معارضة الضروري بالنظري فلا يكون مقبولا ولا يكون حقا # وهذا كما قال القرمطي الباطني لا أقول هو موجود ولا معدوم ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز لأن ذلك من صفات الأجسام فإن الجسم ينقسم إلى حي وميت وعالم وجاهل وقادر وعاجز وموجود ومعدوم فإذا قدرنا ما ليس بجسم لم يكن عالما ولا جاهلا ولا قادرا ولا عاجزا ولا حيا ولا ميتا كان كلام القرمطي هذا بمنزلة كلام هؤلاء الجهمية أنه لا داخل العالم ولا خارجه وقول جهم والقرامطة من جنس واحد كما نقله عن الفريقين أصحاب المقالات وقالوا إنه لا يقال هو شيء ولا ليس بشيء فمن نفى عنه هذه المتقابلات التي لا بد للموجود من أحدهما لم يمكنه قطع القرامطة ولهذا كانت مناظرة هؤلاء للقرامطة مناظرة ضعيفة كما هو مبسوط في موضعه # قال أبو عبدالله الرازي الرابع إنا نعلم بالضرورة أن أشخاص الناس مشتركة في مفهوم الإنسانية ومتباينة بخصوصياتها وتعيناتها وما به المشاركة غير ما به الممايزة وهذا يقتضي أن يقال الإنسانية من حيث هي إنسانية مجرد عن الشكل المعين فالإنسانية من حيث هي هي معقول مجرد فقد أخرج البحث والتفتيش عن المحسوس ما هو معقول مجرد وإذا كان كذلك فكيف يستبعد في العقل أن يكون خالق المحسوسات منزها عن لواحق الحس وعلائق الخيال # قال الشيخ رحمة الله قالت المثبتة ما ذكرتموه من الحجج على إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه حجج سوفطائي أما الإنسانية المشتركة بين الأناسي ونحوها من الكليات فهذه لا يقال إنها موجودة خارج الذهن لا داخل العالم ولا خارجه فإنها أمور ثابتة في الذهن والتصور وإذا قيل إنها موجودة في الخارج فلا بد أن تكون عينا قائمة بنفسها أو صفة قائمة بالعين ولا ريب أنها لا توجد في الخارج كلية مطلقة بشرط ما هو معقول بشرط الإطلاق وإنما توجد في الخارج معينة مشخصة فقول القائل إن التفتيش يخرج من المحسوس ما هو معقول إن أراد به أنه معقول ثابت في العقل فما هو ثابت في العقل ليس هو الموجود في الخارج بعينه وإن أراد أن في المحسوس الموجود في الخارج أمرا معقولا ليس هو في الذهن فهذا باطل فليس في الإنسان المعين إلا ما هو معين وهو هذا الإنسان المعين بدنه وروحه وصفاته وهذا كله أمر معين مقيد مشخص ليس هو كليا ولا مطلقا # الوجه العاشر قوله وإذا كان كذلك فكيف يستبعد في العقل أن يكون خالق المحسوسات منزها عن لواحق الحس وعلائق الخيال # يقال له أنت الذي جعلته متخيلا لا حقيقة له في الخارج حيث جعلت وجوده من جنس وجود الأمور الذهنية التي لا توجد إلا في الذهن والخيال وهذا قول بأنه متخيل لا حقيقة له بمنزلة إلا فك المفترى والكذب المختلق فإن هذه الأمور كلها لها وجود في الذهن والخيال وليس لها حقيقة في الخارج وهذا هو التخيل المذموم وهو أن يتخيل العبد ما ليس له حقيقة موجودة وأما تخيل الأمور الموجودة مثلما يراه النائم في منامه من الرؤئيا المطابقة للخارج فهذا ليس بمذموم ولا معيب بل هو حق في بابه وأما تخيل الأمور الموجودة المحسوسة على ما هي عليه موجودة في الخارج فهذا حق باطنا وظاهرا وإنكار هذا سفطسة كإنكار المحسوسات الموجودة # الوجه الحادي عشر قوله لواحق الحس أن عنى به أن الحس لا يلحقه أي لا يدركه ولا يحيط به فلا الحس يحيط به ولا العقل فلا اختصاص للحس بذلك وإن عنى أنه لا يحس أي لا يرى فهذا ممنوع باطل وهم لا يتظاهرون بإنكار ذلك وإن كانوا في الحقيقة موافقين لمن أنكره ولولا أن هذا ليس موضعه لذكرناه # الوجه الثاني عشر أن قوله لواحق الحس وعلائق الخيال ظاهر لفظه هو ما يلحق الحس ولا يخلو أن يريد به نفي ما يلحق الحس أو المحسوس وما يتعلق بالخيال أو التخيل أو يريد به أنه لا يلحقه الحس ولا يتعلق به الخيال فإن |
أراد الأول وهو مقتضى اللفظ لزم في ذلك أن كلما يوصف به الحس أو المحسوس أو الخيال أو التخيل لا يوصف به ومعلوم أن ذلك يوصف بأنه موجود وثابت وحق ومعلوم ومذكور وموصوف ونحو ذلك مما لا نزاع في أن الله يوصف به وإن أراد الثاني وهو الذي أراده والله أعلم وإن كان قد قصر في دلالة اللفظ عليه كان مضمونه أنه لا يحس بحال فإن أراد به ما يستلزم أنه لا يرى ولا يسمع كلامه فهذا ممنوع وهو باطل وإن أراد به لا يكون كالمحسوسات في إدراك الحس له فيقال ولا هو كالمعلومات والمعقولات في تعلق العلم به فإن الله ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه كما قد بيناه في غير هذا الموضع # الوجه الثالث عشر إن طوائف يفرقون بين كونه معقولا وكونه محسوسا حتى يقول النفاة منهم لا يعلم إلا بإشارة العقل وقد يقولون إنه من قسم الحقائق المعقولة دون المحسوسة ونحو ذلك فيقال هذا اللفظ فيه إجمال وإيهام فإن أرادوا أنه في الدنيا لا يعرف إلا بالقلب لا يشهد بالبصر الظاهر وغيره من الحواس فهذا حق لكن ما يعرفه القلب ويشهده القلب ويحسه القلب ونحو ذلك أعم من أن يكون معقولا محضا فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وقد اتفق على ذلك سلف الأمة وأئمتها ولم يتنازعوا إلا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وحده وإن نازع في غيره بعض من لم يعرف السنة ومذهب الجماعة من بعض المتكلمة وجهال المتصوفة ونحوهم # وإن أراد أنه لا يرى في الدنيا والآخرة ولا يمكن رؤيته فهذا مذهب
الجهمية والمعتزلة له في ذلك معروف وقد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمتها بل وبصرائح العقل بطلان هذا المذهب # وإن أراد أنه من باب ما يعقله القلب من الأمور المعقولة التي لا يصح تكون محسوسة فيقال له المعقولات المحضة هي الأمور الكلية فإن الإنسان إذا أحس بباطنه أو بظاهره بعض الأمور كإحساسه بجوعه وعطشه ورضاه وغضبه وفرحه وحزنه ولذته وألمه وبما يراه ويسمعه بإذنه فتك الأمور أمور معينة موجودة فالعقل يأخذ منها أمرا مطلقا كليا فيعلم جوعا مطلقا وفرحا مطلقا وشما مطلقا وألما مطلقا ونحو ذلك فهذه الكليات معقولات محضة لأنه ليس في الخارج كليات حتى يمكن إحساسها والإحساس إنما يكون بالأمور الموجودة ولهذا قالوا إنه يعلم المعدومات قبل كونها عاما أما السمع والبصر فإنما يكون للموجود ومن قال إنه يرى وقد بسطنا الكلام في غير هذا الموضوع وإذا كان كذلك فمن أراد هذا المعنى جعله من باب الموجودات في الأذهان لا في الأعيان وهذا حقيقة قول الجهمية الذين يقولون إنه لا يمكن رؤيته وإحساسه فإن كل موجود قائ بنفسه يمكن رؤيته بل كل موجود يمكن إحساسه إما بالرؤية وإما بغيرها فما لا يعرف بشيء في المحسوس لم يكن إلا معدوما حتى إن الصور الذهنية يمكن إحساسها من حيث وجود ذاتها ولكن هي من جهة مطابقتها للمعدومات كلية والمطابقة لها إضافية فهذه معاني ينبغي أن يفطن لها # قال أبو عبدالله الرازي الخامس أن كل ماهية فإنا إذا اعتبرناها بحدها وحقيقتها فإنا قد نعقلها حال غفلتنا عن الوضع والحيز فكيف والإنسان إذا كان مستغرق الفكر في تفهم أن حد العلم ما هو وحد الطبيعة ما هو فإنه في تلك الحالة يكون غافلا عن حقيقة الحيز والمقدار فضلا عن أن يحكم بأن تلك الحقيقة لا بد وأن تكون مختصة بمحل أو جهة وهذا يقتضي أنه يمكننا أن نعقل الماهيات حال ذهولنا عن الحيز والشكل والمقدار # السادس وهو أن الواحد منا حال ما يكون مستغرق الفكر والروية في استخراج مسألة معضلة قد يقول في نفسه إني قد حكمت بكذا أو عقلت فحال ما يقول في نفسه إني عقلت كذا وحكمت بكذا يكون عارفا بنفسه إذ لو لم يكن عارفا بنفسه لامتنع منه أن يحكم على ذاته بأنه حكم بكذا أو عرف كذا مع أنه في تلك الحالة قد يكون غافلا عن معنى الحيز والجهة وعن معنى الشكل والمقدار فضلا عن أن يعلم كون ذاته في الحيز أو كون ذاته موصوفة بالشكل والمقدار فثبت أن العلم بالشيء قد يحصل عند عدم العلم بحيزه وشكله ومقداره وذلك يفيد القطع بأن الشيء المجرد عن الوضع والجهة يصح أن يكون معقولا # السابع إنا نبصر الأشياء إلا أن القوة الباصرة لا تبصر نفسها وكذلك الخيالية تتخيل الأشياء إلا أن هذه القوة لا يمكنها أن تتخيل نفسها فوجود القوة الباصرة يدل على أنه لا يجب أن يكون كل شيء متخيلا وذلك يفتح باب الاحتمال المذكور # قال شيخ الإسلام قلت قد تقدم الكلام على أصول هذا غير مرة من وجوه متعددة # أحدها أن القصور عن معرفة الشيء غير العلم بانتفائه والمنازع له قال إني أعلم انتفاء موجود لا داخل العالم ولا خارجه لم يقل إني قاصر أو عاجز عن معرفة وجوده # الثاني أن قصور الوهم والخيال لا يستلزم قصور العلم والعقل والحس والمنازع له يقول إن ذلك لا يعلم بعقل ولا غيره فإذا كان غيره معقولا لم يجب أن يكون هذا معقولا فصل # ثم قال أبو عبدالله الرازي الثامن إن خصومنا لا بد لهم من الاعتراف بوجود شيء على خلاف حكم الحس والخيال لأن خصومنا في هذا الباب إما الكرامية وإما الحنابلة أما الكرامية فإنا إذا قلنا لهم لو كان الله مشارا إليه بالحس لكان ذلك الشيء إما أن يكون منقسما فيكون مركبا وأنتم لا تقولون بذلك وإما أن يكون غير منقسم فيكون في الصغر والحقارة مثل النقطة التي لا تنقسم ومثل الجزء الذي لا يتجزأ وأنتم لا تقولون بذلك فعند هذا الكلام قالوا إنه واحد منزه عن التركيب والتأليف ومع هذا فإنه ليس بصغير ولا حقير # فقوله خصومنا في هذا الباب إما الكرمية وإما الحنابلة ليس بسديد ولا سيما وهؤلاء الحنابلة الذين وصفهم إن كان لهم وجود فهم صنف من الحنابلة الموجودين في وقته أو قبله بأرض خراسان وغيرها ليسوا من أئمة علماء الحنابلة ولا أفاضلهم فإن هذه الألفاظ التي حكاها عن الحنابلة لا نعرفها عن أحد منهم كما سنذكره # وكذلك هؤلاء الكرامية الذين حكى قولهم بعض الكرامية وإلا فكثير من الكرامية قد يخالفونه فيما حكاه عنهم بل خصومة في هذا الباب جميع الأنبياء والمرسلين وجميع أئمة الدين من الأولين جمع الأنبياء والمرسلين والتعابعين والآخرين وجميع المؤمنين الباقين على الفطرة الصحيحة دع ما قد تنازع فيه من ذلك فإنهم لا يطلقون على الله هذا الإطلاق الذي ذكره وإن كان فيهم وفي سائر الطوائف من نص بالصفات التي يطلق عليها هو وأمثاله أنها أجزاء وأبعاض لكنهم لا يطلقون الألفاظ الموهمة المحتملة إلا إذا نص الشرع فأما ما لم يرد به الشرع فلا يطلقونه إلا إذا تبين معناه الصحيح الموافق للشرع ونفي المعنى الباطل كالفظ الأجزاء والأبعاض كما سنذكره إنشاء الله وما علمت أحدا من الحنابلة من يطلقه من غير بيان بل كتبهم مصرحة بنفي ذلك المعنى الباطل ومنهم من لا يتكلم في ذلك بنفي ولا إثبات # فلا ريب أن الكتب الموجودة بأيدي الناس تشهد بأن جميع السلف من القرون الثلاثة كانوا على خلاف ما ذكره وأن الأئمة المتبوعين عند الناس والمشايخ المقتدى بهم كانوا على خلاف ما ذكره وهذه أئمة المالكية والشافعية والحنفية وأهل الحديث والصوفية على ذلك بل أئمة الصفاتية من الكلابية والكرامية واأشعرية على خلاف ما قاله فهذه كتب ابن كلاب إمام طائفته ثم الحارث المحاسبي ونحوه ثم أبي الحسن الأشعري وأئمة أصحابه مثل عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن الطبري وأبي العباس القلانسي وغيره كما سيأتي إن شاء الله حكاية قوله وقول غيره والقاضي أبي بكر بن الباقلاني وأبي علي بن شاذان وغيرهم كلهم يقولون بإثبات العلو لله على العرش واستوائه عليه دون ما سواه ويضللون من يفسر ذلك بالاستيلاء والقهر ونحوه كما قد حكينا بعض أقوالهم في جواب الاستفتاء وفي جواب هذه المسائل الموردة عليه وذكرنا أن أبا الحسن الأشعري ذكر أن هذا قول جميع أهل السنة والحديث وبه يقول الرازي وهو قد حكى أيضا في كتبه ذلك عن بعض أئمة أصحابه وذكر للأشعري نفسه قولين وقد تكلمنا على ذلك فكيف يزعم أن خصومه إنما هم الكرامية والحنابلة بل لم يوافقه إلا فريق قليل من أهل القبلة # حتى حذاق الفلاسفة فإنهم من خصومه في هذا الباب كما ذكر القاضي أبو الوليد بن رشد الحفيد الفيلسوف مع فرط اعتنائه بالفلسفة وتعظيمه لها ومعرفته بها حتى يأخذها من أصولها فيقرأ كتب أرسطو وذويه ويشرحها ويتكلم عليها ويبين خطأ من خالفهم مثل ابن سينا وذويه وصنف كتبا متعددة مثل كتاب تهافت التهافت في الرد على أبي حامد فيما رده على الفلاسفة في كتاب تهافت الفاسفة وكتاب تقرير المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة في الاتصال وغير ذلك قال في كتابه الذي سماه مناهج الأدلة على الأصولية وقد ضمن هذا الكتاب بيان الاعتقاد الذي جاءت به الشريعة ووجوب إلقائه إلى الجمهور كما جاءت به الشريعة وبيان ما يقوم عليه من ذلك البرهان للعلماء كما يقوم به ما يوجب التصديق للجمهور وذكر فيه ما يوجب على طريقته أن لا يصرح به للجمهور وذكر فيه ما يوجب من الأمور التي قام عليها البرهان على طريقة ذويه كما ذكر أنه لا يصلح في الشريعة أن يقال إن الله جسم أو ليس بجسم مع أنه يقول في الباطن أن الله ليس بجسم ومع هذا فأثبت الجهة باطنا وظاهرا وذكر أنه قول الفلاسفة فقال # فإن قيل فما تقول في صفة الجسمية هل هي من الصفات التي صرح الشرع بنفيها عن الخالق أو هي من الصفات المسكوت عنها فنقول إنه من البين من أمر الشرع أنها من الصفات المسكوت عنها وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها وذلك أن الشرع قد صرح بالوجه واليدين في غير ما آية من الكتاب العزيز وهذه الآيات قد توهم أن الجسمية هي له من الصفات التي فضل فيها الخالق المخلوق كما فضله في صفة القدرة والإرادة وغير ذاك من الصفات التي هي مشتركة بين الخالق والمخلوق إلا أنها في الخالق أتم وجودا ولهذا صار كثير من أهل الإسلام إلى أن يعتقدوا في الخالق أنه جسم لا يشبه سائر الأجسام وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن تبعهم والواجب عندي في هذه الصفة أن يجري فيها على منهاج الشرع فلا يصرح فيها بنفي ولا إثبات ويجاب من سأل عن ذلك من الجمهور بقوله تعالى ^ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ^ وينهى عن هذا السؤال وذلك لثلاثة معان # أحدها أن إدراك هذا المعنى ليس هو قريبا من المعروف بنفسه برتبة واحدة ولا برتبتين ولا ثلاثة وأنت تتبين ذلك من الطريق التي سلكها المتكلمون في ذلك فإنهم قالوا إن الدليل على أنه ليس بجسم أنه قد تبين أن كل جسم محدث وإذا سئلوا عن الطريق التي بها يوقف على أن كل جسم محدث سلكوا في ذلك الطريق التي ذكرناها في حدوث الأعراض وأن مالا يتعرى من الحوادث حادث وقد تبين لك من قولنا أن هذه الطريقة ليست برهانية ولو كانت برهانية لما كان في طباع الغالب من الجمهور أن يصلوا إليها # وأيضا فإن ما يصفه هؤلاء القوم من أنه سبحانه له ذات وصفات زائدة على الذات يوجبون بذلك أنه جسم أكثر مما ينفون عنه الجسمية بدليل انتفاء الحدوث عنه فهذا هو السبب الأول في أنه لم يصرح الشرع بأنه ليس بجسم # وأما السبب الثاني فهو أن الجمهور يرون أن الموجود هو المتخيل والمحسوس وأن ما ليس بمتخيل ولا محسوس فهو عدم فإذا قيل لهم إن ها هنا موجودا ليس بجسم ارتفع عنهم التخيل فصار عندهم من قبيل المعدوم ولا سيما إذا قيل إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا أسفل ولهذا اعتقدت الطائفة الذين أثبتوا الجسمية في الطائفة التي تنفيها عنه سبحانه أنها مثبتة واعتقدت الذين نفوها في المثبتة أنها مكثرة # وأما السبب الثالث فهو أنه إذا صرح بنفي الجسمية عرضت في الشرع شكوك كثيرة مما يقال في المعاد وفي غير ذلك فمنها ما يعرض من ذلك في الرؤية التي جاءت بها السنة الثابتة وذلك أن الذين صرحوا بنفيها أي بنفي الجسمية فرقتان المعتزلة والأشعرية فأما المعتزلة فدعاهم 2 هذا الاعتقاد إلى أن نفوا الرؤية وأما الأشعرية فأرادوا أن يجمعوا بين الأمرين فعسر ذلك عليهم ولجئوا في الجمع إلى أقاويل سوفسطائية سنرشد إلى الوهم الذي فيها عند الكلام في الرؤية # ومنها أنه يوجب انتفاء الجهة من بادي الرأي عن الخالق سبحانه كونه ليس بجسم فترجع الشريعة متشابهة وذلك أن بعث الأنبياء ابتنى على أن الوحي نازل عليهم من السماء وعلى ذلك انبنت شريعتنا هذه أعني أن الكتاب العزيز نزل من السماء كما قال تعالى ^ إنا أنزلناه في ليلة مباركة ^ وابنبنى نزول الوحي من السماء على أن الله في السماء وكذلك كون الملائكة تنزل من السماء وتصعد إليها كما قال ^ إليه يصعد الكلم الطيب ^ وقال ^ تعرج الملائكة والروح إليه ^ |
# وبالجملة جميع الأشياء التي تلزم القائلين بنفي الجهة على ما سنذكره بعد عند التكلم في الجهة # ومنها أنه إذا صرح بنفي الجسمية وجب التصريح بنفي الحركة فإذا صرح بنفي هذا عسر ما جاء في صفة الحشر من أن الباري يطلع على أهل المحشر وأنه الذي يلي حسابهم كما قال تعالى ^ وجاء ربك والملك صفا صفا ^ وكذلك يصعب تأويل حديث النزول المشهور وإن كان التأويل إليه أقرب منه إلى أمر الحشر مع أن ما جاء في الحشر متواتر في الشرع فيجب أن لا يصرح للجمهور بما يؤول عندهم إلى إبطال هذه الظواهر فإن تأثيرها في نفوس الجمهور إنما هو إذا حملت على ظاهرها وأما إذا أولت فإنما يؤول الأمر فيها إلى أحد أمرين إما أن يسلط التأويل على هذه وأشباه هذه من الشريعة فتتمزق الشريعة كلها وتبطل الحكمة المقصودة منها وإما أن يقال في هذه كلها إنها من المتشابهات وهذا كله إبطال للشريعة ومحو لها من النفوس من غير أن يشعر الفاعل لذلك بعظم ما جناه على الشريعة مع أنك إذا اعتبرت الدلائل التي احتج بها المتأولون لهذه الأشياء تجدها كلها غير برهانية بل الظواهر الشرعية أقنع منها أعني أن التصديق بها أكثر وأنت تتبين ذلك من قولنا في البرهان الذي بنوا عليه نفي الجسمية وكذلك في البرهان الذي بنوا عليه نفي الجهة على ما سنقوله بعد وقد يدلك على أن الشرع لم يقصد التصريح بنفي هذه الصفة للجمهور أن لمكان انتفاء هذه الصفة عن النفس أعني الجسمية لم يصرح الشرع للجمهور بما هي النفس فقال في الكتاب العزيز ^ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ^ وذلك أنه يعسر البرهان عند الجمهور على وجود موجود قائم بذاته ليس بجسم ولو كان انتفاء هذه الصفة مما يقف عليه الجمهور لاكتفى بذلك الخليل في محاجة الكافر حين قال ^ ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت ^ الآية لأنه كان يكتفي
بأن يقول له أنت جسم والله ليس بجسم لأن كل جسم محدث كما يقول الأشعري وكذلك كان يكتفي بذلك موسى صلى الله عليه وسلم عند محاجته لفرعون في دعواه الألوهية وكذلك كان يكتفي صلى الله عليه وسلم في أمر الدجال في إرشاد المؤمنين إلى كذب ما يدعيه في الربوبية في أنه جسم والله ليس بجسم بل قال عليه السلام إن ربكم ليس بأعور فاكتفى بالدلالة على كذبه بوجود هذه الصفة الناقصة التي ينتفي عند كل أحد وجودها ببديهة العقل في الباري سبحانه فهذه كلها كما ترى بدع حادثة في الإسلام هي السبب فيما عرض فيه من الفرق التي أنبأنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أنها ستفترق أمته إليها # فإن قال قائل فإذا لم يصرح الشرع للجمهور لا بأنه جسم ولا بأنه غير جسم فما عسى أن يحاجوا به في جواب ما هو فإن هذا السؤال طبيعي للإنسان وليس يقدر أن ينفك عنه وكذلك ليس يقنع الجمهور أن يقال لهم في موجود وقع الاعتراف به أنه لا ماهية له لأن مالا ماهية له لا ذات له # قلنا الواجب في ذلك أن يجابوا بجواب الشرع فيقال لهم إنه نور فإنه الوصف الذي وصف الله به نفسه في كتابه العزيز على جهة ما يوصف الشيء بالصفة التي هي ذاته فقال ^ الله نور السموات والأرض ^ وبهذا الوصف وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت فإنه لما قيل له هل رأيت ربك قال نور أني أراه وفي حديث الإسراء أنه لما قرب صلى الله عليه وسلم من سدرة المنتهى غشي السدرة من النور ما حجب بصره عن النظر إليها أو إليه سبحانه ففي مسلم أن لله حجابا من نور لو كشف لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره وفي بعض روايات هذا الحديث سبعين حجابا من نور # وينبغي أن يعلم أن هذا المثال هو شديد المناسبة للخالق سبحانه لأنه يجتمع فيه أنه محسوس تعجز الأبصار عن إدراكه وكذلك الأوهام مع أنه ليس بجسم والموجود عند الجمهور إنما هو المحسوس والمعدوم عندهم غير المحسوس والنور لما كان أشرف المحسوسات وجب أن يمثل به أشرف الموجودات وهنا أيضا سبب آخر موجب أن يسمى به نور وذلك أن حال وجوده في عقول العلماء الراسخين في العلم عند النظر إليه بالعقل هي حال الأبصار عند النظر إلى الشمس بل حال عيون الخفافيش وكان هذا الوصف لائقا عند الصنفين من الناس # وأيضا فإن الله تبارك وتعالى لما كان سبب الموجودات وسبب إدراكنا لها وكان النور مع الألوان هذه صفته أعني أنه سبب وجود الألوان بالفعل وسبب رؤيتنا له فالحق ما سمى الله تبارك وتعالى نفسه نورا وإذا قيل إنه نور لم يعرض شك في الرؤية التي جاءت في المعاد فقد تبين لك في هذا القول موجودا الاعتقاد الأول الذي في هذه الشريعة في هذه الصفة وما حدث في ذلك من البدعة وإنما سكت الشرع عن هذه الصفة لأنه لا يعترف بموجود في الغائب ليس بجسم إلا من أدرك ببرهان أن في المشاهد بهذه الصفة وهي النفس ولما كان الوقوف على معرفة هذا المعنى من النفس مما لا يمكن الجمهور فيهم أن يعقلوا وجود موجود ليس بجسم فلما حجبوا عن معرفة النفس علمنا أنهم حجبوا عن معرفة هذا المعنى من الباري سبحانه وتعالى # قلت وقد تبين في هذا الكلام أنه في الباطن يرى رأي الفلاسفة في النفس أنها ليست بجسم وكذلك في الباري غير أنه يمنع أن يخاطب الجمهور بهذه لأنه ممتنع في عقولهم فضرب لهم أحسن الأمثال وأقربها كما ذكره في اسم النور وهذا قول أئمة الفلاسفة في أمثال هذا من الإيمان بالله واليوم الآخر وقد بين بالحجج الواضحة أن ما يذكره المتكلمون في النفي مخالف للشريعة وهو مصيب في هذا باطنا وظاهرا وقد بين أن ما يذكره المتكلمون في نفي الجسم على الله بحجج ضعيفة وبين فسادها وذكر أن ذلك إنما يعلم إذا علم أن النفس ليست جسما ومعلوم أن هذا الذي يشير إليه هو وأمثاله من المتفلسفة أضعف مما عابه على المتكلمين فإن المتكلمين أفسدوا حججهم هذه أعظم مما أفسدوا به حجج المتكلمين فيؤخذ من تحقيق الطائفتين بطلان حجج الفريقين على نفي الجسم مع أن دعوى الفلاسفة أن النفس ليست بجسم ولا توصف بحركة ولا سكون ولا دخول ولا خروج وأنه لا يحس إلا بالتصور لا غير يظهر بطلانه وكذلك قولهم في الملائكة وظهور بطلان قول هؤلاء أعظم من ظهور بطلان قول المتكلمين بنحو ذلك في الرب # ثم قال القول في الجهة وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة ثم تبعها على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة مثل قوله تعالى ^ الرحمن على العرش استوى ^ ومثل قوله تعالى ^ وسع كرسيه السموات والأرض ^ ومثل قوله تعالى ^ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ^ ومثل قوله تعالى ^ يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ^ ومثل قوله تعالى ^ تعرج الملائكة والروح إليه ^ الآية ومثل قوله تعالى ^ أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور ^ إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولا وإن قيل فيها إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابها لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين وأن من السماء نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى قرب من سدرة المنتهى وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية ونحن نقول إن هذا كله غير لازم فإن الجهة غير المكان وذلك أن الجهة هي إما سطوح الجسم نفسه المحيطة به وهي ستة وبهذا نقول إن هذا كله غير لازم # قال الرازي أما الكرامية فإذا قلنا لهم لو كان الله تعالى مشارا إليه بالحس لكان ذلك الشيء إما أن يكون منقسما فيكون مركبا وأنتم لا تقولون بذلك وإما أن يكون غير منقسم فيكون في الصغر والحقارة مثل النقطة التي لا تنقسم ومثل الجزء الذي لا يتجزأ وأنتم لا تقولون بذلك فعند هذا الكلام قالوا إنه واحد منزه عن التركيب والتأليف ومع هذا فإنه ليس بصغير ولا حقير ومعلوم أن هذا الذي التزموه مما لا يقبله الحس والخيال بل لا يقبله العقل أيضا لأن المشار إليه بحسب الحس أن حصل له امتداد في الجهات والأحياز كان أحد جانبيه مغايرا للجانب الثاني وذلك يوجب الانقسام في بديهة العقل وإن لم يحصل له امتداد في شيء من الجهات لا في اليمين ولا في اليسار ولا في الفوق ولا في التحت كان نقطة غير منقسمة وكان في غاية الصغر والحقارة فإذا لم يبعد عندهم التزام كونه غير قابل القسمة مع كونه عظيما غير متناه في الامتداد كان هذا جمعا بين النفي والإثبات ومدفوعا في بداية العقول # قال الشيخ رحمه الله والجواب من وجوه |
# أحدهما أن يقال لفظ المنقسم لفظ مجمل بحسب الاصطلاحات والمنقسم في اللغة العربية التي نزل بها القرآن هو ما فصل بعضه عن بعض كقسمة الماء وغيره بين المشتركين إلى أن قال فيختار المنازع منه جانب النفي فإن الله ليس بمنقسم وليس هو شيئين أو أشياء كل واحد منها في حيز منفصل عن حيز الآخر إلى أن قال وقد يريد الناس بلفظ المنقسم ما يمكن الناس فصل بعضه عن بعض وإن كان في ذلك فساد نهتنا عنه الشرعة كالحيوان الحي والأبنية فإن أراد بلفظ المنقسم ذلك فلا ريب أن كثيرا من الأجسام ليس منقسما بهذا الاعتبار فإن بني آدم يعجزون عن قسمته فضلا عن أن يقال إن رب العالمين يقدر العباد على قسمته وتفريقه وتمزيقه وهذا واضح وقد يراد بلفظ المنقسم ما يمكن في قدرة الله قسمته كالجبال وغيرها ومن المعلوم أنه لا يجوز أن يقال إن الله يمكن قسمته وأنه قادر على ذلك # وإن كان غير منقسم لا بالمعنى الأول ولا بالمعنى الثاني فقوله وإن لم يكن غير منقسم كان في الصغر بمنزلة الجوهر الفرد ليس بلازم حينئذ فإنما يوصف بأنه واحد في الأجسام كقوله ^ وإن كانت واحدة فلها النصف ^ ونحو ذلك جسم واحد وهو في جهة ومع ذلك ليس هو منقسما بالمعنى الأول وإن كان هذا فيما يقبل القسمة كالأشياء التي يقدر الناس على قسمتها وأن ما لا يقبل القسمة أولى بذلك وهذا ظاهر محسوس فإن أحدا لم ينازع في أن الجسم العظيم الذي لم يفصل بعضه عن بعض فيحصل في حيزين منفصلين أو لا يمكن ذلك فيه إذا وصف بأنه غير منقسم لم يلزم من ذلك أن يكون بقدر الجوهر الفرد بل قد يكون في غاية العظمة والكبر وهذا الذي قررناه من فصل بعضه عن بعض بحيث يكون كل بعض في حيزين منفصلين أو إمكان ذلك فيه فإن أحدا لم يقل إن الله منقسم بهذا الاعتبار # وإن قال أريد بالمنقسم إن ما في هذه الجهة غير ما في هذه الجهة كما يقول إن الشمس منقسمة بمعنى إن حاجبها الأيمن غير حاجبها الأيسر والفلك منقسم
بمعنى أن ناحية القطب الشمالي غير ناحية القطب الجنوبي وهذا هو الذي أراده فهذا مما تنازع الناس فيه فيقال له قولك إن كان منقسما كان مركبا وتقدم إبطاله تقدم الجواب عن هذا الذي سميته مركبا وتبين أنه لا حجة أصلا على امتناع ذلك بل بين أن إحالة ذلك تقتضي إبطال كل موجود ولولا أنه أحال على ما تقدم لما أحلنا عليه وتقدم بيان ما في لفظ التركيب والتحيز والغير والافتقار من الاحتمال وإن المعنى الذي يقصد منه بذلك يجب أن يتصف به كل موجود سواء كان واجبا أو ممكنا وإن القول بامتناع ذلك يستلزم السفسطة المحضة ويبين أن كل واحد يلزمه أن يقول بمثل هذا المعنى الذي سماه تركيبا حتى الفلاسفة وأن هذا المنازع يقول مثل ذلك في تعدد الصفات وإن ألزم الفلاسفة مثل ذلك وقول من يقول من هؤلاء ما يكون منقسما أو مركبا بهذا الاعتبار فإنه ل يكون واحدا أو لا يكون أحدا فإن الأحد الذي لا ينقسم خلاف لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ولغة العرب من تسمية الإنسان واحدا كقوله ^ وإن كانت واحدة ^ وقوله نحو من هذا فهو الذي يقطع الشغب والتنازع فإن هذه الشبهة هي أكبر وأكثر أصول المعطلة لصفات الرب بل المعطلة لذاته وهي عند التحقيق من أفسد الخيالات فصل # قال الرازي وأما الحنابلة الذين التزموا الأجزاء والأبعاض # فيقال إن أردت بهذا الكلام أنهم وصفوه بلفظ الأجزاء والأبعاض وأطلقوا ذلك عليه من غير نفي للمعنى الباطل وقالوا إنه يتجزأ أو يتبعض وينفصل بعضه عن بعض فهذا ما يعلم أحد من الحنابلة يقوله هم مصرحون وإن أردت إطلاق لفظ البعض على صفاته في الجملة فهذا ليس مشهورا عنهم لا سيما والحنابلة أكثر اتباعا لألفاظ القرآن والحديث من الكرامية ومن الأشعرية بإثبات لفظ الجسم فهذا مأثور عن الصحابة والتابعين والحنبلية وغيرهم متنازعون في إطلاق هذا اللفظ كما سنذكره إن شاء الله وليس للحنبلية في هذا اختصاص ليس لهم قول في النفي والإثبات إلا وهو وما أبلغ منه موجود في عامة الطوائف وغيرهم إذ هم لكثرة الاعتناء بالسنة والحديث والاءتمام بمن كان بالسنة أعلم وأبعد عن الأقوال المتطرفة في النفي والإثبات وإن كان في أقوال بعضهم غلط في النفي والإثبات فهو أقرب من الغلط الموجود في الطرفين في سائر الطوائف الذين هم دونهم في العلم بالسنة والاتباع # وإن أردت أنهم وصفوه بالصفات الخبرية مثل الوجه واليد وذلك يقتضي التجزئة والتبعيض أو أنهم وصوفه بما يقتضي أن يكون جسما والجسم متبعض ومتجزئ وإن لم يقولوا هو جسم فيقال له لا اختصاص للحنابلة بذلك بل هذا مذهب جماهير أهل الإسلام بل وسائر أهل الملل وسلف الأمة وأئمتها # وفي الجملة فإثبات هذه الصفات هو مذهب الصفاتية من جميع طوائف الأمة مثل الكلابية وأئمة الأشعرية وهو مذهب الكرامية ومن المعلوم أن بين إثبات الأشعرية ونحوهم له وبين إثبات الكرامية ونحوهم له فرقا وكثير منهم ينفي ذلك ومنهم من لا ينفيه ولا يثبته ومنهم من أثبت ما جاء وهذا إمام طائفته أبي الحسن الأشعري وهو من أعلم الناس بمقالات أهل الكلام قد ذكر في غير موضع من كتبه أن هذا مذهب أهل السنة والحديث وقال إنه به يقول كما قد ذكرنا لفظه في غير هذا الموضع وهذه الكتب التي صنفها مصنفوهم كأبي الحسن التميمي وأهل بيته والقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء ابن عقيل وأبي الحسن ابن الزاغوني وذكروا فيها ما جرت عادة المتكلمة الصفاتية بذكره كأبي سعيد ابن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأمثالهما من إثبات الصفات ونفي التجسيم قد بينوا فيها ذلك كما بين هؤلاء ونحوهم هذه الصفات العينية الخبرية كالوجه واليدين وغيرهما # ومن أشهر مصنفيهم في ذلك أبو الحسن ابن الزاغوني قال في كتابه الإيضاح في أصول الدين فصل # وقد وصف الباري نفسه في القرآن بقوله تعالى ^ فأينما تولوا فثم وجه الله ^ 2115 وقوله ^ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ^ 5527 وأمثال ذلك في الكتاب والسنة ويراد بذلك إثبات صفة تختص باسم يزيد على قولنا ذات وذهبت المعتزلة إلى أن المراد بالوجه الذات فأما صفة زائدة على ذلك فلا ولم يذكر خلافا مع الأشعرية لأن المشهور عنهم إثبات هذه الصفة قال والدلالة على ذلك أنه قد ثبت في عرف الناس وعاداتهم في الخطاب العربي الذي أجمع عليه أهل اللغة أن تسمية الوجه في أي محل وقع في الحقيقة والمجاز يزيد على قولنا ذات وأما في الحيوان فذلك مشهور حقيقة لا يمكن دفعه ولا يسوغ فيه غير ذلك وأما في مقامات المجاز فكذلك أيضا لأنه يقال فلان وجه القوم لا يراد به ذات القوم إذ ذوات القوم غيره قطعا ويقينا ويقال هذا وجه الثوب لما هو أجوده ويقال هذا وجه الرأي أي أصحه وأقومه وأتيت بالخبر على وجهه أي على حقيقته إلى أمثال ذلك مما يقال فيه الوجه فإذا كان هذا هو المستقر في اللغة وجب حمل هذه الصفة في حق الباري تعالى على ظاهر ما وضعت له وهو الصفة الزائدة على تسمية قولنا ذات وهذا جلي واضح # قال وتمهيد هذا الكلام وتقريره أنه لا يجوز أن يقال وجه الله على ما قيل في وجه القوم أنه سيدهم والمعرب عنهم والمشار إليه دونهم لأن ذلك يقتضي بمثله في حق الله أن يقال سيد الله والمشار إليه وهذا في حقه محال ولا يجوز أن يراد به ما أريد من قولهم هذا وجه الثوب أي أحسنه وأجوده لما ذكرنا أيضا لأنه لا يجوز أن يضاف إلى ذاته ولا إلى غيره لأنه تعالى ليس موصوفا بالحسن والجودة ولا يجوز أن يراد به ما أريد بأنه وجه الرأي أنه صوابه لأنه لا يعبر بذات الله عن الصدق في الخبر والصحة في الرأي فإذا بطلت هذه الأقسام وجب أن تحمل على إثبات صفة هي الوجه التي يستحقها الحي # قالوا إذا حملتم الأمر على هذا الظاهر وبطل أن يراد بها إلا الوجه الذي هو صفة يستحقها الحي فالوجه الذي يستحقه الحي وجه هو عضو وجارحة يشتمل على كمية تدل على الجزئية وصورة تثبت الكيفية فإن كان ظاهر الأوصاف عندكم إثبات صفة تفارق في الماهية وتقارب فيما يستحق بمثله الاشتراك في الوصف فهذا هو التشبيه بعينه وقد ثبت بالدليل الجلي إبطال قول المجسمة والمشبهة وما يؤدي إلى مثل قولهم فهو باطل # قلنا الظاهر ما كان متلقى في اللفظ على طريق المقتضى وذلك مما يتداوله أهل الخطاب بينهم حتى ينصرف مطلقه عند الخطاب إلى ذلك عند من له أدنى ذوق ومعرفة بالخطاب العربي واللغة العربية وهذا كما نقول في ألفاظ الجموع وأمثالهم إن ظاهر اللفظ يقتضي العموم والاستغراق وكما نقوله في الأمر إن ظاهره الاستدعاء من الأعلى للأدنى يقتضي الوجوب إلى أمثال ذلك مما يرجع فيه إلى الظاهر في المتعارف فإذا ثبت هذا فلا شك ولا مرية على ما بينا أن الظاهر في إثبات صفة هو إذا أضيف إلى مكان أريد به الحقيقة أو أريد بها المجاز فإنه لا ينصرف إلى وهم السامع أن المراد بها جميع الذات التي هي مقولة عليها وهذا مما لا نزاع فيه # والمقصود بهذا إبطال التأويل الذي يدعيه الخصم فإذا ثبت هذا وجب أن يكون صفة خاصة بمعنى لا يجوز أن يعبر بها عن الذات ولا وضعت لها إلا على سبيل الحقيقة ولا على سبيل المجاز # فأما قولهم إذا ثبت أنها صفة إذا نسبت إلى الحي ولم يعبر بها عن الذات وجب أن تكون عضوا وجارحة ذات كمية وكيفية فهذا لا يلزم من جهة أن ما ذكروه ثبت بالإضافة إلى الذات في حق الحيوان المحدث لا من خصيصة صفة الوجه ولكن من جهة نسبة الوجوه إلى جملة الذات فيما يثبت للذات من الماهية المركبة بكمياتها وكيفياتها وصورها وذلك أمر أدركناه بالحس من جملة الذات فكانت الصفة مساوية للذات في موضعها بطريق أنها منها ومنتسبة إليها نسبة الجزء إلى الكل فأما الوجه المضاف إلى الباري تعالى فإنا ننسبه إليه في نفسه نسبة الذات إليه وقد ثبت أن الذات في حق الباري لا توصف بأنها جسم مركب من جملة الكمية وتتسلط عليه الكيفية ولا يعلم له ماهية فالظاهر في صفته التي هي الوجه أنها كذلك لا يوصل لها إلى ماهية ولا يوقف لها على كيفية ولا تدخلها التجزئة المأخوذة من الكمية لأن هذه إنما هي صفات الجواهر المركبة أجساما والله يتنزه عن ذلك ولو جاز لقائل أن يقول ذلك في السمع والوجه والبصر وأمثال ذلك في صفات الذات لينتقل بذلك عن ظاهر الصفة منها إلى ما سواها بمثل هذه الأحوال الثابتة في المشاهدات لكان في الحياة والعلم والقدرة أيضا كذلك فإن العلم في الشاهد عرض قائم يقدر نفيه بطريق ضرورة أو اكتساب وذلك غير لازم مثله في حق الباري لأنه مخالف للشاهد في الذاتية غير مشارك في إثبات ماهية ولا مشارك لها في كمية ولا كيفية وهذا الكلام واضح جلي # وأما قولهم إن أردتم إثبات صفة تقارب الشاهد فيما يستحق مثله الاشتراك في الوصف فهذا هو التشبيه بعينه # فنقول لهم المقاربة تقع على وجهين أحدهما مقاربة في الاستحقاق لسبب موجبه التمام والكمال وتنفي النقص الثاني مقاربة في الاستحقاق لسبب تقتضيه الحاجة ويوجبه الحس ومحال أن يراد به الثاني لأن الله تعالى قد ثبت أنه غني غير محتاج ولا يوصف بأنه يحتاج إلى الإحساس لما في ذلك من النقص فيبقى الأول وصار هذا كإثبات الصفات الموجبة للكمال ودفع النقص # وأما قولهم إن ذلك يوجب إثبات الجوارح والأعضاء فليس بصحيح من جهة أنه يكتسب بها ما لو لا ثبوتها له لعدم الاكتساب مع كونه محتاجا إليه ولهذا سميت الحيوانات المصيودة كسباع الطير والبهائم جوارح لأنها تكتسب الصيود والباري مستغن عن الاكتساب فلا يتصور استحقاقه لتسميته جارحة مع عدم السبب الموجب للتسمية فأما تسمية الأعضاء فإنها تثبت في حق الحيوان المحدث لما تعينت له من الصفات الزائدة على تسمية الذات لأن العضو عبارة عن الجزء ولهذا نقول عضيته أي جزيته وقسمته ومنه قوله تعالى ^ الذين جعلوا القرآن عضين ^ أي قسموه فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه فإذا كان العضو إنما هو مأخوذ من هذا فالباري تعالى ليس بذي أجزاء يدخلها الجمع وتقبل التفرقة والتجزئة فامتنع أن يستحق ما يسمى عضوا فإذا ارتفع هذا بقي أنه تعالى ذاته لا تشبه الذوات مستحقة للصفات المناسبة لها في جميع ما تستحقه فإذا ورد القرآن وصحيح السنة في حقه بوصف تلقي في التسمية بالقبول ووجب إثباته له مثل ما يستحقه ولا يعدل به عن حقيقة الوصف إذ ذاته تعالى قابلة للصفات وهذا واضح بين لمن تأمله # فهذا لفظه ولفظ أمثاله من المصنفين على هذا الوجه # وقال أيضا بعد ذلك فصل # وقد وصف الباري نفسه في القرآن باليدين بقوله تعالى ^ لما خلقت بيدي ^ 3876 وقال تعالى ^ وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ^ قال وهذه الآية تقتضي إثبات صفتين ذاتيتين سميان يدين قال وذهب المعتزلة وطائفة من الأشعرية إلى أن المراد باليدين النعتين وذهبت طائفة إلى أن المراد باليدين ها هنا القدرة قال والدلالة على كونهما ذاتيتين تزيدان على النعمة وعلى القدرة أنا نقول القرآن نزل بلغة العرب واليد المطلقة في لغة العرب وفي معارفهم وعاداتهم المراد بها إثبات صفة ذاتية للموصوف لها خصائص فيما يقصد به وهي حقيقة في ذلك كما ثبت في معارفهم الصفة التي هي القدرة والصفة التي هي العلم كذلك سائر الصفات من الوجه والسمع والبصر والحياة وغير ذلك وهذا هو الأصل في هذه الصفة وأنهم لا ينتقلون عن هذه الحقيقة إلى غيرها مما يقال على سبيل المجاز إلا بقرينة تدل على ذلك فأما مع الإطلاق فلا ولهذا يقولون لفلان عندي يد فيراد بذلك ما يصل من الإحسان بواسطة اليد وإنما فهم ذلك بإضافة اليد إلى قوله عندي ويقول ذلك وبينهما من البعد والحوائل ما لو أراد اليد الحقيقية لكان كاذبا ولهذا لو كان بحيث أن يكون عنده يده الحقيقية وهو أن يكونا متماسين في الاجتماع ويحيط بها ثوب أو على صفة يمكن إدخال يده إلى باطن ثوبه فقال حينئذ لفلان عندي يد لا يصرف القول فيه إلى يد الحقيقة لأن شاهد الحال قد قطع عمل القرينة والإطلاق في التعارف أكثر من شاهد الحال في القرب من جهة أنه يجوز أن يتجوز به للقرينة لكن على من شاهد الحال لاغية بما لا طلاقه ذلك أحق وأولى وكذلك القول في التعبير باليد عن القدرة إنما يثبت ذلك بقرينة وهو أن يقول لفلان علي يد فقوله علي قرينة تدل على أن المراد باليد القدرة وهي أيضا مع شاهد الحال لاغية على ما قدمنا في النعمة وهذا جلي واضح # ودليل آخر وهو إنا إذا تأملنا المراد بقوله تعالى ^ ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ^ 3876 امتنع فيه أن يكون المراد به النعمة والقدرة وذلك أن الله تعالى أراد تفضيل آدم على إبليس حيث افتخر عليه إبليس بجنسه الذي هو النار وأنه بذلك أعلى من التراب والطين فرد الله عليه افتخاره وأثبت لآدم من المزية والاختصاص ما لم يثبت مثله لإبليس بقوله تعالى ^ لما خلقت بيدي ^ وفي ذلك ما يدل على أن المراد فيها الصفة التي ذكرنا من وجهين # أحدهما أن إبليس عند الخصم بما خلق به آدم من القدرة والنعمة فلولا أن آدم خالف إبليس في ذلك لما كان فيه إثبات فضيلة وهذا كلام صدر على سبيل الحاجة في إثبات الفضل فلو تساويا في السبب لما ثبتت الحجة لله تعالى على إبليس في ذلك وذلك مما لا يخفى عليه فكان يسعه أن يقول وأنا فقد خلقتني بما خلقت به آدم فأي فضيلة له علي بما ذكرته وما يؤدى إلى تعجيز الله عن حجته وإزالة المميز بين الشيئين فيما قصد التمييز به بالمخالفة بينهما قول باطل ومحال # والثاني أنه أضاف الخلق وهو فعل يده سبحانه والفعل متى أضيف إلى اليد فإنه لا يقتضي إضافة إلا إلى ما يختص بالفعل وليس إلا اليد التي ذكرنا وهذا جلي واضح # ودليل آخر نقول لا شك أن الرجوع في الكلام الوارد عن الحقيقة والظاهر المعهود إلى المجاز إنما يكون بأحد ثلاثة أشياء # أحدها أن يعترض على الحقيقة مانع يمنع من إجرائها على ظاهر الخطاب # الثاني أن تكون القرينة لها تصلح لنقلها عن حقيقتها إلى مجازها # والثالث أن يكون المحل الذي أضيفت إليه الحقيقة أو المعنى الذي أضيفت إليه الحقيقة لا يصلح لها فينتقل عنها إلى مجازها |
# فإن قالوا إن إثبات اليد الحقيقة التي هي صفة لله تعالى ممتنع لعارض يمنع فليس بصحيح من جهة أن الباري تعالى ذات قابلة للصفات المساوية لها في الإثبات فإن الباري تعالى في نفسه ذات ليست بجوهر ولا جسم ولا عرض ولا ماهية له تعرف وتدرك وتثبت في شاهد العقل ولا ورد ذكرها في نقل وإذا ارتفع عنه إثبات الماهية وإذا كان الكل مرتفعا والمثل بذلك ممتنعا فالنفار من قولنا يد مع هذه الحال كالنفار من قولنا ذات ومهما دفعوا به إثبات ذات مما وصفنا فهو سبيل إلى دفع يد لأنه لا فرق عندنا بينهما في الإثبات وإن عجزوا عن ذلك لثبوت الدليل القاطع للإقرار بالذات على ما هي عليه مما ذكرنا فذاك هو الطريق إلى تعجيزهم عن نفي يد هي صفة تناسب الذات فيما ثبت لها من ذلك وهذا ظاهر لازم لا محيد عنه # وإن قالوا من جهة أنه اقترن بها قرينة تدل على صلاحية نقلها عن حقيقتها إلى مجازها فذلك محال من جهات # أحدها أنا قد بينا أن إضافة الفعل إلى اليد على الإطلاق لا يكون إلا والمراد به يد الصفة وهذا توكيد لإثبات الصفة الحقيقية ومحال أن يجتمع مؤكد للحقيقة مع قرينة ناقلة عن الحقيقة # والثانية أن القرائن قد ذكرناها وهو أنه أريد باليد النعمة قال لفلان عندي يد فعندي قرينة تدل على النعمة وإذا أريد بها القدرة قال لفلان علي يد فعلي هي القرينة الدالة على القدرة وكلاهما معدومان ها هنا # والثالث أن الخصم يدعي أن الداعي إلى ذلك ما يقتضيه الشاهد من إثبات العضو والجارحة والجسمية والبعضية والكمية والكيفية الداخل على جميع ذلك فحصل مثل وشبيه وقد بينا أن ذلك محال في حقه لأن نسبة اليد إليه تعالى
كنسبة الذات إليه على ما تقرر فإذا ارتفع هذا بطل السبب المعارض للحقيقة النافي لإثباتها والموجب لإبدالها بالمجاز # وإن قالوا إن المحل الذي أضيفت إليه اليد وهو ذات الباري لا يصلح لإثبات اليد الحقيقة فهذا محال من جهة أنا قد اتفقنا على أن ذات الباري تقبل إضافة الصفات الذاتية على سبيل الحقيقة كالوجود والذات والعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك من صفات الإثبات على ما قدمناه # وإن قالوا إن المعنى الذي أضيف إلى الصفة لا يصلح إضافة اليد الحقيقية إليه من جهة أن آدم كان جسما وإضافة الفعل باليد إليه يقتضي إثبات المماسة باليد الفاعلة وذلك محال من جهة أن يد الباري وذاته لا تقبل المماسة للأجسام وهذا قول باطل من جهة أنا إذا أثبتنا اليد التي هي صفة لله تعالى على مثل ما وصفنا انتفت المماسة والفعل مضاف إليها نطقا ونصا ثابتا بطريق مقطوع عليه فنفينا ما نفاه الإجماع وأثبتنا ما أثبته النص والنطق وجرى ذلك مجرى الذات قولا واحدا في الحكم # والثاني أن هذا إنما يلزم إذا كان الفعل وكل الأحوال لا بد له من المماسة وقد وجدنا فعلا يؤثر وجوده في محل من محل آخر ولا مماسة بينهما مع تساويهما في الجسمية وذلك كما تراه من حجر المغناطيس فإنه يؤثر في حركة الحديد وانتقاله عن محله من غير مماسة تقع بين الفاعل والمفعول والعلة في ذلك قد تكون بين الفاعل والمفعول وتستغني بذلك عن المماسة ومثل هذا ظاهر لاخفاء به فلما ثبت أنه لا سبيل إلى إثبات المماسة أثبتنا الفعل للنص عليه واستغنينا عن المماسة بواسطة # قالوا الأصل في اليد الفاعلة أن تكون جارحة عند التعارف والإطلاق فانتقلنا عن ذلك إلى تأويلها في حق آدمي بما يصلح وهو النعمة واليد في اللغة تقال ويراد بها النعمة والمنة ولهذا يقال له عندي يد وله عندي أيادي والله تعالى له في خلق آدم عليه السلام نعمتان دين ودنيا فاقتضى ذلك تأويلها على ما ذكرناه # قلنا قد أبطلنا وجه الحاجة إلى التأويل أو الوجه الموجب اعتراض سبب مانع من إثبات الكلام على أصله وحقيقته وما يبدر إليه الفهم والتعارف في عادات أهل الخطاب ولم يوجد ذلك ها هنا ولأنه لو أراد باليد النعمة لقال لما خلقت يدي لما خلقته بنعمة فإن نعمة الدين والدنيا خلق لها # ومما يحقق هذا أن الخلق بنعم الدين لا يصلح لأن نعم الدين الإيمان والتعبد والطاعة وكل ذلك عندهم مخلوق والمخلوق لا يخلق به وكذلك نعم الدنيا هي اللذات من الشهوات وهذه كلها مخلوقة وبعضها أعراض وهذا بطريق القطع لا يجوز أن يخلق به فكان هذا التأويل من هذا الوجه الباطل # قالوا إنما أضاف ذلك إلى آدم ليوجب له تشريفا وتعظيما على إبليس ومجرد النسبة في ذلك كاف في التشريف ولهذا قال في ناقة صالح ^ ناقة الله ^ ويقال في مكة بيت الله فجعل هذا التخصيص تشريفا وإن كان ذلك لا يمنع من تساوي أنها كلها لله وكذلك البيوت ومثله ها هنا # قلنا التشريف بالنسبة إذا تجردت عن إضافة إلى صفة اقتضى مجرد التشريف فأما النسبة إذا اقترنت بذكر صفة أوجب ذلك إثبات الصفة التي لولاها ما تمت النسبة فإن قولنا خلق الله الخلق بقدرته لما نسب الفعل إلى تعلقه بصفة الله اقتضى ذلك إثبات إحاطة بصفة هي القدرة ولا يكون مجرد النسبة واجب منها الصفة فكذلك ها هنا لما كان ذكر التخصيص مضافا إلى صفة وجب إثبات تلك الصفة وهذا لا شك فيه ولا مرية وبهذا يبعد عما ذكروه # قال وأما قوله ^ بيدي ^ قدرتي لأن اليد في اللغة عبارة عن القدرة ولهذا أنشد في ذلك % فسلمت ومالي بالأمور يدان % # ويحقق هذا ويوضحه أن الخلق من جهة الله إنما هو مضاف إلى قدرته لا إلى يده ولهذا يستقل في إيجاد الخلق بقدرته ويستغني عن يد وآلة يفعل بها مع قدرته # قلنا قد بينا هذا فيما مضى وأبطلنا وجه الحاجة إلى التأويل به إذ الحاجة مرتفعة ولأن قدرة الله واحدة لا تدخلها التثنية والجمع وإذا امتنعت التثنية منها وضعا امتنع عنها ذلك لفظا # قالوا قد يرد لفظ التثنية والجمع والمراد به الواحد ولهذا العالم اسم توحيد والمراد به الجمع وقال تعالى ^ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ^ 50 24 والمراد به ألق ومثله ها هنا # قلنا إثبات القدرة واحد لله أصل ثبت بالأخبار والنقل وهو مما يعتري القصر والتخصيص فيه وحمل اليد عليه يقتضي إدخال الشك في أصل عظيم يكفر مخالف الحق فيه فكان مراعات هذا الأصل بحراسته عن مقام شك أولى من إدخال التأويل ها هنا وهذا يكفي في الإعراض عن مثل هذا التأويل # وأما قولهم العالم اسم جمع توحيد فليس كذلك بل العالم اسم لا واحد له من لفظه يقع على الواحد # قال وأما قوله ^ ألقيا في جهنم ^ فإن ما احتجنا فيه إلى الانتقال عن لفظه لما ثبت أن المأمور واحد فصار قوله ألقيا بمعنى ألق ألق وقد بيناها هنا امتناع التأويل وإبطال سببه إن القائلين بهذه التأويلات يجوزون أن يكون المراد بالانتقال وإنما دخلوا فيها على سبيل الظن ومحال نفي صفة لله تعالى بطريق هو على هذه الصفة # ولا ريب أن المثبتين لهذه الصفات أربعة أصناف # صنف يثبتونها وينفون التجسيم والتركيب والتبعيض مطلقا كما هي طريق الكلابية والأشعرية وطائفة من الكرامية كابن الهيصم وغيره وهو قول طوائف من الحنبلية والمالكية والشافعية والحنفية كأبي الحسن التميمي وابنه أبي الفضل ورزق الله التميمي والشريف أبي علي ابن أبي موسى والقاضي أبي يعلى والشريف أبي جعفر وأبي الوفاء ابن عقيل وأبي الجسن ابن الزاغوني لا حصى كثرة يصرحون بإثبات هذه الصفات وينفي التجسيم والتركيب والتبعيض والتجزئ والانقسام ونحو ذلك وأول من عرف أنه قال هذا القول هو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب ثم اتبعه على ذلك خلائق لا يحصيهم إلا الله # وصنف يثبتون هذه الصفات ولا يتعرضون للتركيب والتجسيم والتبعيض ونحو ذلك من الألفاظ المبتدعة لا بنفي ولا إثبات لكن ينزهون الله عما تزه عنه نفسه ويقولون إنه ^ أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ^ ويقول من يقول منهم مأثور عن ابن عباس وغيره أنه لا يتبعض فينفصل بعضه عن بعض وهم متفقون على أنه لا يمكن تفريقه ولا تجزيه بمعنى انفصال شيء منه عن شيء وهذا القول هو الذي يؤثر عن سلف الأمة وأئمتها وعليه أئمة الفقهاء وأئمة أهل الحديث وأئمة الصوفية وأهل الاتباع المحض من الحنبلية على هذا القول يحافظون على الألفاظ المأثورة ولا يطلقون على الله نفيا وإثباتا إلا ما جاء به الأثر وما كان في معناه # وصنف ثالث يثبتون هذه الصفات ويثبتون ما ينفيه النفاة لها ويقولون هو جسم لا كالأجسام ويثبتون المعاني التي ينفيها أولئك بلفظ الجسم وهذا قول طوائف من أهل الكلام المتقدمين والمتأخرين # وصنف رابع يصفونه مع كونه جسما بما يوصف به غيره من الأجسام فهذا قول المشبهة الممثلة وهم الذين ثبت عن الأمة تبديعهم وتضليلهم # فلفظ الجسم لم يتكلم به أحد من الأئمة والسلف في حق الله لا نفيا ولا إثباتا ولا ذموا أحدا ولا مدحوه بهذا الاسم ولا ذموا مذهبا ولا مدحوه بهذا الاسم وإنما تواتر عنهم ذم الجهمية الذين ينفون هذه الصفات وذم طوائف منهم كالمشبهة وبينوا مرادهم بالمشبهة # وأما لفظ الجزء فما علمت أنه روي عن أحد من السلف نفيا ولا إثباتا ولا أنه أطلقه على الله أحد من الحنبلية ونحوهم في الإثبات كما لا أعلم أن أحدا منهم أطلق عليه لفظ الجسم في الإثبات وإن كان أهل الإثبات لهذه الصفات منهم ومن غيرهم من يثبت المعاني التي يسميها منازعوهم تجسيما وتجزئة وتبعيضا وتركيبا وتأليفا ويذكرون عنهم أنهم مجسمة بهذا الاعتبار لإثباتهم الصفات التي هي أجسام في اصطلاح المنازع |
# وأما لفظ البعض فقد روي فيه أثر يطلقه بعض الحنبلية وينكره بعضهم ومع هذا ففي الحنبلية طوائف تنكر ثبوت هذه الصفات الخبرية في الباطن كما ينكرها غيرهم ثم منهم من يتأولها إما إيجابا لتأويلها وإما تجويزا لتأويلها كما يفعل ذلك متأولو النفاة من مستأخري الأشعرية ونحوهم ومن ينفي مدلولها ويفوض معناها كما يفعل ذلك طوائف من هؤلاء وغيرهم ويسموا ذلك طريقة السلف كما فعل ذلك المؤسس وغيره وفيهم وفي غيرهم طوائف لا تحكم فيها بنفي ولا إثبات بل تطلق ألفاظ النصوص الواردة بها وتقف عن إثبات هذه المعاني ونفيها إما شكا وإما إعراضا عن الفكر في ذلك وقد بينا مقالات الناس منهم ومن غيرهم في هذا الموضع # والمقصود بهذا الكتاب الكلام على ما ذكره من حجج فريقي النفاة والمثبتة وقد رووا بالأسانيد الثابتة عن الصحابة والتابعين في الصمد الذي لا جوف له ولفظ بعضهم لا يخرج منه شيء كما روى ابن أبي عاصم والطبراني عن عكرمة من وجوه أنه قال الصمد الذي لا جوف له ومن رواية ابن أبي شيبة عن غندر عن شعبة عطاء عن ميسرة قال الصمت وقال مجاهد هو المصمت الذي لا جوف له وعكرمة قال الذي لا يخرج منه شيء ورواه الطبراني أيضا من حديث عبدالله بن إدريس عن شعبة وروى الطبراني قال حدثنا زكريا حدثنا القاضي حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي حدثنا أحمد الدينوري حدثنا الحكم بن ظهير عن معمر عن أبي بن كعب قال الصمد الذي لم يخرج منه شيء ولم يخرج من شيء الذي لم يلد ولم يولد وذكر عن عطاء وعن
الحسن وقتادة قالا بعد فناء خلقه وفي رواية أنه قال الحسن الدائم مع أن الحسن قال أيضا كما قال عكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وعطية والضحاك والسدي وغير هؤلاء ورووه عن ليس بأجوف وقال الشعبي هو الذي لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب وقال أبو صالح الذي ليس له أمعاء وروى الطبراني عن أبي مسعود قال الصمد الذي ليس له أحشاء وعنه أيضا أنه السيد الذي انتهى سؤدده وهذا قول أبي وائل وهو من تفسير الوالبي عن ابن عباس وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع # وهذه الصفة تستلزم امتناع التفرق عليه وأن يخرج منه شيء إذ ذلك ينافي الصمدية وهو ما احتج به في أنه جسم مصمت وقد ذكره المؤسس في حجج منازعيه وأجاب عنه وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله وقد قال أبو القاسم لما روى عبارات الصمد قال وهذه الصفات كلها صفات ربنا جل جلاله ليس يخال شيء منها يعني في هو المصمت الذي لا جوف له وهو الذي لا يأكل الطعام وهو الباقي بعد فناء خلقه # الوجه الثامن عشر إن قولك عن الحنابلة وغيرهم أنهم التزموا الأجزاء والأبعاض أو ما هو في معناه اصطلاح المتكلمين أو بعضهم # أما الأول فإن لفظ الأجزاء والأبعاض إذا أريد به أنه يتجزأ أو يتبعض التبعيض والتجزئ المعروف بمعنى وقوع ذلك كما تتجزى أو تتبعض الثياب واللحم وغيرها كأبدان الحيوان وكما يتجزأ أو يتبعض الحيوان والثمار والخشب والورق ونحو ذلك وكما يتجزئ ويتبعض الحيوان بخروج المني وغيره من العضلات منه ومن ذلك يولد شبهه منه بانفصال جزء منه كمني الرجل ومني المرأة ودمها فهذا يمتنع باتفاق المسلمين ولم يقل أحد من الحنابلة بل ولا حد من المسلمين فيما علمناه أنه يتجزئ ويتبعض بهذا المعنى وكذلك لم يقولوا إنه يمكن تجزئه وتبعضه كما يمكن تبعيض الجبال ونسفها وكما يمكن انشقاق السماء وانفطارها عند المسلمين وغيرهم ممن يؤمن بالقيامة الكبرى وإن كان ذلك غير ممكن عند من أنكر ذلك من المشركين والصابئين من الفلاسفة وغيرهم فالأجسام المخلوقة يقدر الله على أن يجزيها ويبعضها فيفرقها ويمزقها وهي في العادة ثلاثة أقسام أحدها الأجسام اللينة الرطبة التي تقبل التجزئة بسهولة والثاني الأجسام اليابسة الصلبة التي تقبل التجزئ بقوة والثالث ما لم تجر العادة بتجزيه ولكن يعلم قبوله للتجزي ولم يقل أحد من المسلمين أن الخالق سبحانه يمكن أن يتفرق وينفصل بعضه من بعض بل هو أحد صمد # والذين قالوا إنه جسم نوعان # أحدهما وهو قول علمائهم أنه جسم لا كالأجسام كما يقال ذات لا كالذوات وموصوف لا كالموصوفات وقائم بنفسه لا كالقائمات وشيء لا كالأشياء فهؤلاء يقولون هو في حقيقته ليس مماثلا بوجه من الوجوه لكن هذا إثبات أن له قدرا يتميز به كما إذا قلنا موصوف فهو إثبات حقيقة يتميز بها وهذا من لوازم كل موجود ولهذا يقولون نعني بأنه جسم أنه قائم بنفسه ونحو ذلك مع قولهم إنه ذو الأبعاد الثلاثة لأنهم يقولون لا يعقل موجود إلا هكذا ويقولون إن المشركين وأهل الكتاب لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ربك الذي تعبد هو من ذهب هو من فضة هو من كذا فأنزل الله هذه السورة تنزيها إنه ليس من جنس شيء من الأجسام ولا من جنس شيء من الذوات ولا من جنس شيء من الموصوفات والأجسام هي الذوات وهي الموصوفات وهؤلاء يقولون إن حقيقته مخالفة سائر الحقائق فيمتنع عليه أن يجوز عليه ما يجوز عليها من عدم أو فناء أو تفرق أو تبعيض ونحو ذلك # وأما النوع الثاني وهم الغالية الذين يحكى عنهم أنهم قالوا هو لحم وعظم ونحو ذلك فهؤلاء وإن كان قولهم فاسدا ظاهر الفساد إذ لو كان لحما وعظما كما يعقل لجاز عليه ما يجوز على اللحوم والعظام وهذا من تحصيل التمثيل الذي نفاه الله عن نفسه فإنه سبحانه وتعالى إذ قال ^ لم يكن له كفوا أحد ^ 1124 وقال إنه ^ أحد ^ وقال إنه ^ ليس كمثله شيء ^ 4511 فإنه قد دخل في ذلك ما هو أيضا معلوم بالعقل وهو أنه لا يكون من جنس شيء أو بما يقتضي أنه يجوز الإشارة إلى شيء دون شيء من الأشياء وإن كان هو أكبر مقدارا من ذلك الشيء فإن القدر الصغير من ذهب أو فضة أو نحاس هو من جنس المقدار الكبير وهذا بعينه هو الذي نزه الله نفسه عنه في هذه السورة وهو الذي سأل عنه من سأل من المشركين لما قالوا هو من ذهب هو من فضة ونحو ذلك # فمن قال بالتشبيه المتضمن هذا التجسيم فإنه يجعله من جنس غيره من الأجسام لكنه أكبر مقدارا وهذا باطل ظاهر البطلان شرعا وعقلا وهؤلاء هم المشبهة الذين ذمهم السلف وقالوا المشبه الذي يقول بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي فإن هذا التشبيه هو في الجنس وإن كان المشبه أكبر مقدارا من المشبه به إذ لا يقول أحد إلا أنه أكبر ومع ظهور بطلان قول هؤلاء لم ينقل عنهم أنهم جوزوا عليه التبعيض والتفرق لكن هذا لازم قولهم فإنهم متى جعلوه من جنس غيره جاز عليه ما يجوز على ذلك الغير إذ هذا حكم المتجانسين المتماسكين فهم إن أجازوا عليه من التبعي والتفرق ما يجوز على مثله لزمهم القول بجواز تبعيضه وتفرقه بل بجواز فنائه وعدمه وإن لم يجوزوا ذلك كانوا متناقضين وقائلين مالا حقيقة له فإنهم يقولون هو من جنسه وما هو من جنسه |
# وأما إن أراد بلفظ الأجزاء الأجزاء والأبعاض ما يريده المتكلمون بلفظ الجسم والتركيب وهو الذي أراده فإن الجسم كل جسم عندهم له أبعاض وأجزاء إما بالفعل على قول من يثبت الجوهر الفرد وإما بالإمكان على قول من ينفيه فيقال له هذا المعنى هو كما يريده الفلاسفة والمعتزلة بلفظ الأجزاء الصفات القائمة به ويقولون ليس فيه أجزاء حد ولا أجزاءكم وعندهم أن الأنواع مركبة من الجنس وهو جزؤها العام والفصل وهو جزؤها الخاص فإن أردت هذا المعنى فلا ريب أن الحنابلة هم من مثبتة الصفات وهم متفقون على أن له علما قدرة وحياة فهذا النزاع الموجود فيهم هو موجود في سائر الصفاتية # وأما وصفه بالحد والنهاية الذي تقول أنت أنه معنى الجسم فهم فيه كسائر أهل الإثبات على ثلاثة أقوال منهم من يثبت ذلك كما هو المنقول عن السلف والأئمة ومنهم من نفى ذلك ومنهم من لا يتعرض له بنفي ولا إثبات ونفاة ذلك منهم يثبتون له مع ذلك الصفات الخبرية لكن لا اختصاص للحنابلة بذلك كما تقدم بعضه وكما سيأتي حكاية مذاهب الأئمة والأمة في ذلك ومنهم طائفة لا تثبت الصفات الخبرية # الوجه التاسع عشر أن هذا القول الذي حكيته عن الحنابلة مع أنك لم تؤد الأمانة في نقله بل نقلته بلفظ لا يطلقونه بحيث يفهم المستمع معان لم يقصدوها ويوجب أن يعتقد في مذهب القوم ما لا يعتقدونه لم تذكر عنهم تناقضا فيه كما ذكرته عن الكرامية ولا ذكرت أنهم خالفوا لا المحسوس ولا المعقول كما ذكرته عن الكرامية ولا ذكرت أنهم أثبتوا شيئا يعلم بالحس أو بالعقل بطلانه كما ذكرته عن الكرامية ولا وصفت به قولك من مخالفة البديهة العقلية وهذا الذي ذكرته هو الواقع فإن أحدا من العقلاء لم نعلمه ادعى أن فساد هذا القول
معلوم بالضرورة العقلية كما يقولونه في قولك والقول الذي ذكرته عن الكرامية بل غايتهم أن يدعوا أنه معلوم الفساد بدقيق النظر ثم كل طائفة يثبتون فساد الطريق التي نفت بها الأخرى ذلك وهذا يبين أنه ليس عند العقلاء في ذلك دليل يبقى عليه بل ذكرت أنهم مع هذا الإثبات يقولون بأن ذات الباري لا تماثل الذوات وهذا حق لا ريب فيه # فما ذكرته هو تقرير لهذا لاقول ومدح له وليس فيه ما يكون إلزاما لك عليهم ولا ما يقتضي تناقضا فيه فإن إثبات موجود ليس مماثلا لغيره من الموجودات لا يخالف حسا ولا عقلا وهذا هو الذي تقدم ذكرنا له أن قوله لا بد من الاعتراف بوجود موجود على خلاف الحس والخيال أنه إذا أراد بذلك أنه لا يماثل المحسوسات فلا فرق في ذلك بين المحسوسات والمعقولات وغيرها فإنه لا يماثل شيئا من الأشياء المخلوقة بوجه من الوجوه سواء سميت حسيات أو متخيلات أو عقليات أو سميت جسمانيات أو روحانيات فإذن ما تثبته من نفي المماثلة لا يدل على ما قصدته من إثبات شيء على خلاف حكم الحس والخيال دون حكم العقل أو نفي التماثل لا فرق بين المدركات بجميع أنواع الإدراكات # وقد ذكرنا فيما تقدم أن نفي المماثلة بين الخالق والمخلوق مما علم بالشرع والعقل وذلك لا يقتضي إثبات ما يعلم بالبديهة انتفاؤه أو إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه فهو أيضا يقتضي انتفاء مماثلة الخالق للمخلوق كما بيناه فيما تقدم إذ التماثل يقتضي أن يجوز ويجب ويمتنع لكل منهما ما يجوز ويجب ويمتنع للآخر فيلزم أن يكون الشيء الواحد خالقا مخلوقا قديما محدثا موجودا معدوما واجبا ممكنا قادرا عاجزا عالما جاهلا غنيا فقيرا حيا ميتا ولهذا كان مذهب السلف قاطبة يثبتون هذه الصفات الخبرية وينفون التمثيل وكانوا ينكرون على المشبهة الذين يمثلون الله بخلقه وهم على الجهمية الذين ينكرون أعظم نكيرا وأشد تضليلا وتكفيرا وكلامهم في ذلك أكثر وأكبر # وأما لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والمركب والمنقسم فلا يوجد له ذكر في كلام أحد من السلف كما لا يوجد له ذكر في الكتاب والسنة لا بنفي ولا إثبات إلا بالإنكار على الخائضين في ذلك من النفاة الذين نفوا ما جاءت به النصوص والمشبهة الذين ردوا ما نفته النصوص # كما ذكرنا أن أول من تكلم بالجسم نفيا وإثباتا هم طوائف من الشيعة والمعتزلة وهم من أهل الكلام الذين كان السلف يطعنون عليهم وهم في مثل هذا على المعتزلة أعظم إنكارا إذ المتشيعة لم يشتهر عن السلف الإنكار عليهم إلا فيما هو من توابع التشيع مثل مسائل الإمامة التي انفردوا بها عن الأمة وتوابعها بخلاف مسائل الصفات والقدر فإن طعنهم فيه على المعتزلة معروف مشهور ظاهر عند الخاص والعام وقدماء الشيعة كانوا مخالفين للمعتزلة في ذلك فأما متأخروهم من عهد بني بويه ونحوهم من أوائل المائة الرابعة ونحو ذلك فإنهم صار فيهم من يوافق المعتزلة في توحيدهم وعدلهم والمعتزلة شيوخ هؤلاء إلى ما يوجد في كلام ابن النعمان المفيد وصاحبه أبي جعفر الطوسي والملقب بالمرتضى ونحوهم هو من كلام المعتزلة وصار حينئذ في المعتزلة من يميل إلى نوع من التشيع إما تسوية علي بالخليفتين وإما تفضيله عليهما وإما بالطعن في عثمان وإن كانت المعتزلة لم تختلف في إمامة أبي بكر وعمر وقدماء المعتزلة كعمرو بن عبيد وذويه كانوا منحرفين عن علي حتى كانوا يقولون لو شهد هو وواحد من مقاتليه شهادة لم تقبلها لأنه قد فسق أحدهما لا بعينه فهذا الذي عليه متأخرو الشيعة والمعتزلة خلاف ما عليه أئمة الطائفتين وقدماؤهم # الوجه العشرون أنك ذكرت عن الحنابلة أنهم معترفون بأن ذاته تعالى مخالفة لذوات هذه المحسوسات وهذا حق لكن تخصيصك هذه المحسوسات يشعر أن في الوجود أو في العلم ما لا تكون ذات الله مخالفة له وليس كذلك هو سبحانه ليس كمثله شيء فإن كان لفظ المحسوسات يعم سائر الموجودات فلا فرق بين قولك مخالفة لذوات هذه المحسوسات وقولك مخالفة لذوات هذه الموجودات والمعلومات وإن لم يكن عاما كانت هذه عبارة ردية وكان الواجب أن يقال مخالفة لذوات المحسوسات وكما قيل إنه ليس من المحسوسات كما يقوله الفلاسفة في العقول والنفوس الناطقة وكذلك لو قيل المخالف للجسمانيات والروحانيات على لغة العامة الذين يفرقون بين مسمى الجسم والروح إذ الجسم عندهم أخص مما هو عند المتكلمين ولهذا يفرقون بين الأجسام والأرواح وأما اصطلاح المتكلمين فلفظ الجسم عندهم يعم هذا كله # وكذلك قولك لا يساوي هذه الذوات في قبول الاجتماع والافتراق والتغير والفناء والصحة والمرض والحياة والموت كلام صحيح بل لا يساويها في شيء من الأشياء في صفات كمالها وأما صفات النقص فلا يوصف بها بحال فهو سبحانه حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم حي لا يموت لا يجوز عليه ضد العلم والقدرة والغنى وعير ذلك من صفات كماله بل هو القدوس السلام وصفات الكمال العلم والقدرة والرحمة لا يساوي فيها شيء من صفاته شيء من صفات مخلوقاته وهذا لفظ القاضي أبي يعلى في كتابه إبطال التأويلات لأخبار الصفات مع جمعه فيه للأخبار الواردة في الصفات وإبطاله التأويلات التي ذكرها ابن فورك وغيره مثل ما ذكره الرازي في تأسيس تقديسه # قال القاضي أبو يعلى لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها والواجب حملها على ظاهرها وأنها صفات لله لا تشبه سائر الموصوفين بها من الخلق ولا يعتقد التشبيه فيها لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة وذكر كلام الزهري ومكحول ومالك والثوري ووكيع والأوزاعي والليث وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن عيينة والفضيل ابن عياض وعبدالرحمن بن مهدي وأسود بن سالم وإسحاق ابن راهويه وأبي عبيد وقال في كلامه يدل على إبطال التأويل أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفها عن ظاهرها ولو كان التأويل سائغا لكانوا إليه أسبق لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة # الوجه الحادي والعشرون أن يقال ما ذكره أنه لو كانت ذاته مساوية لسائر الذوات في هذه الصفات لزم افتقاره إلى خالق آخر ولزم التسلسل أو لزم القول بأن الإمكان والحدوث غير محوج إلى الخالق وذلك يلزم منه نفي الصانع فهذه الحجة إن كانت في نفسها صحيحة تدل على نفي هذه النقائص فليست حجة على نفي التمثيل والتشبيه فإن هذه النقائص يجب نفيها مطلقا وأما صفات الكمال فيجب نفي التشبيه والتمثيل فيها فإن قوله لو كانت ذاته مساوية لسائر الذوات في هذه الصفات فرض في الدليل من غير حاجة إليه وتخصيص موهم في هذه الصفات لاستلزام ذلك وليس ناف فرض المساواة في غير هذه الصفات ولا يستلزم ذلك وليس الأمر كذلك بل المساواة في أي صفة تستلزم المحال والجمع بين النقيضين وأما هذه الصفات المذكورة فلا يحتاج تنزيهه عنها إلى أن ينفي مساواته لسائر الذوات في ذلك بل هذه منتفية عنه مع قطع النظر عن التشبيه والتمثيل فإن انتفاء الموت والمرض وغير ذلك عنه لم ينف لمجرد لزومه التشبيه والتمثيل |
# ولهذا لو قيل لو جازت عليه هذه الصفات للزم افتقاره إلى خالق آخر لأن هذه مستلزمة للعدم وجواز العدم كان دليلا صحيحا من غير أن يقال لو كانت ذاته مساوية لسائر الذوات في هذه الصفات وهذه الحجة مثل أن يقال لو كانت ذاته مساوية للذوات الجاهلة والعاجزة في العجز والجهل امتنع خلق العالم منه ونحو ذلك فذكر المساواة والمماثلة في مثل هذا الدليل غلط فاحش لأن هذه النقائص إذا ضم إليها المقدمة التي يقف الدليل عليها يجب تنزهه عن قليلها وكثيرها لوجوب اتصافه بأضدادها لما في ذلك من المماثلة لتلك الذوات بل تنزيهه عن مساواة تلك الذوات يوهم أنه لا ينزه إلا عن المساواة فيها فقط وليس الأمر كذلك # الوجه الثاني والعشرون أن يقال قولك فإنه تعالى لا يساوي هذه الذوات في قبول الاجتماع والافتراق والتغير والفناء والصحة والمرض والحياة والموت يقال لك هو لا يجوز عليه من هذه النقائص ولا ما يساوي فيه هذه الذوات ولا ما يخالفها فيه بل هو منزه عن قليل ذلك وكثيره وعن كل ما يمكن للعقل أن يقدره من هذه الأجناس وإن لم يكن مساويا للذوات في ذلك إذ مساواة الذوات لا يكون إلا فيما يوجد فيها ولفظ مساواة الشيء للشيء يشعر بمماثلته فيه بحيث يكونان سواء في ذلك فكل من هذين المعنيين لا يجوز تخصيص النفي به من غير موجب وهو قد يريد بلفظ المساواة في ذلك مطلق الاشتراك في ذلك لكن العبارة ملبسة وهو باستعمال مثل هذه العبارة في ذلك وقع خطأ كثير في المعاني كما سنذكره في باقي مسألة تماثل الأجسام أو غيرها # وأيضا فهذه الأمور ممتنعة عليه بدون وجود هذه المحسوسات ومع قطع النظر عن وجودها وإنما نفي ذلك معلوم من العلم بكونه قديما واجب الوجود
بنفسه حيا قيوما فإن ما كان قيوما واجب الوجود بنفسه لم تكن ذاته قابلة للعدم إذ الذات القابلة للعدم تقبل العدم والوجود فإن كانت ممكنة لا تقبل الوجود إن كانت ممتنعة والممكن لذاته والممتنع لذاته لا يكون واجبا لذاته وكذلك أيضا لو قبل التفرق والمرض ونحو ذلك من التغيرات والاستحالات التي هي مقدمات للعدم والفناء وأسبابه لم يكن حيا قيوما صمدا واجب الوجود بنفسه لأن هذه الأمور توجب زوال ما هو داخل في مسمى ذاته وعدم ذلك مما هو صفة له أو جزء ولو زال ذلك لم تكن ذاته واجبة الوجود بل كان من ذاته ما ليس بواجب الوجود ثم ذلك يقتضي أن لا يكون شيء منها واجب الوجود إذ لا فرق بين شيء وشيء ولهذا كان تجويز هذا عليه يستلزم تجويز العدم عليه لأن ما جاز عليه الاستحالات جاز عليه عدم صورته وفسادتها كما هو المعروف في الأجسام التي يجوز عليها التفرق والاستحالة فهذا وأمثاله مما يعلم به تقديسه وتنزهه عن هذه الأمور التي هي عدم ذاته أو عدم ما هو من ذاته ولهذا كان تنزهه عن ذلك بينا في الفطرة معروفا في العقول للعلم بأنه حق واجب الوجود بنفسه يستحيل عليه ما يناقض ذلك فتبين أن ما ذكره من المساواة وإن كان حقا فلم يذكره على الوجه المحقق ولا ذكر دليله المقرر له بل ذكر شيئا يحتاج إليه مع ما فيه من الإيهام # الوجه الثالث والعشرون أنه لو قال لو جازت عليه هذه الصفات لزم افتقاره إلى خالق آخر أو لزم أن الإمكان والحدوث غير محوج إلى الخالق لكان قد نبه على دليل نفي هذه الأمور وإن كان لم يبينه ويقرره إذ تجويز هذه الأمور إنما يستلزم الافتقار إلى الخالق وكون الإمكان أو الحدوث ليس محوج إلى الخالق إذا تبين أن بهذه الأمور يجب أن يكون محدثا وممكنا وهو لم يبين ذلك فكيف وهو لم يقل ذلك بل علق هذا الانتفاء بمماثلته للممكنات فيه # الوجه الرابع والعشرون أنه لو بين أن هذه الأمور تستلزم الحدوث والإمكان كان هذا وحده كافيا في تنزيه الرب عنها للعلم بأنه قديم واجب الوجود وأما كون الممكن المحدث لا بد له من خالق وأن الحدوث والإمكان محوج إلى الخالق فذاك يذكر لبيان ثبوت الخالق القديم واجب الوجود ولا يذكر لبيان تنزيهه عما يستلزم عدمه فإن الكلام في تنزيهه عن ذلك إنما هو بعد أن يقرر العلم الخالق القديم الواجب الوجود فإذا تقرر ذلك بين أنه لا يجوز عليه ما ينافي ذلك لإفضائه إلى الجمع بين النقيضين لا لأن تجويز ذلك يقتضي ابتداء أنه يفتقر إلى خالق إذ الكلام إنما هو في الخالق فيقال لو جاز هذا عليه امتنع أن يكون هو الخالق القديم وكان هذا أبين في الدلالة على المقصود مما ذكره في أصل إثبات واجب الوجود # الوجه الخامس والعشرون أن نفي المماثلة واجب في صفات الكمال كالعلم والقدرة والحياة بل والوجود فيقال لو كان مماثلا لغيره في هذه الصفات فيوصف غيره بمثل ما يوصف به من الوجود وصفات كمال الوجود لزم تماثلهما وإذا تماثلا جاز على أحدهما ما يجوز على الآخر فيلزم أن يكون القديم محدثا والمحدث قديما والواجب ممكنا والممكن واجبا وأمثال ذلك فهذا ونحوه يدل على أنه ليس مثله شيء في وجوده ونفسه وصفات الكمال الثابتة لوجوده ونفسه وإذا انتفى عنه مماثلة شيء له في الوجود وصفات كمال الوجود كان هذا إثباتا لأنه ليس كمثله شيء وأنه لم يكن له كفوا أحدا وأنه لا سمي له أما أن يترك هذا كله ولا يذكر إلا تنزيهه عن صفات النقص ولا ينزه عنها إلا عن مماثلته للمخلوقات فيها ولا يذكر دليل لزوم حدوثه وإمكانه أو لزوم اجتماع النقيضين مما هو بين معروف فهذا كما ترى فلو قيل له لكان هذا كلاما متوجها # الوجه السادس والعشرون لا نسلم أنه لو ساوى غيره في هذه الأمور لزم افتقاره إلى خالق آخر ولزم أن يكون الإمكان والحدوث غير محوج إلى الخالق فإنك لم تبين هذه الملازمة والقول الذي تنفيه لم يحتج إلى هذا الدليل وإن لم يكن بينا بنفسه لم يكن في إثبات واجب الوجود نفيه إذ الكلام في أن واجب الوجود هل هو متصف به أم لا لا في إثبات واجب الوجود ثد قد تبين بهذه الوجوه أن هذا المقام لما قال فيه ما هو حق لم يحققه لا تصويرا ولا تصديقا والكلام إذا تبين ما هو باطل وبين ما فيه حق ثم تبين ولم يقرر كان فيه ما فيه # الوجه السابع والعشرون قوله فيثبت أنه لا بد لهم من الاعتراف بأن خصوصية ذاته التي بها امتازت عن سائر الذوات مما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها وذلك اعتراف بثبوت أمر على خلاف ما يحكم به الوهم ويقضي به الخيال # يقال لا يخلو إما أن تكون ناقلا عنهم ما تقوله أو ملزما لهم أن يقولوا ما لم يقولوه فإن كنت ناقلا عنهم لم يحسن قولك إنه لا بد لهم من الاعتراف بذلك فإن هذا إقامة للحجة بأن عليهم الاعتراف لا نقل عنهم للاعتراف مع أن القوم في نفي هذه الآفات والنقايض ونفي التمثيل والتشبيه من أعظم الأمة قولا بذلك كما دل عليه الكتاب والسنة والحجج العقلية لا يحتجون في نفي التمثيل بهذه الحجة الفاسدة التي لا تدل على نفي التمثيل مطلقا وإنما تدل إذا كملت على تنزهه عن بعض الآفات والنقايض المستلزمة عدمه أو لجواز عدمه فلا نقلت عنهم ما يقولونه من التنزيه ولا احتججت على التنزيه بحجة موجبة مطلقا بل ولا تدل بنفسها على شيء منه وإن كنت ملزما لهم بمقتضى هذه الحجة فالإلزام إنما يكون لمن لا يقر بمضمون الحجة والقوم من أعظم الناس قولا بموجب هذه الحجة ووجوب تنزيه الله سبحانه وتقديسه عن هذه الأمور وغيرها كما علم ذلك بالشرع والعقل ومعلوم أن المطلوب إذا كان اعتراف المنازع به من أظهر الأمور كان إثبات اعترافه بإثبات وجوب اعترافه به وإثبات الوجوب بمثل هذه الحجة فيه ما فيه مع نفي دخول اعتراف الناس لا يقتضى وجوب اعترافهم لكونهم قد ينازعون في ثبوت الوجوب # الوجه الثامن والعشرون أن هذه الحجة إنما توجب أنه لا تجوز عليه هذه الصفات المقتضية للعدم وهذا ولله الحمد متفق عليه بين المسلمين بل بين المقرين بالصانع حتى أن عليه المشبهة والمجسمة الذين يقولون إنه لحم ودم وإنه ندم حتى عض يده وجرى الدم ونحو ذلك لكن يذكر عن بعض اليهود أنه مرض حتى عادته الملائكة وهذه الحجة لا تنفي شيئا من التشبيه والتمثيل فذكرها ضائع فما توجبه هذه الحجة يكتفى به في هذا المقام وما يثبته القوم وسائر المؤمنين من التنزيه والتقديس لا يعتمد فيه على مثل هذه الحجة فلم يذكر ما يصلح لهذا المقام لا من المذهب ولا من الدليل # الوجه التاسع والعشرون إن الذي هو أبلغ من مقتضى هذه الحجة من نفي التمثيل والتشبيه يقولون به كما يقول به سلف الأمة وسائر الأئمة وليس فيه حجة لما ادعيته فكيف في مضمون هذه الحجة وذلك أن نفي التمثيل والتشبيه لا يقتضي تجويز كونه لا داخل العالم ولا خارجه ولا إثبات ما يعلم ببديهة العقل امتناعه كما تقدم بيانه # الوجه الثلاثون أنك قلت هم أيضا معترفون بأن ذاته مخالفة لذوات هذه المحسوسات وهذا نقل صحيح ثم قررت هذا النقل بأن بحثت بالحجة التي ذكرتها أن خصوص ذاته لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها وهذا ليس هو ذلك المنقول ولا أقمت عليه دليلا فكان هذا من الأغاليط وبه يحصل المقصود من اعترافهم بأنه لا مثل له # الوجه الحادي والثلاثون قولك فثبت أنه لا بد لهم من الاعتراف بأن خصوص ذاته التي بها امتازت عن سائر الذوات مما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها وذلك اعتراف بثبوت أمر على خلاف ما يحكم به الوهم ويقضي به الخيال أمر لم تنقله عنهم ولا دلت الحجة عليه حتى يقال يجب اعترافهم به كما أنها إنما دلت على امتناع العدم والآفات التي هي ملازمة العدم عليه كالمرض ونحوه وهذا حق لكن ليس في ذلك ما يقتضي أن خصوص الذات مما لايصل إليه الوهم والخيال وإن كان هذا حقا إذا فسر بمعنى صحيح فإن العلم بكونه موجودا واجب الوجود يمتنع عليه العدم وما يستلزم العدم لا يتعرض لكونه يعلم بالعقل والخيال أو الوهم والحس أو غير ذلك لا بنفي ولا إثبات أصلا فضلا عن أن يكون كنهها معلوما أو غير معلوم فأي ملازمة بين الحجة والدعوى بل لو أقمت الحجج الصحيحة الدالة على نفي التمثيل كما قررنا نحن لم يكن في ذلك تعرض لنفي معرفة كنهه ولا نفي لمعرفته بحس أو خيال أو غير ذلك فضلا عن كونك لم تذكر إلا ما يقتضي وجوب وجوده |
# الوجه الثاني والثلاثون أن القوم مع سائر أهل السنة يقولون إن حقيقة الباري غير معلومة للبشر ولهذا اتفقوا على ما اتفق عليه السلف من نفي المعرفة بماهيته وكيفية صفاته ثم جمهورهم يقول ما يقوله السلف من نفي المعرفة بالكيفية ويقولون لا تجري ماهيته في مقال ولا تخطر كيفيته بمثال ومنهم من يقول كما يقوله طوائف من النفاة المعتزلة وغيرهم إنه لا ماهية له فتجري في مقال ولا كيفية له فتخطر ببال فلا يحيط أحد من المخلوقين على حقيقة ذاته ولا يبلغ قدره غيره كما في الدعاء المأثور يا من لا يعلم ما هو إلا هو بل قد قال في الجنة أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعكم عليه وتصديق ذلك في كتابه حيث قال ^ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ^ 3217 فهم لا يحيطون علما بكنه عامة المخلوقات فكيف يحيطون علما بكنه الخالق تعالى وقد قال تعالى ^ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ^ 1715 وفي الصحيح عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الخضر الذي قال الله عنه ^ فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلناه من لدنا علما ^ 1865 قال لموسى الذي كلمه الله تكليما ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر لما ركب في السفينة وقد وقف عليها عصفور فنقر في البحر نقرة وفي صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده وروى أنه كان يقوله في قنوته أيضا اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فإذا كان أعلم الخلق بربه لا يحصي ثناء عليه فكيف بمن هو دونه بدرجات لا يحصيها إلا الله
# وإن كان هذا الذي يقولنه ويثبتونه بالأدلة الشرعية لم تذكر أنت عليها حجة ولا نقلت فيها مذهبا فقولك لا بد من الاعتراف بأن خصوصية ذاته التي بها امتازت عن سائر الذوات مما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها تقصير وتفريط فإنه لا يصل إلى كنهها لا علم ولا عقل ولا معرفة ولا حس ولا وهم ولا خيال ولا نوع من أنواع الإدراكات فتخصيص الوهم والخيال بذلك يشعر بأن غير الوهم والخيال يصل إلى كنهها وأنهم يفرقون بين هذا وهذا وأنه يجب التفريق بين وصول الوهم والخيال إلى كنهها وبين وصول العلم والعقل وكل هذا غلط # الوجه الثالث والثلاثون أنه إذا لم يكن فرق في نفس إدراك كنهه بين الوهم والخيال وبين الحس وبين العلم والعقل لم يحصل شيء من مطلوبك فإن المطلوب أنه لا بد من الاعتراف بثبوت أمر على خلاف حكم الحس والخيال والذي ذكر لا فرق فيه بين الحس والخيال وبين العقل فإن هذه الأمور لا تكيف ذاته ولا يلزم من نفي اكتناه ذاته نفي معرفته بها كما لم يلزم نفي معرفته بالعلم والعقل فإن قوله لا بد لهم من الاعتراف بأن خصوص ذاته الذي امتازت به عن سائر الذوات مما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها وذلك اعتراف بثبوت أمر على خلاف ما يحكم به الوهم ويقضي به الخيال مع أنه لم يذكر حجة عليه لا فرق فيه بين الوهم والخيال وبين الحس والعقل والعلم فإن شيئا من ذلك لا يصل إلى كنهه وإذا كان مقصوده الفرق بين الوهم والخيال وبين العقل والعلم بهذا مع أنه لا فرق بينها من هذا الوجه ومع أن ذلك لا ينفي معرفته بذلك وإن لم يوصل ذلك إلى كنهه ظهر أن ما قاله ليس فيه تحصيل لغرضه مع ما فيه من التفريق بين الأشياء فيما اتفقت فيه # فتدبر هذا كله فإنه كلام حق يعرف كيف أضل هؤلاء لعباد الله بمتشابه الكلام كما قال الإمام أحمد في وصفهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويلبسون على جهال الناس بما يتكلمون به من المتشابه # الوجه الرابع والثلاثون أنه لو عارضه معارض وقال قد ثبت أنه لا فرق فيما ذكرته من نفي الوصول إلى كنهه بالعقل والوهم والخيال ثم ثبت بذلك أنه لا يجب أن لا يكون معلوما بالعقل فقد ثبت أيضا أنه لا يجب أن لا يكون معلوما بالوهم والخيال لكان هذا متوجها أكثر من كلامه # الوجه الخامس والثلاثون أن يقال الذين اتفقوا من أهل السنة وغيرهم على أن العباد لم يعرفوا كنهه في الدنيا تنازعوا في إمكان ذلك وفي حصول ذلك عند رؤيته في الأخرى وهذا يبين أن معرفة حقيقته وكنهه بالحس أولى منها بالعقل ثم الخيال والوهم يتبع الحس فهذا قد يستدل به على إمكان معرفة كنهه وحقيقته بالحس والخيال والوهم # الوجه السادس والثلاثون قوله وذلك اعتراف بثبوت أمر على خلاف ما يحكم به الوهم ويقضي به الخيال كما أنه لا يلزم من عدم وصول العلم والعقل إلى كنه الذات أن يكون على خلاف ما يقضي به العلم والعقل ويحكم به الحس كما تقدم مع أن هذه العبارة هنا ليست ظاهرة في المعنى # الوجه السابع والثلاثون أن لفظ الوهم والخيال في هذه المواضع التي ذكرتها تحتل شيئين فإن هذه الألفاظ كثيرا ما تستعمل فيما يتوهمه الإنسان ويتخيله مما لا يكون له حقيقة في الخارج مثل ما يتخيل جبل ياقوت وبحر زئبق ونحو ذلك ومثل ما يتوهم شخصا أنه عدوه ويكون وليه أو أنه وليه ويكون عدوه وأمثال هذه الاعتقادات التي لا تكون مطابقة ترتسم في نفس الإنسان فيتخيلها ويتوهمها وتكون باطلة من جنس الكذب ولهذا إذا دفع نوع من هذه الأقوال يقال هذا خيال وهذا وهم وقد أوهم فلان كذا ومنه سميت الخيلاء والمختال مختالا لأن المختال يتخيل في نفسه من عظمته وقدره ما لا حقيقة له ^ والله لا يحب كل مختال فخور ^ 436 وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الاستعاذة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه فهمزه الوسوسة ونفخه الكبر ونفثه الشعر فإن الكبر ينفخه حتى يصير مغطى في الخيال مع أنه حقيقة كالظرف المنفوخ من غير أن يكون فيه شيء # ولكن استعمال لفظ التخيل والتوهم في هذا من جنس استعمال لفظ الاعتقاد الفاسد والظن والجهل فيما لا يكون مطابقا وإن كان جنس الاعتقاد قد يكون حقا وعلما وكثيرا ما يستعمل فيما يتخيله و يتوهمه مما يكون له حقيقة في الخارج فيكون التخيل والتوهم ولفظ التخيل والتوهم صادقا مطابقا مثل ما يتخيل الإنسان في نفسه ما أدركه بصره وغيره من الحواس يتوهم في نفسه ما علمه من الصفات إذ قد يصطلح بعض أهل الطب والفلسفة على أن التخيل للصور والتوهم للمعاني التي فيها ولفظ التخيل والتوهم يعم القسمين المطابق وغير المطابق كما يعم لفظ الخبر للخبر الصادق والكاذب ولفظ الكلام للحق والباطل ولفظ الإرادة للمحمود والمذموم ولفظ الظن والحسبان للمصيب والمخطي ولفظ الاعتقاد للحق والباطل فما يتخيله الإنسان ويتوهمه قد يكون حقا أو باطلا مثل ما يعتقده ويظنه ومنه سمي السحاب مخيلة لأنه يخال فيه المطر وفي حديث عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة أقبل وأدبر فإذا رأى المطر جلس ومنه قول الشاعر % إذا رأيت مخيلة لمعت % وتلألأت كمواقع القطر % # فهذا في التخيل # وأما في التوهم بلفظ التهمة وأصله وهمة يقال إذا توهم في الإنسان شيء من الريب ثم قد يكون ما اتهم به حقا وقد يكون باطلا ولها في الشريعة حكم معروف حيث يحبس فيها المجهول الحال كما في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس في التهمة ولهذا صنف الحارث المحاسبي كتابا سماه كتاب التوهم مضمونه أن يتصور الإنسان في نفسه ما أخبر الله به من أمور الآخرة وغيرها ليتذكر ذلك ويحققه في نفسه واسم الجنس إذا كان يعم نوعين أحدهما أشرف من الآخر فقد يخصون في العرف النوع الأشرف باسمه الخاص ويبقون الاسم العام مختصا بالنوع المفضول كما في لفظ الحيوان والدابة وذوي الأرحام والجائز والممكن والمباح وغير ذلك فلهذا كثيرا ما يخص بلفظ الوهم والخيال والنوع الناقص وهو الباطل الذي لا حقيقة له وأما ما كان حقا مما يتخيل فيسمونه باسمه الخاص من أنه حق وصدق ونحو ذلك ومن أنه معلوم ومعقول فإنه إذا كان حقا عقله القلب فصار معقولا كما يعقل أمثاله ويقال إنه متصور ومتذكر ونحو ذلك وهذا بخلاف لفظ العلم والعقل والإحساس فإن هذا إنما يقال على نفس الإدراك الذي هو الإدراك الصحيح ولفظ التخيل والتوهم لا يدل على نفس الإدراك وإنما يدل على نحو الاعتقاد الذي يكون مطابقا للإدراك تارة ويكون فيما تصور في النفس وتألف فيها وتنشأ فيها كما تنشأ فيها العلوم بالنظر والاستدلال وهذا الثاني يكون حقا تارة وباطلا أخرى كما أن ما يثبته الإنسان في نفسه من الاعتقادات بالنظر والاستدلال قد يكون حقا وقد يكون باطلا ومن هذا التخيل والتوهم ما يراه الإنسان في منامه فإنه ينشأ في نفسه في النوم إن لم يكن رآه بعينه في النظر |
# وإذا كان كذلك لم يصلح أن يجمع بين لفظ الحس وبين لفظ الوهم والخيال ويجعلهما في قرن واحد حتى يقول لا بد من الاعتراف بوجود شيء على خلاف حكم الحس والخيال فإن الإحساس هو موجب العلم الصحيح وأصله الإبصار كما قال تعالى ^ وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ^ وقال يعقوب ^ يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ^ وقال تعالى ^ فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله ^ وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما تنتج البهيمة بهمية جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء وأما الخيال والوهم فهو من نحو الاعتقاد الذي يكون حقا تارة وباطلا أخرى وقد يخص باسم الباطل فأين هذا من هذا # وإن أراد أنه لا يحس أي لا يرى فهذا باطل كما تقدم التنبيه عليه # الوجه الثامن والثلاثون أن يقال له ما تريد بلفظ الوهم والخيال أتريد به ما قد يخص هذا اللفظ به في العرف من تخيل الباطل وتوهمه فلا ريب أن كل حق في الوجود ينزه عن هذا التوهم والتخيل وكل حق فإنه على خلاف ما يقضي به هذا الوهم والخيال وكل حق فهو على خلاف هذا الوهم والخيال وما أكثر ما يسمع وصف شيء بألفاظ فيتخيلونه على صورة فإذا رأوه وجدوه بخلاف ما تخيلوه وما أكثر ما يتوهم الإنسان في إنسان شيئا فإذا رآه وجد بخلاف ما توهمه ولا ريب أن الله على خلاف ما يتخيله ويتوهمه المبطلون من الجهمية وغيرهم كما قال تعالى ^ سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ^ 37180 182 وقال ^ سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ^ وقال ^ ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون ^ وذلك ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ^ 2240 23 وقال ^ وتظنو 6 ن بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ^ 1133
وقال ^ ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء إلى قوله بل ظننتم أن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا ^ 4812 وقال ^ فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ^ 2187 وقال ^ إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور ^ 1414 وقال ^ إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ^ 5838 و ^ إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ^ 5323 وقال ^ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ^ 4380 # ولا ريب أن الاعتقادات الفاسدة مثل اعتقاد الكفار في ربهم وما يتبعها من الإرادات هي خيالات باطلة وأوهام باطلة كما قال تعالى ^ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ^ 2440 هذا بعد قوله ^ الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة إلى قوله نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ^ 2425 وقال تعالى ^ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ^ 6122 # ولا ريب أن كثيرا من الناس يتخيل ويتوهم في نفسه صورا باطلة ويعتقد أن ربه كذلك كما يعتقد في ربه اعتقادات باطلة ويعتقد أن ربه كذلك فالاعتقاد والتوهم والتخيل الباطل موجود في جانبي النفي والإثبات والباطل في جانب النفي أكثر منه في جانب الإثبات ولهذا يوجد من الجهمية النفاة من يعتقد أن الله هو الوجود المطلق وأنه وجود الموجودات أنفسها وأنه بنفسه في كل مكان وأن وجود الموجودات كلها وجود واحد ويقولون بوحدة الوجود في الخارج وأنه عين ذلك الوجود ونحو ذلك من الاعتقادات التي يقولون إنها حصلت لهم بالكشف والمشاهدة وهي خيالات وأوهام باطلة إما أن لا يكون لها حقيقة في الخارج أو يكون لها حقيقة لكن تكون هي أمر مخلوق لا تكون هي الخالق سبحانه وكما يتخيلون ويتوهمون أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت ولا كذا ولا كذا مما هو عند أهل العقول السليمة خيالات باطلة وأوهام فاسدة لا تنطبق إلا على المعدوم بل على الممتنع ولهذا يوجد في هؤلاء من يعبد المخلوقات ومن يعتقد في كثير من المخلوقات أن الله أضعاف أضعاف ما يوجد في أهل الإثبات كما قد رأينا وسمعنا من ذلك ما لا يسع هذا المكان ذكر عشره فلهذا هم أعظم الناس اختيالا وكيدا حيث يختال أحدهم في نفسه أنه الله ويعظمون فرعون في قوله ^ أنا ربكم الأعلى ^ 7914 ^ مالكم من إله غيري ^ 2828 ونحو ذلك من الاختيال الباطل الذي هو أفسد اختيال وأعظم فرية على الله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا # وأما إن أراد أنه على خلاف ما يصدق به ويعتقده ويظنه ويتوهمه ويتخيله ويقوله ويصفه وينعته الأنبياء والمؤمنون به فهذا باطل فإن اعتقاد هؤلاء فيه اعتقاد مطابق حي وإن سمي ظنا ونحوه كما قال تعالى ^ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ^ وقال تعالى ^ فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه ^ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا وفي صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى فمن ظن وتوهم في به أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير كان هذا الظن والتوهم حقا وإن كان الواجب تيقن ذلك بخلاف من ظن وحسب أنه لا يسمع سره ونجواه كما قال تعالى ^ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ^ 4380 وقال ^ وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ^ 186140 # بل لفظ الرؤية وإن كان في الأصل مطابقا فقد لا يكون مطابقا كما في قوله ^ أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ^ 358 وقال ^ يرونهم مثليهم رأي العين ^ 313 # وقد يكون التوهم والتخيل مطابقا من وجه دون وجه فهو حق في مرتبته وإن لم يكن مماثلا للحقيقة الخارجة مثل ما يراه الناس في منامهم وقد يرى في اليقظة من جنس ما يراه في منامه فإنه يرى صورا وأفعالا ويسمع أقوالا وتلك أمثال مضروبة لحقائق خارجية كما رأى يوسف سجود الكواكب والشمس والقمر له فلا ريب أن هذا تمثله وتصوره في نفسه وكانت حقيقته سجود أبويه وأخوته كما قال ^ يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ^ 12100 وكذلك رؤيا الملك التي عبرها يوسف حيث رأى السنبل بل والبقر فتلك رآها متخيلة متمثلة في نفسه وكانت حقيقتها وتأويلها من الخصب والجدب فهذا التمثل والتخيل حق وصدق في مرتبته بمعنى أن له تأويلا صحيحا يكون مناسبا له ومشابها له من بعض الوجوه فإن تأويل الرؤيا مبناها على القياس والاعتبار والمشابهة والمناسبة ولكن من اعتقد أن ما تمثل في نفسه وتخيل من الرؤيا هو مماثل لنفس الموجود في الخارج وأن تلك الأمور هي بعينها رآها فهو مبطل مثل من يعتقد أن نفس الشمس التي في السماء والقمر والكواكب انفصلت عن أماكنها وسجدت ليوسف وأن بقرا موجودة في الخارج سبعا سمانا أكلت سبعا عجافا فهذا باطل # وإذا كان كذلك فالإنسان قد يرى ربه في المنام ويخاطبه فهذا حق في الرؤيا ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه مثل ما رأى في المنام فإن سائر ما يرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلا ولكن لا بد أن تكون الصورة التي رآه فيها مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربه فإن كان إيمانه واعتقاده مطابقا أتي من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك وإلا كان بالعكس قال بعض المشايخ إذا رأى العبد ربه في صورة كانت تلك الصورة حجابا بينه وبين الله وما زال الصالحون وغيرهم يرون ربهم في المنام ويخاطبهم وما أظن عاقلا ينكر ذلك فإن وجود هذا مما لا يمكن دفعه إذ الرؤيا تقع للإنسان بغير اختياره وهذه مسألة معروفة وقد ذكرها العلماء من أصحابنا وغيرهم في أصول الدين وحكوا عن طائفة من المعتزلة وغيرهم إنكار رؤية الله والنقل بذلك متواتر عمن رأى ربه في المنام ولكن لعلهم قالوا لا يجوز أن يعتقد أنه رأى ربه في المنام فيكونون قد جعلوا مثل هذا من أضغاث الأحلام ويكونون من فرط سلبهم ونفيهم نفوا أن تكون رؤية الله في المنام رؤية صحيحة كسائر ما يرى في المنام فهذا مما يقوله المتجهمة وهو باطل مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها بل ولما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به سبحانه وتعالى وإنما ذلك بحسب حال الرائي وصحة إيمانه وفساده واستقامة حاله وانحرافه وقول من يقول ما خطر بالبال أو دار في الخيال فالله بخلافه ونحو ذلك إذا حمل على مثل هذا كان محملا صحيحا فلا نعتقد أن ما تخيله الإنسان في منامه أو يقظته من الصور أن الله في نفسه مثل ذلك فإنه ليس هو في نفسه مثل ذلك بل نفس الجن والملائكة لا يتصورها الإنسان ويتخيلها على حقيقتها # بل هي على خلاف ما يتخيله ويتصوره في منامه ويقظته وإن كان ما رآه مناسبا مشابها لها فالله تعالى أجل وأعظم # وهؤلاء النفاة من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة ونحوهم يزعمون أن الرسل فيما أخبروا به من صفات الرب خيلوا ومثلوا حتى أخرجوا المعقول في مثال المحسوس وكذلك يقول هؤلاء المفلسفة إن ما أخبرت به الرسل من أمر المعاد أمثال مضروبة لتفهيم المعاد العقلي واللذة والألم العقليين ويقول الفارابي وأمثاله إن خاصة الأنبياء جودة التخيل والتخييل والكلام على هؤلاء وبيان خطئهم وضلالهم في هذا التخيل والتوهم الذي هو غير مطابق له موضع غير هذا ومن أكثر أسباب غلطهم بناؤهم على أن المعقول الموجود يكون له وجوده في الخارج وهم إذا تدبروا ذلك علموا أن المعقولات التي هي أمور كلية إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان وإن الخارج لا يكون فيه شيء مما هو معقول مجرد وهو الأمور الكلية إلا أن يراد بالمعقول في قولهم مثلوا المعقول في صورة المحسوس ما يحسه الإنسان بنفسه دون جسده فهذا في الحقيقة محسوس موجود لكن بالحس الباطن والوجد الباطن ليس معقولا محضا ولا في تمثل أن الإنسان يحس جوعه وشبعه ولذته وألمه أنه ينتقل حكمه من الباطن إلى الظاهر كما ينتقل حكم الحس بالظاهر إلى الباطن وإذا قدر وجود النفس بغير بدن فهو يحس بما يجده من لذة وألم وذلك أمر محسوس لها وبجنس أسباب ذلك لا يكون لها معقولا مجردا كليا فإن ذاك إنما ثبوته في مجرد العلم والاعتقاد ولا بد له من أفراد موجودة في الخارج وإلا لم يكن حقا ومن المعلوم أن هذا الظان أن النفس تلذذ بهذه الأمور دون إدراك الحقائق الخارجية من أفسد الظن وهو كقول من يقول إن النفس تتلذذ بتمثل المحسوس والمشتهى دون المباشرة لحقيقته الخارجة فقولهم يمثل المعقول في صورة المحسوس كلام لا حقيقة له لكن لو قال يمثل الغائب في صورة الشاهد ويمثل الغيب في صورة الشهادة كان هذا حقا فإن الإنسان إنما يعلم ما يشهده ويحس به بالقياس والتمثيل لما شاهده لكن هذا لا يقتضي أن تكون الأمور الغائبة المتمثلة ليست في أنفسها مما يحس بل يعقل عقلا مجردا فإن هذا لا يقوله من يفهم ما يقوله # قال شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية قدس الله روحه في كتاب بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية # الوجه الثالث والستون أن يقال إن الصحابة والتابعين وسائر سلف الأمة وأئمتها وأئمة أهل الحديث والفقهاء والصوفية والمتكلمة الصفاتية من الكلابية والكرامية والأشعرية وغيرهم من طوائف المتكلمين من المرجئة والشيعة وغيرهم في إثبات هذه الصفات الخبرية وبقية الصفاتية النفاة لها في الصفات التي يسمونها الصفات العقلية كالحياة والعلم والقدرة لكن من هؤلاء الصفاتية من يجعل تلك الصفات الخبرية صفات معنوية أيضا قائمة بالموصوف مثل هذه وإنما يفرق بينهما لافتراق الطريق التي به علمت فتلك علمت مع الخبر الصادق بالعقل وهذه لم تعرف إلا بالخبر وأما السلف والأئمة وأهل الحديث وأئمة الفقهاء والصوفية وطوائف من أهل الكلام فلا يقولون إن هذه من جنس تلك لا يسمونها أيضا صفات خبرية لأن من الصفات المعنوية ما لا يعلم إلا بالخبر أيضا فليس هذا مميزا لها عندهم ومنهم من يقول هذه معلومة بالعقل أيضا # وعلى القولين سواء كانت صفات عينية ومعنوية فيقال من المعلوم أن الموجودات في حقنا إما أجسام كالوجه واليد وإما أعراض كالعلم والقدرة فإذا كان أهل الإثبات متفقين على أن العلم والقدرة ثابت لله على خلاف ما هو ثبات للمخلوق وإن لم يكن في ذلك نفيا لحقيقته ولا تمثيلا له بالمخلوق فكذلك إذا قالوا في هذه الصفات إنا نثبتها على خلاف ما هو ثابت للخلق أو لا فرق بين ثبوت ما هو عرض فينا مع كونه غير مماثل للأعراض وبين ما هو جسم فينا مع كونه غير مماثل للأجسام بل يقال من المعلوم المتفق عليه بين المسلمين أن الله حي عالم قادر مع كونه ليس مثل الأحياء العالمين القادرين بل لا خلاف بين أهل الأثبات أنه موجود مع كونه ليس مثل سائر الموجودات بل العقل الصريح يقتضي وجود موجود واجب قديم ويقتضي بأنه ليس مماثلا للموجود المحدث الممكن وإلا للزم أن يجوز على الواجب ما يجوز على المحدث فبأوائل العقل يعلم أن من الموجود وجودا واجبا وأنه ليس مثل الموجود الممكن فالذي يثبتونه في جميع الصفات المعلومة هو من جنس ما يثبتونه في الذات وذلك أمر بين بأدنى تأمل معلوم بالعقل الصريح فليس المحكي عنهم في ذلك إلا ما اتفق العقلاء على نظيره وما هو ثابت معلوم بصريح العقل وإن كان بقية الطوائف بينهم نزاع في ذلك قيل له والحنابلة أيضا بينهم نزاع فمنهم من ينفي هذه الصفات ويوجب تأويل النصوص ومنهم من يجوز التأويل ولا يوجبه ومنهم من يفوض معنى النصوص مع نفي ومنهم من لا يحكم فيها بنفي ولا إثبات وهذه المقالات هي الممكنة الموجودة في غيرهم # وأما قوله إنهم يصرحون بأنا نثبت هذا المعنى لله على خلاف ما هو ثابت للخلق فلا ريب إنما يثبتونه وإلا لزم التمثيل والتشبيه المنفي بالعقل والشرع لكنهم لا يقولون نثبت معنى الجوارح والأعضاء ولكن نثبت المعاني التي دل عليها الكتاب والسنة والإجماع # قوله فأثبتوا لله وجها بخلاف وجوه الخلق وبدا بخلاف أيدي الخلق ومعلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال فإذا عقل إثبات ذلك على خلاف الوهم والخيال فأي استبعاد في القول بأنه تعالى موجود وليس بداخل العالم ولا خارج العالم وإن كان الوهم والخيال قاصرين عن إدراك هذا الموجود # يقال له أكثر ما في هذا أنهم أثبتوا ما لا يعلمون حقيقته لقيام الأدلة الشرعية عليه وهذا لا محذور فيه كما أثبتوا ما أخبر به من الجنة والنار وما فيهما والملائكة وصفاتها وهم لم يعلموا حقيقة ذلك فهم عن معرفة حقيقة الخالق أبعد وأما إثبات ما ليس بداخل العالم ولا خارجه فإنه ممتنع في الفطرة البديهية والفرق واضح بين عدم العلم وبين العلم بالعدم فأين إثبات شيء يعلم على سبيل الجملة ولا تعلم حقيقته على التفصيل من إثبات شيء يعلم بالبديهية انتفاؤه بل لو علم انتفاؤه بالنظر لم يجز إثباته فكيف إذا علم بالبديهة ولم يرد بثبوته خبر ولا نقل ثبوته عن أحد من السلف والأئمة وأما ما أثبتوه فلم يعلم انتفاؤه لا ببديهة ولا بنظر باتفاق عقلاء الطوائف # والرازي من أقول الناس بذلك صرح في غير موضع من كتبه كالمحصل والتفسير وغيرهما بأنه لا يجوز نفي ما لا يعلم ثبوته من الصفات وأن الظاهريين من أصحابه ينفون ما لم يقم دليل على ثبوته ورد ذلك بأن ما لم يقم دليل بثبوته وعدمه لا يجوز نفيه ولا إثباته وصرح بأن هذه الصفات الخبرية كالوجه واليد الذي أثبتها الأشعري وغيره من أصحابه إنما لم يثبتها لعدم دليل ثبوتها لا لدليل عدمها وزعم أن أدلة الشرع لا تثبتها فلا يجوز إثباتها وأما ثبوت صفات في نفس الأمر لم نعلمها فإنه لا ينفي ذلك ويخطئ من ينفيه وهؤلاء يدعون ثبوت صفاته في نفس الأمر ثم إذا قال أحدهم إنا لا نعلم كيفيتها أو لا نعلم كنهها وحقيقتها كان هذا كقوله في الذات ولو قال أقلهم علما إنا لا نعلم معناها لم يكن عدمه علمه بالمعنى مانعا من ثبوته في نفس الأمر فأين عدم العلم بالشيء إلى العلم بعدمه وهذا الذي ذكره عن ظاهريي أصحابه وإن كان قول أبي المعالي الجويني وغيره وقد نقل الإجماع فيه وهو مما يقوله أبو الوفاء ابن عقيل ونحوه فالصواب هو الذي ذكر أبو عبدالله الرازي وهو الذي عليه المحققون وهو أحد قولي ابن عقيل بل هو آخر قوليه كما هو في الكفاية |
فصل # عجيب يخفى على كثير من الأصوليين وذلك أنه لا يجوز الإغراق في الإثبات مجاوزة لما أثبته الشرع ودل عليه كذلك لا يجوز الإغراق في النفي ولا الإقدام على نفي شيء عن الله إلا بدليل لأن النفي أيضا لا يؤمن معه إزالة ما وجب له سبحانه فالنفي يحتاج إلى دليل كما أن الإثبات يحتاج إلى دليل كما أن إثبات ما لا يجب له كفر فنفي ما جوز عليه خطأ وفسق ومثال ذلك أن يغرق هؤلاء الخطباء والقصاص في نفي النقائص ثم يدرجون فيها ما وردت به السنن ويقولون ليس بفوق ولا تحت ولا يدرك ولا يعلم ولا يعرف ولا ولا فربما ساقوا في نفيهم نفي صفة وردت بها السنن # قلت وهذا هو الصواب عند السلف والأئمة وجماهير المسلمين أنه لا يجوز النفي إلا بدليل كالإثبات فكيف ينفى بلا دليل ما دل عليه دليل إما قطعي وإما ظاهري بل كيف يقال ما لم يقم دليل قطعي على ثبوته من الصفات يجب نفيه أو يجب القطع بنفيه ثم يقال في القطعي إنه ليس بقطعي فهذه المقدمات الفاسدة هي وسائل الجهل والتعطيل وتكذيب المرسلين وإنما اعتمد على ذلك أبو المعالي لما خالف أئمته في إثبات صفة اليد وغيرها فقال في الإرشاد
فصل # ذهب أئمتنا إلى أن اليدين والعينين والوجه صفات ثابتة للرب والسبيل إلى إثباتها السمع دون قضية العقل والذي يصح عندنا حمل اليدين على القدرة وحمل العينين على البصر وحمل الوجه على الوجود قال صاحبه أبو القاسم النيسابوري الأنصاري شارح الإرشاد شيخ أبي عبدالله الشهرستاني صاحب الملل والنحل ونهاية الإقدام وغيرهما هذا ما قاله الإمام واعلم أن مذهب شيخنا أبي الحسن أن اليدين صفتان ثابتتان زائدتان على وجود الإله سبحانه ونحوه قال عبدالله بن سعيد ومال القاضي أبو بكر في الهداية إلى هذا المذهب # قلت هو قول القاضي في جميع كتبه كالتمهيد والإبانة وغيرهما # قال أبو القاسم النيسابوري وفي كلام الأستاذ أبي إسحاق ما يدل على أن التثنية في اليدين ترجع إلى اللفظ لا إلى الصفة وهو مذهب أبي العباس القلانسي قال الأستاذ أما العينان فعبارة عن البصر وكان في العقل ما يدل عليه وأما اليد والوجه فقد اختلف أصحابنا في الطريق إليهما قال قائلون قد كان في العقل ما يدل على ثبوت صفتين يقع بإحداهما الاصطفاء بالخلق وبالأخرى الاختيار بالتقريب في التكليم والإفهام لكن لم يكن في العقل دليل على تسميته فورد الشرع ببيانها يسمى الصفة التي يقع بها الاصطفاء بالخلق يدا والصفة التي يقع التقريب في التكليم وجها وقالوا لما صح في العقل التفضيل في الخلق والفعل بالمباشرة والإكرام والتقريب بالإقبال وجب إثبات صفة له سبحانه يصح بها ما قلناه من غير مباشرة ولا محاذاة فورد الشرع بتسمية إحداهما يدا والأخرى وجها ومن سلك هذه الطريقة قال لم يكن في العقل جواز ورود السمع بأكثر منه وما زاد عليه من جهة الإخبار فطريقة الآحاد التي لا توجب العلم ولا يجوز بمثلها إثبات صفة القديم وإن ثبت منها شيء بطريق يوجب العلم كان متأولا على الفعل # قال وقال آخرون طريق إثباتها السمع المحض ولم يكن للعقول فيه تأثير فإذا قيل لهم لو جاز ورود السمع بإثبات صفات لا يدل العقل عليها لم يأمن أن يكون لله صفات لم يرد الشرع بها ولا صارت معلومة ووجب على القائل بذلك جواز ورود السمع بصفات الإنسان أجمع لله تعالى إذا لم تكن واحدة منها شبيهة بصفته كان جوابهم أن يقولوا لما أخبر الله المؤمنين بصفاته الكاملة له حكم لهم بالإيمان بكماله عند المعرفة بها لم يجز أن يكون له صفة أخرى لا طريق إلى معرفتها لاستحالة أن يكون المؤمن مؤمنا يستحق المدح إذا لم يكن عارفا بالله معنى وبصفاته أجمع فلما وصفهم بالإيمان عند معرفتهم لما ورد من الشرع ثبت أن لا صفة أكثر مما بين العقل إليه بالعقل والشرع قال الأستاذ أبو إسحاق والتعويل على الجواب الأول فإن فيه الكشف عن المعنى # قال أبو المعالي فمن أثبت هذه الصفات السمعية وصار إلى أنها زائدة على ما دلت عليه دلالات العقول استدل بقوله تعالى ^ ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ^ وذكر أنهم قرروا ذلك بتخصيص آدم بالخلق وبأنه ثنى اللفظ وكلاهما يمنع من حمله على القدرة وتكلم على ذلك إلى أن قال والذي يحقق ما قلناه أن الذي ذكره شيخنا أبو الحسن الأشعري القاضي ليس يوصل إلى القطع بإثبات صفتين زائدتين على ما عداهما من الصفات ونحن وإن لم ننكر في قضية العقل صفة سمعية لا يدل مقتضى العقل عليها وإنما يتوصل إليها سمعا فبشرط أن يكون السمع مقطوعا به وليس فيما استدل به الأصحاب قطع والظواهر المحتملة لا توجب العلم وأجمع المسلمون على منع تقدير صفة مجتهد فيها لله عز وجل لا يتوصل إلى القطع فيها بعقل أو سمع وليس في اليدين على ما قاله شيخنا نص لا يحتمل التأويل ولا إجماع عقلية فيجب تنزيل ذلك على ما قلناه يعني القدرة والظاهر من لفظ يدين حملهما على جارحتين فإن استحال حملهما على ذلك ومنع من حملهما على القدرة أو النعمة أو الملك فالقول بأنها محمولة على صفتين قديمتين لله زائدتين على ما عداهما من الصفات تحكم محض # قال أبو المعالي وأما العينان والوجه فقد اختلف جواب شيخنا أبي الحسن في ذلك فقال مرة هما صفتان على نحو ما قال في اليدين وقال مرة العينان محمولتان على البصر وهذا أظهر قوليه وعليه حمل الأعين في قوله ^ تجري بأعيننا ^ 1454 أي تجري السفينة بمرأى منا وقيل بحفظنا وحمل الوجه على وجود الباري واستدل على ذلك بقوله تعالى ^ ويبقى وجه ربك ^ 2754 والباقي بعد فناء الحق هو الله قال أبو المعالي وهذا هو الصحيح من جوابيه عندنا وإنما اختلف جوابه من حيث كان التعليق بالظاهر في اليدين أظهر # قال أبو القاسم النيسابوري وقول أبي الحسن في أن الوجه صفة زائدة على الوجود أظهر وقوله في العينين أن المراد بذلك البصر أظهر # قال أبو المعالي ومن سوغ من أصحابنا إثبات الصفات بظواهر هذه الآيات ألزمه بثبوت كلامه أن يجعل الاستواء والنزور والجنب من الصفات تمسكا بالظاهر وإن لم يبعد تأويلها فيما يتفق عليه لم يبعد أيضا طريق التأويل فيما ذكرناه قال أبو القاسم هذا ما قاله الإمام # وقد رأيت في بعض كتب الأستاذ أبي إسحاق قال ومما ثبت من الصفات بالشرع الاستواء على العرش والمجيء يوم القيامة بقوله ^ الرحمن على العرش استوى ^ وقوله ^ وجاء ربك والملك صفا صفا ^ 2289 ومما ثبت بالأخبار الصحيحة النزول إلى السماء الدنيا كل ليلة وقوله أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا الحديث قال وأجمع أهل النقل على قبول هذين الخبرين وما هذا وصفه كان موجبا للعمل ومقبولا في مسائل القطع هذا ما ذكره الأستاذ في هذا الكتاب # قال أبو القاسم لا يظن بالأستاذ أبي إسحاق أنه اعتقد أن النزول والمجيء والإتيان من صفات ذات الإله سبحانه فإنه سبحانه لا يوصف بهذه الأوصاف في أزله ويستحيل قيام حادث بذاته فما حكيناه عنه أنه قال ومما يثبت في الصفات بالسمع كذا وكذا فيحتمل أنه أراد بذلك صفات الأفعال ويحتمل أنه أراد به الصفات الخبرية التي لا بيان لها أكثر مما ورد به الخبر # قال وقال الأستاذ أبو بكر يعني ابن فورك من أصحابنا من قال الاستواء وصف خبري لا مجال للعقل فيه وكذلك الفوقية والواجب أن يتوقف في ذلك أن يرد بمعناه خبر قال وهذا مذهب أئمة أهل السلف وقد روي عن أم سلمة أنها قالت الاستواء ثابت بلا كيف وهذا قول مالك بن أنس والأوزاعي وغيرهما من الأئمة وحكى شيخنا أبو الحسن قولين لأصحابنا في الاستواء أحدهما من صفات الذات والثاني أنه من صفات الأفعال فمن صار إلى أنه من صفات الذات اختلفوا فيه فصار الأكثرون منهم إلى أن الاستواء على العرش هو العلو عليه من جهة القهر والغلبة والانفراد بنعوت الجلال وهذا المعنى وإن كان مدركا بالعقل ولكن تسميته بالاستواء مستقاة من الخبر قال أبو الحسن من قال الاستواء صفة للذات فإنه سمى الله به حين خلق العرش لأجل أن الاستواء يقتضي إليه يستوي عليه ولم يكن في الأزل غير الله فلم تكن تسميته به قال وقال بعض المتأخرين من أصحابنا ويمكن أن يقال لم يزل كانت له صفة الاستواء مطلقا بمعنى أنه على صفة يصح بها الاستواء على العرش إذا خلق كما يقول لم يزل الله قادرا وإن كان تعلق القدرة بالأحداث يختص بحال الحدوث وصار آخرون إلى أن الاستواء صفة خبرية يتوقف في معناها إلى أن يرد خبر ببيانها # قلت ما نقله من لفظ الأشعري فمعروف وما فسره # قال وقال الإمام يعني أبا المعالي وكنا على الإضراب عن الكلام وعلى الظواهر فإذا عرض فنشير إلى جمل منها في الكتاب والسنة وقد صرح بالاسترواح إليها المجسمة وأصحاب الظواهر قال وأجمع المسلمون على منع تقدير صفة مجتهد فيها لله عز وجل لا يتوصل فيها إلى قطع بعقل أو سمع قال وأجمع المحققون على أن الظواهر يصح تخصيصها أو تركها بما لا يقطع به من أخبار الآحاد والأقيسة وما يترك مما لا يقطع به كيف يقطع به # قلت هذا الإجماع الذي ذكره أبو المعالي مرتين هو الذي ذكره أبو عبدالله الرازي وغيره عن الظاهريين من أصحابه وبين أنه فاسد والذي قاله الرازي هو الذي عليه جماهير الناس من المتقدمين والمتأخرين قد صرح أئمة السلف بذلك وأن ما لم يعلم ثبوته ولا انتفاؤه من الصفات لا ننفيه ولا نثبته والإجماع الذي ذكره أبو المعالي لا أصل له بل لم يقل ما ادعى فيه الإجماع أحد من أئمة المسلمين لا من الفقهاء ولا أهل الحديث ولا السلف وإنما قال هذا ابتداء من قاله من المعتزلة واتبعهم على ذلك طائفة ممن احتذى حذوهم في الكلام من الأشعرية وغيرهم وذلك لأن من أصلهم أنهم يقولون إنهم عرفوا الله حق معرفته وعرفوا حقيقة ذاته فعلموا ما يوصف به نفيا وإثباتا فلو جوزوا أن يكون له صفة لا يعلمون نفيها ولا إثباتها بطل هذا الأصل وهذا الأصل قد خالفهم فيه أبو المعالي كما خالفهم فيه أئمته وضرار بن عمر وهم مخالفون فيه لسلف الأمة وأئمتها وسائر أئمة العلم والدين وقد حكينا ذلك في غير هذا الموضع وأن أبا المعالي قال لا شك في ثبوت وجوده سبحانه فأما الموجود من غير اختصاص بصفة تميزه عن غيره فمحال قال ولكن ليس تتطرق إليها العقول ولا هي علم هجمي ولا علم مبحوث عنه غير أنا لا نقول إن حقيقة الإله لا يصح العلم بها فإنه سبحانه يعلم حقيقة نفسه وليس للمقدور الممكن من مزايا العقول عندنا موقف ينتهى إليه ولا يمتنع في قضية العقل مزية لو وجدت لاقتضت العلم بحقيقة الإله # وقد تقدم أن هذا قول أئمة أصحابه كالقاضي وغيره وهذا تصريح منه بأن لله صفة تميزه عن غيره لا تعلم بالعقول لا بضرورة ولا نظر وصرح بإمكان علمنا بها إذا أعطينا مزية نعلمها بها وقد حكى هو عن الأستاذ أبي إسحاق أنه قال حقيقة الإله صفة مائية اقتضت له التنزه عن مناسبة الحدثان وذكر عن القاضي أبي بكر أنه ذكر مذهب ضرار أن لله مائة لا يعلمها في وقتنا إلا هو وأن القاضي قال لا بعد عندي فيما قاله ضرار فإن الرب يخالف خلقه بأخص صفاته فيعلم على الجملة اختصاص الرب سبحانه بصفة يخالف بها خلقه ولا سبيل إلى صرف الأخص إلى الوجود والقدم ولا شك في امتناع صرفها إلى الصفات الحقيقية وأن القاضي تردد في أن الذين يرون الله سبحانه في الدار الآخرة هل يعلمون تلك الصفة التي يسميها أخص وصفه وسماها ضرار مائية وذكر عن طائفة من الكرامية أنهم أثبتوا لله مائية وكيفية # فقد يقال إذا كان أبو المعالي قد أوجب ثبوت صفة لله يمتنع علمنا بها الآن كيف يصح أن يقال علمنا جميع ما يثبت له وينفي عنه من الصفات وإذا كان قول طوائف يثبوت صفات له لا تعلم وتجويز ذلك كيف يحكى إجماع المسلمين على خلاف ذلك هذا تناقض منه في كتبه وقد يقال لم يتناقض لأن الذي نفاه بالإجماع تقدير صفة مجتهد فيها لا يتوصل إلى القطع فيها بعقل أو سمع وهو هنا قاطع بما أثبته لا مجوز له فلا تناقض # وقد يقال بل إذا وجب إثبات حقيقة لا تعرف لم يمتنع أن يكون لتلك الحقيقة صفة لا تعرف فالجزم بنفي ذلك مع الجزم بثبوت تلك الحقيقة تناقض وسواء كان تناقضا أو لم يكن ولو لم يتناقض فبطلان هذا الإجماع الذي ادعاه ظاهر لكل من له من العلم أدنى نظر وإنما هو كثير الاستغراق في كلام المعتزلة وأتباعهم قليل المعرفة والعناية بكلام السلف والأئمة وسائر طوائف الإسلام من أهل الفقه والحديث والتصوف وفرق المتكلمين أيضا فحكى الإجماع كما يحكى أمثال هذه الإجماعات الباطلة أمثال هؤلاء المتكلمين ولو كان الأمر كما ادعاه فدعواه أن دلالة القرآن والأخبار على ذلك ليست قطعية يخالفه في هذه الدعوى أئمة السلف وأهل الحديث والفقه والتصوف وطوائف من أهل الكلام من أصحابه وغيرهم فإن عندهم دلالة النصوص على ذلك قطعية وأما الأخبار فمذهب أكثر أصحابه أنها إذا تلقيت بالقبول أفادت العلم كما تقدم ذكرهم لذلك عن الأستاذ أبي إسحاق وهذا الذي ذكره أبو بكر ابن فورك هو معنى ما ذكره الأشعري في كتبه عن أهل السنة والحديث وذكر أنه قوله وأن الإيمان بموجب هذه الأخبار واجب وإذا كان يمكن أن يكون له صفات لا تعلم بمجرد العقل وكان كثير من المثبتين لهذه الصفات الخبرية من أئمته ومن الحنبلية وغيرهم يثبتون ما لا يعلمون معناها ومالا يعلمون حقيقته ولم يثبتوا ما يعلمون انتفاء ظهر ما تقدم من الجواب من الفرق بين ما يعلم امتناعه وهو وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وبين ما لا تعلم حقيقته كهذه الصفات عند هؤلاء # الرابع والستون أن ما أثبتوه من الصفات جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها وقد يقول طوائف أن العقل أيضا يوجب ثبوت أصل هذه الصفات وإن لم يثبتها مفصلة كما أنه في العلو يعلم علوه لكن لا يعلم وما نفوه من كون الخالق ليس داخل العالم ولاخارجه جاء فيه الأثبات الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأئمة وأئمتها مع حكم العقل الصريح به فهم في كلا الموضعين آمنوا بالله وكتبه ورسله وأقروا ما شهدت به الفطرة وما علمه العقل الصريح وأقروا بموجب السمع والعقل ولم يكونوا من أصحاب النار الذين يقولون ^ لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ^ 1067 فأين هذا ممن خالف صريح العقل بإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه وخالف مع ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها ونفى مع ذلك الصفات التي أثبتتها النصوص المتواترة والإجماع السلفي وعلم فساد نقيضها بالعقل الصريح أيضا بأن الله لا مثل له وأن حقيقته مخالفة لحقيقة العالم كما أنه قد يحصل العلم بأنه ليس مماثلا للخلق بل مخالف له قبل العلم بأنه مباين للعالم محتاز عنه منفرد فإن باب الكيف غير باب الكم وباب الصفة غير باب القدر وإذا كانت المباينة بالقدر والجهة تعلم بدون هذه علم أنها أيضا ثابتة وإن كانت تلك أيضا ثابتة وأنه مباين للخلق بالوجهين جميعا بل المباينة بالجهة والقدر أكمل فإنها تكون لما يقوم بنفسه كما تكون لما يقوم بغيره لأن عدم قيامه بنفسه يمنع أن يكون له قدر وحيز وجهة على سبيل الاستقلال ومن هنا تبينا # الوجه الثالث والثلاثون وهو أن من المعلوم أن مباينة الله لخلقه أعظم من مباينة بعض الخلق بعضا سواء في ذلك مباينة الأجسام بعضها لبعض والأعراض بعضها لبعض ومباينة الأجسام والأعراض ثم الأجسام والأعراض تتباين مع تماثلها بأحيازها وجهاتها المستلزمة لتباين أعيانها وتباين مع اختلافها أيضا بتباين أحيازها وجهاتها مع اختلافها كالجسمين المختلفين والعرضين المختلفين في محلين وأدنى ما تتباين به الاختلاف في الحقيقة والصفة دون الحيز كالعرضين المختلفين في محل واحد فلو لم يباين الباري لخلقه إلا بمجرد الاختلاف في الحقيقة والصفة دون الجهة والحيز والقدر لكانت مباينته لخلقه من جنس مباينة العرض لعرض آخر حال في محله أو مباينة الجسم للعرض الحال في محله وهذا يقتضي أن مباينته للعالم من جنس تباين الشيئين اللذين هما في حيز واحد ومحل واحد فلا تكون هذه المباينة تنفي أن يكون هو والعالم في محل واحد بل إذا كان العالم قائما بنفسه وكانت مباينته له من هذا الجنس كانت مباينته للعالم مباينة للجسم الذي قام به ويكون العالم كالجسم وهو معه كالعرض وذلك يستلزم أن تكون مباينته للعالم مباينة المفتقر إلى العالم وإلى محل يحله لا سيما والقائم بنفسه مستغن عن الحال فيه وهذا من أبطل الباطل وأعظم الكفر فإن الله تعالى غني عن العالمين كما تقدم # ومن هنا جعله كثير من الجهمية حالا في كل مكان وربما جعلوه نفس الوجود القائم بالذوات نفس أو جعلوه الموجود المطلق أو نفس الموجودات وهذا كله مع أنه من أبطل الباطل وهو تعطيل للصانع ففيه من إثبات فقره وحاجته إلى العالم ما يجب تنزيه الله عنه وهؤلاء زعموا أنهم نزهوه عن الحيز والجهة لئلا يكون مفتقرا إلى غيره فأحوجه بهذا التنزيه إلى كل شيء وصرحوا بهذه الحاجة كما ذكرناه في غير هذا الموضع فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ^ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرص وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ^ 1988 95 ومع هذا فهؤلاء أقرب إلى الإثبات وإلى العلم من إثبات مباينة لا تعقل بحال وهو مباينة من قال لا داخل العالم ولا خارجه فإن هذه ليست كشيء من المباينات المعروفة التي أدناها مباينة العرض للجسم أو للعرض بحقيقته فإن ذاك يقتضي أن يكون أحدهما في الآخر أو يكونان كلاهما في محل واحد وإذا كان هؤلاء النفاة لم يثبتوا له مباينة تعقل وتعرف بين موجودين علم أنه في موجب قولهم معدوما كما اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن ذلك حقيقة قول هؤلاء الجهمية الذين يقولون إنه ليس فوق العرش أنهم جعلوه معدوما ووصفوه بصفة المعدوم |
# يدل على ذلك أن هذا الرازي جعل مباينته لخلقه من جنس مباينته للحيز ولا يجب أن يكون موجودا كما تقدم فعلم أنهم أثبتوا للعالم من جنس مباينة الموجود للمعدوم ومن جنس مباينة المعدوم للمعدوم والعالم موجود لا ريب فيه فيكونون قد جعلوه بمنزلة المعدوم وهذا حقيقة قولهم وإن كانوا قد لا يعلمون ذلك فإن هذا حال الضالين # الوجه الرابع والثلاثون أن يقال هب أنهم أثبتوا له مباينة تعقل لبعض الموجودات فالواجب أن تكون مباينته للخلق أعظم من مباينة كل لكل فيجب أن يثبت له من المباينة أعظم من مباينة العرض للعرض ولمحله ومباينة الجوهر للجوهر وكذلك يقتضي أن يثبت له المباينة بالصفة التي تسمى المباينة بالحقيقة أو بالكيفية أو المباينة بالقدر التي تسمى المباينة بالجهة أو الكمية فإن تكون مباينته بهذين أعظم مما يعلم مباينة المخلوق المخلوق إذ ليس كمثله شيء مما يوصف به وأما إثبات بعض المباينات دون بعضها فهذا يقتضي مماثلة المخلوق وإنما يكون شبهه ببعض المخلوقات أعظم من شبه بعضها ببعض وذلك ممتنع يوضح ذلك # الوجه الخامس والثلاثون وهو أن المباينة تقتضي المخالفة في الحقيقة وهو ضد المماثلة وحيث كانت المباينة فإنها تستلزم
فصل قول المؤسس وأمثاله معلوم أن الوجه واليد بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال # إن عنى بذلك ما يعرفه من مسمى ذلك لم ينازع فيما يدعيه وإن ادعى ذلك يبين هذا # الوجه الثامن والستون وهو أن يقال له لا نسلم إن ذلك مما لا يقبله الوهم والخيال والدليل على ذلك أن القرآن والحديث سمعه الصحابة والتابعون وتابعوهم من القرون الثلاثة وفي غيرها من الأعصار في جميع أمصار المسلمين وهو يتلى ليلا ونهارا والمؤمن يسلم أن ظاهر ذلك هي هذه الصفات ومن المعلوم أن أحدا من السلف والأئمة لم يتقدموا إلى من يستمع القرآن والحديث بأن يصرف قلبه وفكره عن تدبر ذلك وفهمه وتصوره ولا أمره أن يعتقد أن هذا المعنى منه ليس بمراد وإنما المراد بعض المعاني التي يعينها المتأولون أو المراد معنى آخر لا يعرف جملة ولا تفصيلا ولا يميز بينه وبين غيره ولا يقال اكتفوا في ذلك بسماع قوله ^ ليس كمثله شيء ^ وقوله ^ هل تعلم له سميا ^ وقوله ^ لم يكن له كفوا أحدا ^ لأنه يقال الذي دلت عليه هذه النصوص هو الذي حكى عن أهل الأثبات التصريح بأن الثابت لله هو على خلاف ما يثبت للمخلوق فإن هذه المخالفة هي عدم المماثلة والنصوص تدل على ذلك فإذا كان ما دل عليه النصوص هو الذي حكاه عن أهل الإثبات فلو كان ذلك مردودا أو غير ممكن القبول في التوهم والتخيل مع أن ذلك غالب أو لازم لبني آدم لوجب أن يظهر إنكار ذلك ودفعه من عموم الخلق وجهورهم # الوجه التاسع والستون وهو قوله معلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لايقبله الوهم والخيال أما أن يريد به المعنى الذي يذكره المتكلمة الصفاتية الذين يقولون هذه صفات معنوية كما هو قول الأشعري والقلانسي وطوائف من الكرامية وغيرهم وهو قول طوائف من الحنبلية وغيرهم وأما أن يريد بمعنى أنها أعيان قائمة بأنفسها # فإن أراد به المعنى الأول فليس هو الذي حكاه عن الحنبلية فإنه قال وأما الحنابلة الذين التزموا الأجزاء والأبعاض فهم أيضا معترفون بأن ذاته مخالفة لسائر الذوات إلى أن قال وأيضا فعمدة مذهب الحنابلة أنهم متى تمسكوا بآية أو خبر يوهم ظاهره شيئا من الأعضاء والجوارح صرحوا بأنا نثبت هذا المعنى لله على خلاف ما هو ثابت للخلق فأثبتوا لله وجها بخلاف وجوه الخلق ويدا بخلاف أيدي الخلق ومعلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه عما لا يقبله الوهم والخيال فإذا كان هذا قوله فمعلوم أن هذا القول الذي حكاه هو قول من يثبت هذه بالمعنى الذي سماه هو أجزاء وأبعاضا فتكون هذه صفات قائمة بنفسها كما هي قائمة بفسها في الشاهد كما أن العلم والقدرة قائم بغيره في الغائب والشاهد لكن لا تقبل التفريق والانفصال كما أن علمه وقدرته لا تقبل الزوال عن ذاته وإن كان المخلوق يمكن مفارقة ما هو قائم به وما هو منه يمكن مفارقة بعض ذلك بعضا فجوزا ذلك على المخلوق لا يقتضي جوازه على الخالق وقد علم أن الخالق ليس مماثلا للمخلوق وأن هذه الصفات وإن كانت أعيانا فليست لحما ولا عصبا ولا دما ولا نحو ذلك ولا هي من جنس شيء من المخلوقات # فإذا كان هذا القول الذي ذكر تنفي الحنابلة وإن هذا هو الظاهر فلو كان هذا مما لا يقبله الوهم والخيال لوجب نفرة من سمع القرآن والحديث عن ذلك من الكفار والمؤمنين ولوجب أن يكون المشركون يقدحون فيه بأنه جاء بما تنكره الفطرة ولوجب أن المؤمنين عوامهم وخواصهم يكون عندهم يفي ذلك شبهة وإشكالا حتى يسألوا عن ذلك كما وقعت الشبهة عند من سمع ذلك واعتقد نفي هذا المعنى إذ يرى ذلك متناقضا ولوجب أن علماء السلف وأئمة الأمة يتكلمون بما ينفي هذا المرض ويزيل هذه الشبهة ويكون ذلك من أعظم الطاعات بل من أكبر الواجبات فلما لم يمكن شيء من ذلك علم أن هذا الذي ذكرته عنهم ليس هو مما ينكره الوهم والخيال # ألا ترى أن ما نقوله من أنه ليس بداخل العالم ولا خارجه متى صرحت به لجمهور الناس تلقوه بالرد والإنكار ولهذا كان الحذاق من أهل هذا القول يتواصون بكتمانه وإخفائه وكان السلف والأئمة في ذلك يفصحون به في المجالس العامة والخاصة وهكذا الأمر فيما قبل شريعتنا فإن التوراة فيها من هذا الباب نحو ما في القرآن وكان موسى عليه السلام يبلغ ذلك لبني إسرائيل تبليغا عاما والأنبياء بعده ولم يكن بنو إسرائيل ينكرون ذلك ولا كان الأنبياء يأمروهم بترك ما فهموه من ذلك فلو كان الوهم والخيال يرد ذلك للعامة لكان يجب أن يكثر في العامة من يرد ذلك وهمه وخياله وإن كان في الخاصة فكذلك فلما لم يوجد في العامة ولا الخاصة من رد ذلك لكونه لا يمكنه أن يتصور خياله ووهمه علم بطلان ما ذكره إذ الذين ينفون ذلك يزعمون أن القياس دل على نفيه # الوجه السبعون أن جميع الناس من المثبتة والنفاة متفقون على أن هذه المعاني التي حكيناها عن خصمك هي التي تظهر للجمهور ويفهمونها من هذه النصوص من غير إنكار منهم لها ولا قصور في خيالهم ووهمهم عنها والنفاة المعتقدون انتفاء هذه الصفاة العينية لم يعتقدوا انتفاءها لكونها مردودة في التخيل والتوهم ولكن اعتقدوا أن العين التي تكون كذلك هو جسم واعتقدوا أن الباري ليس بجسم فنفوا ذلك # ومعلوم أن كون الباري ليس جسما ليس هو مما تعرفه الفطرة بالبديهة ولا بمقدمات قريبة من الفطرة ولا بمقدمات بينة في الفطرة بل مقدمات فيها خفاء وطول وليست مقدمات بينة ولا متفقا على قبولها بين العقلاء بل كل طائفة من العقلاء تبين أن من المقدمات التي نفت بها خصومها ذلك ما هو فاسد معلوم الفساد بالضرورة عند التأمل وترك التقليد وطوائف كثيرون من أهل الكلام يقدحون في ذلك كله ويقولون بل قامت القواطع العقلية على نقيض هذا المطلوب وأن الموجود القائم بنفسه لا يكون إلا جسما وما لا يكون جسما لا يكون معدوما ومن المعلوم أن هذا أقرب إلى الفطرة والعقول من الأول # وإن قال النفاة إن هذا حكم الخيال والوهم فقد اتفقوا على أن الوهم والخيال يثبت الصانع على قول مثبتة الجسم لا على قول نفاته فإذا كان الوهم والخيال يثبته كذلك بإقرار النفاة فكيف تكون هذه الصفات منفية عنه في حكم الوهم والخيال هذا خلاف ما اتفق عليه النفاة والمثبتة بل على هذا التقدير يكون الوهم والخيال مقرا بما قاله أهل الإثبات في الذات والصفات دون ما قاله النفاة وهذا أمر بين لا يتنازع فيه عاقلان # الوجه الحادي والسبعون أن هذا الذي حكيته عن هؤلاء الذين قلت إنهم التزموا الأجزاء والأبعاض غايته أنهم يثبتون ما هو الموصوف الذي تسميه جسما وأنهم لا يجوزون عليه ما يجوز على الأجسام من الفناء والآفات ومضمو ذلك أنه جسم يمتنع عليه أن يوصف بما توصف به سائر الأجسام بل هو مختلف عنها في الحقيقة وكذلك ما ذكرته من أنهم يصرحون متى تمسكوا بآية أو خبر يوهم ظاهره شيئا من الأعضاء والجوارح بأنا نثبت هذا المعنى لله على خلاف ما هو ثابت للخلق فأثبتوا لله وجها بخلاف وجوه الخلق ويدا بخلاف أيدي الخلق فهذا الذي ذكرته غايته أنهم يثبتون وجها ويدان مخالفا لوجوه الخلق وأيديهم كما يقال جسم لا كالأجسام ومن أوضح المعلومات أن إثبات هذا ليس مما لا يقبله الوهم والخيال بل الوهم والخيال من أعظم الأشياء قبولا لمثل هذا كما تقدم تقريره غير مرة فإن الوهم والخيال يتصور أنواعا من الأجسام كل جسم موصوف بضد صفات الآخر وكل جسم يجوز عليه أو يمتنع ما لا يجوز على الآخر أو لا يمتنع فيتصور الأجسام الموجودة ويقدر ما ليس بموجود وما يستحيل وجوده فكيف يقال إنه لا يقبل هذا # يوضح هذا # الوجه الثاني والسبعون وهو أنه إذا وصف له الملائكة وغيرهم بالوجه واليد ونحو ذلك مع أنه قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه على صورته التي خلق عليها مرتين رآه مرة وله ست مائة جناح منها جناحان قد سد بهما الأفق وروي أنه حمل قرى قوم لوط على ريشة من جناحه ونحو ذلك من الصفات العظيمة التي توصف بها الملائكة فإن الوهم والخيال يقبل ذلك مع علمه بأن حقيقتهم ليست مثل حقيقة بني آدم وأنهم ليسوا لحما ودما وعصبا ونحو ذلك من الأجسام الكائنة الفاسدة نعم قد يكون الضعيف الخيال منهم يكل خياله عن مثل ذلك كما يكل حسه عن رؤية الشعاع وعن سماع الصوت القوي ونحو ذلك ولهذا قال علي رضي الله عنه حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وقال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم ولهذا سأل بعضهم زر بن حبيش عن حديث ابن مسعود في صفة جبريل وأن له ست مائة جناح فلم يحدثه به خوفا أن لا يحتمله عقله فيكذب به فهذا وأمثاله كثير موجود في بني آدم تضعف قوى إدراكهم عن إدراك الشيء العظيم الجليل لا كون الوهم والخيال لا يقبل جنس ذلك ولكن لأجل ما فيه من العظمة التي لم يعتد تصور مثلها # ومن هذا الباب عجز الخلق عن رؤية الرب في الدنيا لامتناع رؤيه لعجزهم في هذه الحياة فأما أن يكون بنو آدم ينكرون بوهمهم وخيالهم في جسم مخلوق أن يكون مخالفا لغيره وأنه يمتنع تماثلهما فليس الأمر كذلك فكيف ينكرون بوهمهم وخيالهم أن يكون الخالق غير مماثل للمخلوق مع كون الوهم والخيال لا يتصور موجودا إلا جسما أو قائما بجسم # الوجه الثالث والسبعون أن الأجسام بينها قدر مشترك وهو جنس المقدار كما يقولون ما يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه وبينها قدر مميز وهو حقيقة كل واحد وخصوص ذاته التي امتاز بها عن غيره كما يعلم أن الجبل والبحر مشتركان في أصل القدر مع العلم بأن حقيقة الحجر ليست حقيقة الماء وإذا كان كذلك فالحس لم يدرك مقدارا مجردا ولا صورة مجردة ولم يحس قط إلا جسما مهيئا له قدر يخصه وصفة تخصه والخيال إذا تخيل المحسوسات وهو مع هذا يمكنه تجريد المقدار عن الصفة فيشكل في نفسه قدرا معينا أو مطلقا غير مختص بصفة من الصفات وهو تقدير الأبعاد في النفس وإذا وصف له الملك فإنه يتخيل صورة مطلقة وأن لها وجها ويدا تناسبها في غير أن يتخيل حقيقتها فإن تخيل نسبة الصفة المخصوصة إلى الموصوف المخصوص أقرب إلى ما أحسه من تخيل قدر مطلق والتخيل يتبع الحس فكلما كان أقرب إلى الحس كان تخيله أيسر عليه # وهذا ونحوه ما يبين أن تصوير الخيال لما حكاه عن منازعيه من أيسر الأمور بل لو قال إن التخيل لا يتصور إلا ما يكون هكذا لا يتصور وصفة بنقيض ذلك لكان هذا القول أقرب بل هذا القول الذي اتفق عليه العقلاء من أهل الإثبات والنفي اتفقوا على أن الوهم والخيال لا يتصور موجودا إلا متحيزا أو قائما وهو الجسم وصفاته ثم المثبتة قالوا وهذا حق معلوم أيضا بالأدلة العقلية والشرعية بل بالضرورة وقالت النفاة إنه قد يعلم بنوع من دقيق النظر أن هذا باطل فالفريقان اتفقوا على أن الوهم والخيال يقبل قول المثبتة الذين ذكرت أنهم يصفونه بالأجزاء والأبعاض وتسميهم المجسمة فهو يقبل مذهبهم لا نقيضه في الذات فصل # التخيل والوهم الصحيح لا يتصور الموجود معدوما فعلم أن إنكاره الفطرة لذلك ورد التخيل والوهم له لما فيه من الأمور العدمية كالتناقض الذي فيه لا لعظمته في الوجود والذي يوضح هذا أن كثيرا من الخطباء والقصاص إذا أخذوا يصفون الرب ويعظمونه بهذه الصفات السلبية أخذت العامة الذين لا يفهمون حقيقة ما يقولون وإنما يستشعرون من حيث الجملة أن هذا تعظيم للرب يسبحونه ويمجدونه فلولا أنهم تخيلوا وتوهموا أن هذا السلب متضمن لوجود عظيم كبير وإلا لم يكونوا كذلك فعلم أنهم لم ينكروه لما فيه من الأمور الوجودية بل هم يتخيلون الموجود العظيم في الجملة ولكن إذا فهموا حقيقة هذه الألفاظ وما تشتمل عليه من الأمور العدمية أنكروه حينئذ وردته فطرتهم وذلك لأن السلب والعدم ليس فيه مدح أصلا ولا تعظيم فعلم أنه تعظيم فيها عند من توهمها # ولهذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون يعظمون الرب بشيء من ذلك ولا يوجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في آثار الأنبياء وسلف الأمة وأئمتها شيء من ذلك بل أعظم ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيم الرب وتمجيده يوم قرأ على المنبر ^ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه ^ 6739 كما روى ذلك أبو هريرة وعبدالله بن عمر والحديث في الصحيحين والآية دلت على عظم قدر الرب الذي يقبض الأرض ويطوي السموات بيمينه وهذا وصف لأمور وجودية تقتضي عظمة القدرة بخلاف السلوب المحضة ففي حديث ابن عمر الذي في الصحيح قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيديه وقبض كفيه أو قال يديه فجعل يقبضهما ويبسطهما ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ويميل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه وشماله حتى نظرت إلى المنبر من أسفل شيء حتى إني لا أقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حديث عمر بن حمزة قال قال سالم أخبرني عبدالله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن وفي الصحيحين عن سعيد عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السموات بيمينه ثم قال أنا الملك أين ملوك الأرض وروى أبو الشيخ وغيره عن ابن عباس قال ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم وفي لفظ إنها لتغيب في يده حتى لا يرى طرفاها # الوجه السادس والسبعون قوله فأثبتوا لله وجها بخلاف وجوه الخلق وبدأ بخلاف أيدي الخلق ومعلوم أن الوجه واليد بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال |
# يقال له لا نسلم أن هذا غير مقبول كما يقبل أشباهه وتوابعه بل قبول وجوه وأيد لا تكون من جنس وجوه المخلوقين وأيديهم من جنس قبول ذات لا تكون من جنس ذوات المخلوقين وسمع وبصر وعلم وصفة لا تكون من جنس سمعهم وأبصارهم وعلومهم وإراداتهم شيئا فإن الذات عين قائمة بنفسها وهذه صفات لها ومنها وكل في ذلك ليس من جنس الأعيان المخلوقة وصفاتها التي هي لها ومنها وإن كان اللفظ متواطئا فيهما وقول القائل إن الوهم والخيال لا يقبل ذلك في الوجه كقول غيره إن الوهم لا يقبل ذلك في العلم وهو قول نفاة الصفات وهو كقول القائل إن الوهم والخيال لا يقبل ذلك في الذوات مطلقا عند كل من أثبت الذوات # وليس له أن يقول فمقصودي أننا متفقون على الإقرار بما لا يقبله الوهم والخيال فإن هذا باطل من وجوه # أحدها أنه لا فرق بين العقل والاعتقاد والعلم والوهم والخيال والظن من هذا الباب # الثاني إن مورد النزاع قد قيل إنه معلوم بالفطرة انتفاؤه عقلا وموقع الإجماع ليس كذلك # الثالث إن موقع النزاع معلوم الانتفاء بالوهم والخيال وموقع الإجماع إنما يقال فيه إن الوهم عاجز عنه كما بين ذلك # الرابع أن إثبات صفات لا تعلم كيفيتها لذات لا تعلم كيفيتها ليس ممتنعا في العقل ولا في الوهم والخيال إنما الممتنع ثبوت ذات قائمة بنفسها لا داخل العالم ولا خارجه
# الخامس أنه إذا عرض على الفطرة وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه نفت ذلك وأنكرته وقضت بعدمه وإذا عرض عليها يد ليست جسما كأيدي المخلوقين وعلم ليس عرضا كعلم المخلوقين لم يقض بعدم فهمه ومعرفته أو بعلمه من وجه دون وجه ولهذا تنفر الفطرة عن الأول مالا تنفر عن الثاني # وتحرير الأمر أن يقال # الوجه السابع والسبعون أن لفظ الجسم والعرض والمتحيز ونحو ذلك ألفاظ اصطلاحية وقد قدمنا غير مرة أن السلف والأئمة لم يتكلموا في ذلك حق الله لا بنفي ولا بإثبات بل بدعوا أهل الكلام بذلك وذموهم غاية الذم والمتكلمون بذلك من النفاة أشهر ولم يذم أحد من السلف أحدا بأنه مجسم ولا ذم المجسمة وإنما ذموا الجهمية النفاة لذلك وغيره وذموا أيضا المشبهة الذين يقولون صفاته كصفات المخلوقين ومن أسباب ذمهم للفظ الجسم والعرض ونحو ذلك ما في هذه الألفاظ من الاشتباه ولبس الحق كما قال الإمام أحمد يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم # وإنما النزاع المحقق أن السلف والأئمة آمنوا بأن الله موصوف بما وصف به نفسه وصفه به رسوله من أن له علما وقدرة وسمعا وبصرا ويدين ووجها وغير ذلك والجهمية أنكرت ذلك من المعتزلة وغيرهم # ثم المتكلمون من أهل الإثبات لما ناظروا المعتزلة تنازعوا في الألفاظ الاصطلاحية فقال قوم العلم والقدرة ونحوهما لا تكون إلا عرضا وصفة حيث كان فعلم الله وقدرته عرض وقالوا أيضا إن اليد والوجه لا تكون إلا جسما فيد الله ووجهه كذلك والموصوف بهذه الصفاة لا يكون إلا جسما فالله تعالى جسم لا كالأجسام قالوا وهذا مما لا يمكن النزاع فيه إذا فهم المعنى المراد بذلك لكن أي محذور في ذلك وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها أنه ليس بجسم وأن صفاته ليست أجساما وأعراضا فنفي المعاني الثابتة بالشرع والعقل بنفي ألفاظ لم ينف معناها شرع ولا عقل جهل وضلال # قالوا وكذلك فالعقل ينفي ذلك بما دل على حدوث الجسم والعرض القائم به قالوا لأنه لم يدل العقل على حدوث كل موصوف قائم بنفسه وهو الجسم وكل صفة قائمة به وهو العرض والدليل المذكور على ذلك دليل فاسد وهو أصل علم الكلام الذي اتفق السلف والأئمة على ذمه وبطلانه وسيأتي الكلام على هذا الدليل في موضعه قالوا فلا معنى لإنكار ما هو الحق الثابت بالشرع والعقل لاستلزام ذلك بطلان حجة مبتدعة أنكرها السلف والأئمة لأجل دعوى من ادعى من أهلها أنها أصل الدين الذي لا يعلم الدين إلا به فإنما هو أصل الدين الذي ابتدعوه كما قال تعالى ^ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ^ 4142 ليست أصلا لدين الله ورسوله بل أصل هذا الدين هو ما بينه الله ورسوله من الأدلة كما هو مبين في موضعه إذ من الممتنع أن يبعث الله رسولا يدعو الخلق إليه ولا يبين لهم الرسول أصل الدين الذي أمرهم به وهذا مبسوط في غير هذا الموضع وعلى هذا التقدير فلا يكون فيما أثبته هؤلاء ما يخالف الوهم والخيال فتنقطع مادة التزامه بالكلية # وقال قوم بل نقول ما وصف الله به من العلم والقدرة تسمى صفة ومعنى ولا نسميه عرضا لأن العرض هو ما يعرض ويزول وصفات الله لازمة بخلاف صفة المخلوق فإنها عارضة والتزموا لذلك وغيره أن صفة المخلوقات وهي الأعراض لا يبقى شيء منها زمانين ثم أئمة هؤلاء قالوا وكذلك ما وصف الله به نفسه من الوجه واليد نقول إنه من جنس العلم والقدرة والإكرام بل ما وصف الله به نفسه من الوجه واليد هو مما يوصف من الله ويوصف الله به ولا نسميه جسما لأنها تسمية مبتدعة وموهمة معنى باطلا ولا نقول ذلك من جنس العلم والقدرة ونحوهما بل نقول كما يعلم الفرق في صفاتنا بين العلم والقدرة وبين الوجه واليد ونحوهما فإن الحقائق لا تختلف شاهدا ولا غائبا كما يفرق في حقنا بين العلم والقدرة والسمع والبصر فلكل صفة من هذه خاصة ليست للأخرى كذلك هذه العقيدة في حق الله وإن قيل إن ذلك يقتضي التكثر والتعدد وكذلك نفرق بين الوجه واليد والعين وبين العلم والقدرة ونحو ذلك وإن قيل هذا يقتضي التجسيم والتركيب والتأليف ونحو ذلك فسيأتي الكلام المفصل في هذا في موضعه إن شاء الله لكن علمنا أن ذاته ليست مثل ذوات المخلوقين وعلمنا أن هذه الصفات جميعها ما يفهم أنه عين يقوم بغيره وما يفهم منه أنه معنى قائم بغيره نعلم أن جميع صفات الرب ليست كصفات المخلوقين فإن الشرع والعقل قد نفى المماثلة والشرع والعقل يثبتان أصل الصفات كما يثبتان الذات فإن إثبات ذات لا تقوم بنفسها ممتنع في العقل وإثبات قائم بنفسه يمتنع وصفة بهذه الصفات ممتنع في العقل بل العقل يوجب أن الذات القائمة بنفسها لا تكون إلا بمثل هذه الصفات وعلى قول هؤلاء فلم يثبت شيء على خلاف حكم الوهم والخيال فصل # قال أبو عبدالله الرازي # التاسع أن أهل التشبيه قالوا إن العالم والباري موجودان وكل موجودين فأما أن يكون أحدهما حالا في الآخر أو مباينا عنه قالوا والقول بوجوب هذا الحصر معلوم بالضرورة قالوا والقول بالحلول محال فتعين كونه مباينا للعالم بالجهة فبهذا الطريق احتجوا بكونه تعالى مختصا بالحيز والجهة وأهل الدهر قالوا العالم والباري موجودان وكل موجودين فأما أن يكون وجودهما معا أو يكون أحدهما قبل الآخر ومحال أن يكون العالم والباري معا وإلا لزم إما قدم العالم أو حدوث الباري وهما محالان فثبت أن الباري قبل العالم ثم قالوا والعلم الضروري حاصل بأن هذه القبلية لا تكون إلا بالزمان والمدة وإذا ثبت هذا فتقدم الباري على العالم إن كان بمدة متناهية لزم حدوث الباري وإن كان بمدة لا أول لها لزوم كون المدة قديمة فأنتجوا بهذا الطريق قدم المدة والزمان # فنقول حاصل هذا الكلام أن المشبهة زعمت أن مباينة الباري تعالى عن العالم لا يعقل حصولها إلا بالجهة وأنتجوا منه كون الإله في جهة وزعمت الدهرية أن تقدم الباري على العالم لا يعقل حصوله إلا بالزمان وأنتجوا منه قدم المدة وإذا ثبت هذا فنقول حكم الخيال إما أن يكون مقبولا في حق الله تعالى أو غير مقبول فإن كان مقبولا فالمشبهة يلزم عليهم مذهب الدهرية وهو أن يكون الباري متقدما على العالم بمدة غير متناهية ويلزمهم القول بكون الزمان أزليا والمشبهة لا يقولون بذلك والدهرية يلزم عليهم مذهب المشبهة وهو مباينة الباري عن العالم بالجهة والمكان فيلزمهم القول بكون الباري مكانيا وهم لا يقولون به فصار هذا التناقض وارد على الفريقين # وأما إن قلنا إن حكم الوهم والخيال غير مقبول البتة في ذات الله تعالى وفي صفاته فحينئذ نقول قول المشبهة إن كل موجودين فلا بد وأن يكون أحدهما حالا في الآخر أو مباينا عنه بالجهة قول خيالي باطل وقول الدهري إن تقدم الباري على العالم لا بد وأن يكون بالمدة والزمان قول خيالي باطل وذلك هو قول أصحابنا أهل التوحيد والتنزيه الذين عزلوا حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته وذلك هو المنهج القويم والصراط المستقيم # قلت والكلام على هذا من وجوه # أحدها أن تسمية هؤلاء أهل التشبيه مما ينازعونه فيه وذلك أن القوم متفقون على إنكار التشبيه وذم المشبهة الذين يشبهون الله تعالى بخلقه ويجعلون الخالق من جنس شيء من المخلوقات وهذا منتف عندهم كما أقر به هذا الرجل # ومعلوم أن كل من نفى شيئا من الصفات سمى المثبت لها مشبها فمن نفى الأسماء من املاحدة الفلاسفة والقرامطة وغيرهم يجعل من سمى الله تعالى عليما وقديرا وحيا ونحو ذلك مشبها وكذلك من نفى الأحكام يسمى من يقول إن الله يعلم ويقدر ويسمع ويبصر مشبها ومن نفى الصفات من الجهمية والمعتزلة وغيرهم يسمون من يقول إن لله علما وقدرة وأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن الله تعالى يرى في الآخرة مشبها وهم من أكثر الطوائف لهجا بهذا الاسم وذم أصحابه ولهذا كان السلف إذا رأوا الرجل يكثر من ذم المشبهة عرفوا أنه جهمي معطل لعلمهم بأن هذا الاسم قد أدخلت الجهمية فيه كل من آمن بأسماء الله تعالى وصفاته ومن نفى علو الله على عرشه يسمى المثبت لذلك مشبها ومن نفى الصفات الخبرية والعينية يجعل من أثبتها مشبها وإذا كان هذا اللفظ فيه عموم وخصوص بحسب اعتقاد المتكلمين به واصطلاحهم وقد علم أن الرازي وأشباهه تسميهم المعتزلة وغيرهم مشبهة فإن كان ينفي عن نفسه هذا الاسم بما يقوله من التنزيه فكذلك حال غيره سواء مع أن هذا الاسم ليس له ذم بلفظه في الكتاب والسنة # وقد صنف أبو إسحاق إبراهيم بن عيسى المازني مصنفا سماه تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة ذكر فيه من كلام السلف والأئمة في هذا الباب كلاما كثيرا لا يحضرني الساعة قال أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب السنة حكى إسماعيل بن زرارة قال سمعت أبا زرعة الرازي يقول المعطلة النافية الذين ينكرون صفات الله التي وصف بها نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ويكذبون بالأخبار الصحيحة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات ويتأولونها بآرائهم المنكوسة على موافقة ما اعتقدوا من الضلالة وينسبون رواتها إلى لتشبيه فمن نسب الواصفين ربهم تبارك وتعالى بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل ولا تشبيه فهو معطل ناف ويستدل عليهم بنسبتهم إياهم إلى التشبيه أنهم معطلة نافية كذلك كان أهل العلم يقولون منهم عبدالله بن المبارك ووكيع بن الجراح وذكره أيضا أبو القاسم التيمي في كتابة الحجة في بيان المحجة # وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبدالرحمن الصابوني في اعتقاده المشهور وعلامة أهل البدع شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم واحتقارهم لهم وتسميتهم إياهم حشوية وجهلة وظاهرية ومشبهة اعتقادا منهم في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها بمعزل من العلم وأن العلم ما يلقيه الشيطان إليهم من نتائج عقولهم الفاسدة ووساوس صدورهم المظلمة وهواجس قلوبهم الخالية عن الخير العاطلة وحججهم بل شبههم الداحضة الباطلة بل أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ^ ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء ^ 1822 # فلو قال الرازي بدل المشبهة مثبتة الصفات الخبرية والعينية الذاتية أو مثبتة العلو أو جهة العلو لكان في ذلك من العدل ما ليس في هذا الاسم |
# وأيضا فإنه قد صرح في أجل كتبه وهو نهاية العقول أن المجسمة القائلين بالجهة وغيرها ليسوا مشبهة وكذلك رد على من كفرهم لكونهم مشبهة فتبين ن التشبيه إن كان المراد به إثبات مثل لله عز وجل فهم لا يقولون بذلك وإن كان المراد إثبات وصف مشترك فهذا لازم لجميع الناس وهذا قول أئمته في المجسمة # قال أبو المعالي باب نفي المثل والتشبيه عن الله من صفات نفس القديم تعالى مخالفة للحوادث فالرب سبحانه وتعالى لا يشبه شيئا من الحوادث ولا يشبهه شيء منها والكلام في هذا الباب من أعظم أركان الدين فقد غلت طائفة في النفي فعطلت وغلت طائفة بالإثبات فشبهت وألحدت فأما الغلاة في النفي فقالوا الإشراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه وقالوا على هذا القديم سبحانه لا يوصف بالوجود بل يقال ليس بمعدوم فكذلك لا يوصف بأنه حي عالم بل يقال ليس بعاجز ولا جاهل ولا ميت وهذا مذهب الفلاسفة والباطنية وأما الغلاة في الإثبات فاعتقدوا ما يلزمهم القول بمماثلة القديم سبحانه الحوادث فإنهم أثبتوا له الصورة والجوارح والاختصاص بالجهات والتركيب والأقدار والنهايات ومن غلاتهم من يثبت للقديم تعالى عن قولهم اللحم والدم والهيئة ويقولون بقدم الأرواح وصاروا إلى أنها من ذات القديم سبحانه وإنها تحل الأشخاص # فإن قال قائل ما معنى التشبيه قلنا قد يطلق التشبيه والمراد منه اعتقاد المشابهة ويطلق والمراد منه الإخبار عن تشابه المتشابهين ويطلق ويراد به إثبات فعل على مثال فعل فإن قيل فهل تسمون غلاة المجسمة مشبهة قلنا
قال أبو الحسن في بعض كتبه نسميهم مشبهة وإن لم يصرحوا بلفظ التشبيه بل أبوه وامتنعوا منه فإن الأمة مجمعة على أن من أثبت لله الجوارح والأعضاء والصورة واللحم والدم والتأليف فقد شبه ربه بخلقه فلا ينفعه بعد ذلك نفي سمة التشبيه عن نفسه بالقول بأنه جسم وشخص بلا كيف أو أنه على صورة الإنسان بلا كيف # وقال في بعض كتبه المشبهة من يعترف بالتشبيه ويلتزمه وأما من ينكره فلا نسميه مشبها إذ حقيقة المثلين المشتبهان في جميع صفات النفس وليس كلما يلزم صاحب مذهب نظرا يجوز وصفه ابتداءا # فإن قيل هل تكفرون الغلاة منهم قلنا القول في التكفير سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وبالجملة كل من شبهه فيما يطلقه من القول أو يعتقده بظاهر من الكتاب والسنة ولم يرد على ما ورد التعبد به ولا يفسره بما يوهم السامع تشبيها مع اعتقاد التقديس والتنزيه عن سمات الحدث فالأمر فيه قريب # هذا كله كلام أبي المعالي وأصحابه فقد ذكر في تسمية غلاة المجسمة مشبهة قولين لأبي الحسن والمنصور عندهم هو القول الثاني وإن لازم المذهب ليس بمذهب فأما المجسمة غير الغلاة فلا يسمون مشبهة على القولين ومعلوم أن القائلين بالعلو على العرش بل بالجهة ليسوا بذلك من الغلاة بلا نزاع سواء صرحوا بأنه جسم غير مركب أو قالوا بالتركيب أو نفوهما جميعا إذ القول بأن الله تعالى نفسه فوق العالم هو قول الصفاتية من الكلابية والكرامية وأئمة الأشعرية مع جميع طوائف المسلمين فيمتنع إطلاق اسم المشبهة على هؤلاء وإنما يطلقه عليهم الجهمية من المعتزلة ونحوهم وغلاة المجسمة عنده الذين ذكر فيهم قولين هم الذين يثبتون مع التجسيم صورة الإنسان أو يثبتون له اللحم والدم كما ذكره # ومع هذا كله فالأسماء التي تعلق بها الشريعة المدح والذم والحب والبغض والموالات والمعادات والطاعة والمعصية والبر والفجور والعدالة والفسق والإيمان والكفر هي الأسماء الموجودة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة فأما سوى ذلك من الأسماء فإنما تذكر للتعريف كأسماء الشعوب والقبائل فلا يجوز تعليق الأحكام الشرعية بها بل ذلك كله من فعل أهل الأهواء والتفرق والاختلاف الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كحال من يعلق الموالات والمعاداة بأسماء القبائل أو البلدان أو المذاهب المتبوعة في الإسلام كالحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والمشايخ ونحوهم # وإذا كان كذلك فاسم المشبهة ليس له ذكر يذم في الكتاب والسنة ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين ولكن تكلم طائفة من السلف مثل عبدالرحمن بن مهدي ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ونعيم بن حماد وغيرهم بذم المشبهة وبينوا المشبهة الذين ذموهم أنهم الذين يمثلون صفات الله بصفات خلقه فكان ذمهم لما في قولهم من مخالفة الكتاب والسنة إذ دخلوا في التمثيل إذ لفظ التشبيه فيه إجمال واشتراك وإيهام بخلاف لفظ التمثيل الذي ذل عليه القرآن ونفى موجبه عن الله عز وجل # الوجه الثاني أن هذه الحجة يحتج بها طوائف من متكلميهم من الكرامية وغيرهم وإلا فجمهورهم لا يحتاجون إلى قياس شمولي في هذا الباب بل عندهم أن علو الله على العرش معلوم بالفطرة الضرورية وقد تواطأت عليه الآثار النبوية واتفق عليه خير البرية ويقولون نفي ذلك تعطيل للصانع معلوم بالضرورة العقلية فلو فرض أن هذا القياس عارضه ما أبطله لم يبطل ما علموه بالفطرة الضرورية من أن الله فوق خلقه وأنه يمتنع كونه لا داخل العالم ولا خارجه ولا يلزم من كون العبد مضطرا إلى العلم بحكم الشيء المعين أن يجعل نقيض ذلك قضية عامة كلية فإن العلم بالمعين الموجود يلزمه نفي النقيض وذلك شيء غير العلم بنفي المطلق الكلي وطوائف من أهل الفطرة الصحيحة والأثبات للشريعة يعلمون أن الله تعالى فوق العالم ولا يخطر بقلوبهم تقدير وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه حتى ينفوه إذ الأقوال المنافية للإيمان لا يجب أن تخطر لكل مؤمن لكن لما حدث من ابتدع هذا النفي تكلم المسلمون في رده تارة ببيان أن الله تعالى فوق خلقه من غير تعرض لغيره وتارة ببيان استحالة نقيض ذلك وتارة ببيان استحالة وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ومن علم أن الله عز وجل فوق العالم نفى أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه وأما هل يمكن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه فقد يخطر بقلبه وقد لا يخطر # الوجه الثالث أن هذه الحجة المذكورة ليست نظير ما ذكره من حجة الدهرية وذلك أن هؤلاء قالوا الخالق والمخلوق موجودان فكل موجودين فإما أن يكون أحدهما حالا في الآخر أو بائنا عنه وكذلك إذا قيل إما أن يكون أحدهما داخلا في الآخر أو خارجا منه وكذلك إذا قيل إما أن يكون أحدهما متصلا بالآخر مقارنا له أو منفصلا عنه بائنا منه ثم قالوا وليس هو فيه فوجب أن يكون خارجا منه وهذا مقصودهم فنظيره أن يقال الباري والعالم موجودان وكل موجودين فإما أن يكون وجودهما معا وهما متقارنان وإما أن يكون أحدهما قبل الآخر وليس مع العالم مقارنا له فوجب أن يكون متقدما عليه وهذا حق فهذا تمام الموازنة والمعادلة بين الحجتين # فالأولى دلت أن الباري تعالى خارج عن العالم ليس فيه وهذه دلت على أن الباري سابق للعالم لم يقارنه العالم وكذلك قال سبحانه ^ هو الأول والآخر والظاهر والباطن ^ 6057 وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء والباري سبحانه وتعالى فوق العالم فوقية حقيقية ليست فوقية الرتبة كما أن التقدم على الشيء قد يقال إنه بمجرد الرتبة كما يكون بالمكان مثل تقدم العالم على الجاهل وتقدم الإمام على المأموم فتقدم الله على العالم ليس بمجرد ذلك بل هو قبله حقيقة فكذلك العلو على العالم قد يقال إنه يكون بمجرد الرتبة كما يقال العالم فوق الجاهل وعلو الله على العالم ليس بمجرد ذلك بل هو عال عليه علوا حقيقيا وهو العلو المعروف والتقدم المعروف فهذا هو الذي يدل عليه ما ذكره من الموازنة والمقابلة وكلاهما حق يقولون به فعلم أن الحجة عليه لا له # الوجه الرابع أن هذه المعارضة قد أخذها الرازي ممن احتج بها قبله كأبي المعالي وذويه فإنهم ذكروها في مسألة حدوث العالم وذكروها في مسألة الجهة لما أورد عليهم كل واحدة من الطائفتين ما عارضهم به من القضيتين الفطريتين فظنوا أنهم بهذا الإلزام يخلصون من معارضة الطائفتين ويجعلون ذلك دليلا على أنها من حكم الوهم ومع هذا لم يخلصوا بذلك من معارضة الطائفتين بل ادعوا ما يخالف العقل الصريح وكان ذلك مما سلط عليهم الفلاسفة الدهرية رأوا احتجاجهم بهذه الحجة الضعيفة وكان ذلك مما سلط عليهم المسلمون المثبتون وهذا كما ذكره الإمام أحمد في مناظرة جهم للسمنية # فهكذا أجاب أهل الكلام الذين تكلموا في مناظرة الكفار وأهل الأهواء في المذاهب والحجج بما ليس موافقا للشريعة وما ينكره العقل الصريح فصاروا كمن جاهد الكفار جهادا ظلمهم به وخرج فيه عن الشريعة وظلم فيه المؤمنين جميعا حتى كان مضرة ذلك الجهاد على المسلمين وعلى أنفسهم وعلى عدوهم أكثر من منفعته وقد بسطنا الكلام في أمثال هذا في غير هذا الموضع # ثم غاية ذلك أنه جواب إلزامي لا علمي وهو لا ينفع لا للناظر ولا للمناظر وذلك أن المثبت إذا قال لهم كل موجودين فإما أن يكون أحدهما حالا في الآخر أو بائنا عنه كان من المعروف بنفسه أن هذا حكم الفطرة الإنسانية الموجودة لبني آدم وهذه الفطرة الضرورية لا تندفع بمعارضة ولا جدل فإذا قالوا هذا من حكم الوهم الباطل وبمنزلة قول الدهرية من الفلاسفة وغيرهم كل موجودين فإما أن كون أحدهما متقدما على الآخر أو مقارنا قيل له هب أن الأمر كذلك فهذا الذي مثلت به هو حق أيضا تقبله الفطرة وتحكم به فإذا قال هذا من حجة الدهرية القائلين بقدم العالم فإذا صححناه لزمنا القول بقدم العالم وهو باطل وما استلزم الباطل فهو باطل قيل له هذه القضية معلومة بينة بنفسها فطرية ضرورية وأما كونها مستلزمة للقبول بقدم العالم فهذا ليس بين ولا معلوم بل أنت تقوله وقد يكون هذا من ضعف جوابك عن دعوى التلازم فلما عجزت عن الجواب سلمت التلازم # الوجه الخامس أن يقول هب أنا نفرض تلازمهما فالعلم بهذه القضية التي ألزمتموني نفيها لأنفي معها الأولى التي إثباتها أبين في العقول من كون العالم الذي هو عندكم جميع الأجسام وصفاتها محدث ليس شيء منها بقديم فالاحتجاج على بطلان هذه المقدمة ببطلان هذا اللازم الذي هو أخفى منها عكس الواجب بل إن صح هذا التلازم كان بعض قول الفلاسفة أصح من قولكم يا معشر المناظرين لهم والله تعالى لم يأمرنا أن ندفع الأقوال الباطلة من أقوال الكفار وغيرها بالأقوال الباطلة بل أمرنا أن نكون قوامين بالقسط شهداء لله وأن لا نقول على الله إلا الحق ولا نقفوا ما ليس لنا به علم قال الله تعالى ^ قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ^ وقال تعالى ^ وإذا قلتم فاعدلوا ^ وقال تعالى ^ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ^ وقال تعالى ^ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون ^ وقال تعالى ^ ولا تقف ما ليس لك به علم ^ وقال تعالى ^ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ^ وقال تعالى ^ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق ^ وقال تعالى ^ ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم ^ وقال تعالى ^ إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ^ وقال تعالى ^ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ^ وقال تعالى ^ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ^ وقال تعالى ^ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ^ وليس من الأحسن أن يدفع الباطل بالباطل أو أن نرد ما علمناه بالفطرة والضرورة لظننا أن المبطل يدفع به الحق وقال تعالى ^ ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ^ فذم الله من جادل في الحق بعد ما تبين ومن حاج فيما ليس له به علم ومن أبين الحق ما كان معلوما بالفطرة فكيف يجوز أن يجادل أحد فيه فيدفعه وإن كان هذا مشتبها على أحد كان ما ليس له به علم وليس لأحد أن يحاج فيما ليس له به علم وهذا أصل عظيم ومن أعظم ما ذم به السلف والأئمة أهل الكلام والجدل وإن جادلوا الكفار وأهل البدع أنهم يجادلون بالباطل في الحجج وفي الأحكام فتدبر هذا واحترس منه فإنه من توقاه الله تخلصت له السنة من البدعة والحق من الباطل والحجج الصحيحة من الفاسدة ونجا من ضلال المتفلسفين وحيرة المتكلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم # الوجه السادس إن كل واحدة من الطائفتين تقول لهم إذا عارضهم بمذهب الآخرين ما يبطل هذه المعارضة فيقول المثبت للعلو من المسلمين وسائر أهل الملل والفلاسفة الصابئين والمشركين وغيرهم أنا أعلم بفطرتي أن الموجود إما أن يكون محايثا لغيره أو مباينا له وقولك إن هذا مثل قول الفيلسوف الدهري الموجودان إما أن يكون أحدهما مع الآخر أو قبله هو أيضا معلوم لي وقولك إن هذا يستلزم تقدم العالم أنا لا أجزم بهذه الملازمة نفيا ولا إثباتا # وقد يقول أيضا أنا لا أنظر في هذه المعارضة وسواء جزمت بثبوت الملازمة أو انتفائها أو لم أجزم بشيء فأقول لا يخلو إما أن يكون ما ذكرته مستلزما للقول بقدم جسم من الأجسام أو لا يكون فإن لم يكن مستلزما بطلت المعارضة وإن كان مستلزما لقدم جسم من الأجسام فليس علمي بحدوث الأجسام الذي تسميه حدوث العالم أبين عندي من العلم بهذه القضية إذ هذه المقدمة ضرورية فطرية وتلك تحتاج إلى مقدمات طويلة خفية وفيها نزاع كثير # ولا أيضا دلالة الكتاب والسنة على حدوث جميع الأجسام بأظهر من دلالة الكتاب والسنة على أن الله تعالى فوق العالم بل القرآن مملوء بما يدل على أن الله تعالى فوق العالم وهو دال على أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ولكن هو يذكر مع ذلك أنه استوى على العرش والذي نطق به القرآن في جميع الآيات لا يمكن أن يستدل به على أن جميع الأجسام محدثة إلا بتوسط مقدمات مستنبطة بأن يبين أن هذا المذكور في القرآن هو الأجسام وأن لا جسم إلا ما أخبر بخلقه وأما دلالة القرآن على العلو فلا تحتاج إلى مقدمات مستنبطة فإذا كان العلم بأن الله تعالى فوق العالم أبين في الفطرة والشرعة من كون الأجسام كلها محدثة لم يجب علي أن أترك ذلك المعلوم البين في الفطرة خوفا أن يلزمني إنكار هذا الذي ليس هو مثله في ذلك وهذا الجواب بين ظاهر # وملخصه أن هذه الملازمة التي ذكرها وهو أن هذا يستلزم أن يقال هذا مثل حجة الفلاسفة المستلزمة قدم الزمان إما أن تكون حقا في نفس الأمر أو باطلا فإن كانت باطلا بطلت المعارضة وإن كانت حقا لزم إما ثبوت اللازم وإما انتفاء الملزوم لا يلزم انتفاء الملزوم عينا وإذا كان كذلك فليس العلم بانتفاء اللازم بأظهر من العلم بثبوت الملزوم بل ثبوت الملزوم أبين في الشرع والعقل فلا يجوز على هذا التقدير انتفاء اللازم فلا تصح المعارضة وهكذا يقول الفيلسوف وذلك يظهر # بالوجه السابع وهو أن الفيلسوف يقول وعلمي بأن الموجودين إما أن يكون أحدهما مع الآخر أو قبله علم بديهي فطري وأما قولك إن هذا مثل قول المجسم الموجودان إما أن يكون أحدهما محايثا للآخر أو بائنا عنه أقول لا يخلو إما أن تكون هذه المماثلة حقا أو باطلا فإن كانت باطلا لم يرد علي وإن كانت حقا وجب علي التزام المماثلة وذلك يقتضي أن أقول بثبوت النقيضين جميعا أو انتفائهما جميعا لا يقتضي أن أثبت الزمانية وأنفي المكانية فإذا كنت قد فرقت بينهما بإثبات هذه ونفي الأخرى أكون مخطئا في هذا التفريق لم يتعين خطأي في المكانية حتى أنفيها وأسوي الأخرى بها في النفي بل إذا سويت بينهما في الإثبات يلزمني أن أقول إن واجب الوجود مباين للعالم وإذا سويت بينهما في النفي وسلم أن ذلك يبطل دلالة هذه الحجة على قدم العالم كان غاية ما يلزمني إما بطلان القول بقدم العالم وإما بطلان دليل معين يدل على قدمه ولا ريب أن قدم العالم أو صحة هذه الحجة أخفى وأبعد عن المعلوم من كون واجب الوجود تعالى فوق العالم فإن الإقرار بهذا ثابت في الفطرة وقد تواتر عن الأنبياء والرسل القول به فإذا كان على أحد التقديرين أخالف المعلوم بفطرتي من العلوم الضرورية فأنفي كل واحد من القضيتين وأخالف الأنبياء والمرسلين وعلى الآخر إنما أخالف الحجج الدالة على قدم العالم وأبطل هذه الحجة المعينة كانت مخالفة هذه أولى في عقل كل عاقل وهذا لكلام في غاية الإنصاف والبيان # فعلم أن ما ذكروه من المعارضة لم يندفع به واحدة من الطائفتين لا في المناظرة ولا في نظر الإنسان بينه وبين ربه تعالى ولكن أوهموا هؤلاء بهؤلاء وهؤلاء بهؤلاء والتزموا مخالفة الفطرة الضرورية العقلية التي اتفق عليها العقلاء في كل من الإيهامين مع ما في ذلك من مخالفة الكتب والرسل ببعض ما قالوه في كل واحدة من المسألتين مسألة حدوث الأجسام ومسألة علو الله تعالى على خلقه هذا كله إذا لم يكن في الفلاسفة من يقول بالجهة ولا في المسلمين من يقول بقدم بعض الأجسام فكيف والمثبت للجهة يقول ما يقال في # الوجه الثامن وهو أن يقول غاية ما ألزمتني به من حجة الدهرية أن يقال بقدم بعض الأجسام إذ القول بقدم الأجسام جميعها لم يقل به عاقل والقول بخلق السموات والأرض لم تدل هذه الحجة على نفيه وإنما دلت إن دلت على قدم ما هو جسم أو مستلزم لجسم وهذا مما يمكنني التزامه فإنه من المعلوم أن طوائف كثيرة من المسلمين وسائر أهل الملل لا يقولون بحدوث كل جسم إذ الجسم عندهم هو القائم بنفسه أو الموجود أو الموصوف فالقول بحدوث ذلك يستلزم القول بحدوث كل موجود وموصوف وقائم بنفسه وذلك يستلزم بأن الله تعالى محدث # وهؤلاء يقولون لمناظريهم نحن نبين أن القول بحدوث كل ما يدخل في المعنى الذي تسمونه جسما يستلزم حدث الباري تعالى ونبين أن قولكم أن الله تعالى ليس بجسم يستلزم حدوث الباري أكثر مما تبينون أن القول بثبوته يستلزم حدوث الباري كما سنبين أن نفي الجهة يستلزم القول بعدم الباري وهذا أمر قد بين في غير هذا الموضع وبين أنما ذكره النفاة من حدوث كل جسم حجة باطلة مبتدعة حتى ذكر أبو الحسن الأشعري أن هذه الحجة مخالفة لحجج الأنبياء والرسل وأتباعهم وأنها محرمة عندهم # وإذا كان كذلك فتقول لهم مثبتة الجهة إذا كان تصحيح هاتين المقدمتين الفطريتين يستلزم مع كون الباري تعالى فوق العالم مباينا له أن يكون من الأجسام ما هو قديم أمكنني التزام ذلك على قول طوائف من أهل الكلام بل على قول كثير منهم ولم أكن في ذلك موافقا للدهرية الذين يقولون إن الأفلاك قديمة أزلية حتى يقال هذا مخالف للكتاب والسنة أو هذا كفر بل الذي نطق به الكتاب والسنة واتفق عليه المسلمون من خلق المخلوقات وحدوث المحدثات أقول به وأما كون الباري جسما أو ليس بجسم حتى يقال الأجسام كلها محدثة فمن المعلوم أن الكتاب والسنة والإجماع لم تنطق بأن الأجسام كلها محدثة وأن الله ليس بجسم ولا قال ذلك إمام من أئمة المسلمين فليس في تركي لهذا القول خروج عن الفطرة ولا عن الشريعة بخلاف قولي بأن الله تعالى ليس فوق العالم وأنه موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإن فيه من مخالفة الفطرة والشرعة ما هو بين لكل أحد وهو قول لم يقله إمام من أئمة المسلمين بل قالوا نقيضه فكيف التزم خلاف المعقول الفطري وخلاف الكتاب والسنة والإجماع القديم خوفا أن أقول قولا لم أخالف فيه كتابا ولا سنة ولا إجماعا ولا معقولا فطريا # بل يقول في الوجه التاسع هذه المعارضة تؤكد مذهبي وتقوية وتكون حجة ثانية لي على صحة قولي فإن احتججت علي بأن الله تعالى مباين للعالم بأن الموجودين إما أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو محايثا له فقلتم هذا معارض بقول الفيلسوف إن الموجودين إما أن يكون أحدهما متقدما على العالم أو مقارنا له وذلك يستلزم القول بقدم الزمان المستلزم للقول بقدم بعض الأجسام فأقول إذا كانت هذه الحجة التي عارضتموني بها مستلزمة لكون بعض الأجسام قديمة من غير أن تعين جسما أمكن أن يكون ذلك الذي يعنونه بأنه الجسم القديم هو الله سبحانه وتعالى كما يقوله المثبتون وأن ذلك هو ملازم لقولنا إنه موصوف وقائم بنفسه ونحو ذلك فتكون هذه الحجة التي عارضتم بها دليلا على أن الله تعالى جسم بالمعنى الذي ذكرتموه الذي تقول إنه ملازم لكونه موصوفا وقائما بنفسه وإن نازعتم في الملازمة وذلك يدل على صحة الحجة الأولى بالاتفاق فإن الجسم وما يقوم به إما أن يكون مباينا لغيره وإما أن يكون محايثا له أو حالا فيه وهذا متفق عليه فإنكم لا تنازعون في أن الجسم أو ما يقوم به إما مباينا لغيره أو محايثا له وإذا كان موجب الحجة التي ألزمتموني إياها يلزمني أن أقول هو جسم وذلك يستلزم أن يكون مباينا للعالم كان هذا الذي ألزمتموني به حجة ثانية على أنه مباين للعالم فأردتم معارضة كل حجة بالأخرى ليكون ما قلتموه من تناقض الحجتين نافيا لكونه مباينا للعالم ولكون كل جسم محدثا فتبين أن الحجتين متعاونتان متصادقتان وأن كل واحدة منهما تدل على أنه تعالى مباين للعالم # ويقول في الوجه العاشر إذا كانت إحدى هاتين المقدمتين الضرورتين تستلزم أنه مباين للعالم والأخرى تستلزم أنه جسم فقد ثبت بموجب هاتين المقدمتين صحة قول القائلين بالجهة وقول القائلين بأنه جسم وكونه جسما يستلزم القول بالجهة كما توافقون عليه وقول القائلين بالجهة يستلزم أيضا القول بالجسم كما تقولون أنتم وأكثر العقلاء خلاف ما يقوله قدماء أصحابكم إن نفي الجسم مستلزم لنفي الجهة والعلو على العرش وأن ثبوت العلو على العرش يستلزم ثبوت الجسم فإذا تكون كل واحدة من هاتين المقدمتين الفطريتين دليل على كل واحد من هذين المطلوبين وكل من المطلوبين دليلا على الآخر فصار على كل واحد من هذين المطلوبين أربع حجج وهي مبنية على مقدمات فطرية فقد بين هذا أن ما ذكرتموه معارضة للنفاة لتبطلوا به حجتهم هو من أعظم الحجج على صحة قولهم # وكذلك أيضا قول الفيلسوف في # الوجه الحادي عشر وهو أن يقول هذا الذي عارضتموني به في مسألة الزمان أكثر ما يوجب علي أن أقول بالجهة والقول بالجهة هو قول أئمة الفلاسفة كما ذكرناه فيما مضى عن القاضي أبي الوليد ابن رشد الفيلسوف الذي هو من أتبع الناس لأقوال آرسطو وذويه وأنه قال القول في الجهة وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه وتعالى حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله قال وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة مثل قوله ^ الرحمن على العرش استوى ^ ومثل قوله ^ وسع كرسيه السموات والأرض ^ ومثل قوله ^ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ^ ومثل قوله ^ يدبر الأمر من السماء إلى لأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة ^ ومثل قوله ^ تعرج الملائكة والروح إليه ^ ومثل قوله ^ أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور ^ إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولا متشابها لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله تعالى في السماء وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين وأن من السماء نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى قرب من سدرة المنتهى قال وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله تعالى والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هو أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية # وقد تقدم ذكرنا لبقية كلامه بألفاظه وأنه قرر أن ما فوق العالم وهو الجهة ليس مكانا على اصطلاح الفلاسفة إذ المكان عند آرسطو هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المحوي إلى أن قال وقد قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة إن ذلك الموضع هو مسكن الروحانيين يريدون الله والملائكة إلى أن قال فقد ظهر من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وأنه الذي جاء به الشرع وابتنى عليه فإن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع فقد حكى اتفاق الحكماء على إثبات الجهة قال وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله تعالى والملائكة في السماء وأن مما قيل في الآراء السالفة والشرائع الغابرة إن ذلك الموضع يعني ما فوق العالم هو مسكن الروحانيين يريدون الله تعالى والملائكة وتصريحهم في هذا بلفظ المسكن يشبه ما ذكره الأشعري أن المسلمين جميعا إذا نابتهم نائبة يقولون يا ساكن العرش # فقد ظهر بهذا أنما ذكره من التناقض على المجسمة والفلاسفة لا يرد على واحدة منهما بل يمكنهم نفي هذا التناقض فصل # لفظ الظرف فيه اشتراك غلط بسببه أقوام فإن الظرف في اللغة قد يعنى به الجسم الذي يوعى فيه غيره فيظن إذا استعملت هذه الأدوات في حق الله تعالى أنه محل المخلوقات تكون في جوفه وأنها محل له يكون في جوفها وهذا مما يعلم قطعا أن هذه الأدوات لم تدل على ذلك في حق الله تعالى البتة بل النحاة سموا الألفاظ التي يعبر بها العرب عن المعاني التي هي أعم من ذلك بالظروف حتى يدخل في ذلك ما لا يحيط بالمظروف وأنواع متعددة وقد قال تعالى ^ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم ^ وقال تعالى ^ ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ^ وقال تعالى ^ إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ^ وقال تعالى ^ فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون ^ وقال تعالى ^ في مقعد صدق عند مليك مقتدر ^ وقال تعالى ^ وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ^ وقال تعالى ^ وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ^ وقال تعالى ^ ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ^ وقال تعالى ^ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ^ وقال تعالى ^ إن الله عنده علم الساعة ^ # ولفظ مع من الظروف وقد أضيف اسم الله إليه فيما شاء الله من المواضع وإضافته إلى الظرف أبلغ من إضافة الظرف إليه قال تعالى ^ يخافون ربهم من فوقهم ^ وقال ^ إليه يصعد الكلم الطيب ^ وقال ^ تعرج الملائكة والروح إليه ^ # وحق لمن يكون هذا وأمثاله كلامه إذا أراد الله رحمته أن يتوب منه كما قال أبو المعالي عند الموت لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني وها أنا أموت على عقيدة أمي وروي على عقيدة عجائز نيسابور ولهذا يقول مثل هؤلاء عليكم بدين العجائز فإن تلك العقيدة الفطرية التي للعجائز خير من هذه الأباطيل التي هي من شعب الكفر والنفاق وهم يجعلونها من باب التحقيق والتدقيق فصل # أبو عبدالله الرازي فيه تجهم قوي ولهذا يوحد ميله إلى الدهرية أكثر من ميله إلى السلفية الذين يقولون إنه فوق العرش وربما كان يوالي أولئك أكثر من هؤلاء ويعادي هؤلاء أكثر من أولئك مع اتفاق المسلمين على أن الدهرية كفار وأن المثبتة للعلو فيهم من خيار المسلمين من لا يحصيه إلا الله تعالى وقد صنف على مذهب الدهرية المشركين والصابئين كتبا حتى قد صنف في السحر وعبادة الأصنام وهو الجبت والطاغوت وإن كان قد أسلم من هذا الشرك وتاب من هذه الأمور فهذه الموالاة والمعادات لعلها في تلك الأوقات ومن كان بتلك الأحوال فهو قبل الإسلام والتوبة ومن فعل هذا كان له نصيب من قوله تعالى ^ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا إلى قوله ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ^ إلى آخر الآيات # يقرر ذلك أنه احتج في مقدمة هذا العلم الشريف بكلام آرسطو معلم المشائين من الدهرية ولم يكن عنده من أثارة الأنبياء والمرسلين ما يقدمه على كلام الدهرية واحتج أيضا بما نقله عن أبي معشر البلخي والمنجم وهو من أتباع الصابئين بل كان تارة من المشركين عباد الشمس والقمر وعبد القمر مدة كما أخبر بذلك عن نفسه وصنفها صنف في ذلك وجواب الدهرية أنه قبل العالم وما فيه من الزمان وقولهم والعلم الضروري حاصل بأن هذه القبلية لا تكون إلا بالزمان والمدة |
فصل # تنازع المسلمون في تسمية الله بالدهر ففي الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر ولا يقولن أحدكم للعنب الكرم فإن الكرم الرجل المسلم وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله عز وجل يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار وفي رواية أخرى يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما هذه ألفاظ مسلم # قال القاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات اعلم أن أبا بكر الخلال قال أخبرني بشر بن موسى الأسدي قال سألت أبا عبدالله أحمد بن حنبل عن الدهر فلم يجبني فيه بشيء قال القاضي وظاهر هذا أن أحمد توقف عن الأخذ بظاهر الحديث وقال حنبل سمعت هارون الحمال يقول لأبي عبدالله كنا عند سفيان بن عيينة بمكة فحدثنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسبوا الدهر فقام فتح بن سهل فقال يا أبا محمد نقول يا دهر ارزقنا فسمعت سفيان يقول خذوه فإنه جهمي وهرب فقال أبو عبدالله القوم يردون الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نؤمن بها ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله قال القاضي وظاهر هذا أنه أخذ بظاهر الحديث ويحتمل أن يكون قوله ونحن نؤمن بها راجع إلى أخبار الصفات في الجملة ولم يرجع إلى هذا الحديث خاصة # قال وقد ذكر شيخنا أبو عبدالله رحمه الله يعني ابن حامد هذا الحديث في كتابه وقال لا يجوز أن يسمى الله دهرا والأمر على ما قاله لأنه قد روي في بعض ألفاظ الحديث ما يمنع من حمله على ظاهره هذا ولم يرد في غيره من أخبار الصفات ما دل على صرفه عن ظاهره فلهذا أوجب حملها على ظاهرها وذلك أنه روي فيه أنه يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار وفي لفظ آخر لي الليل والنهار أجدده وأبليه وأذهب بملوك وآتي بملوك فتبين أن الدهر هو الليل والنهار خلق له وبيده وأنه يجدده ويبليه فامتنع أن يكون إلا له وأصل هذا الخبر أنه ورد على سبب وهو أن الجاهلية كانت تقول أصابني الدهر في مالي بكذا ونالتني قوارع الدهر ومصائبه فيضيفون كل حادث يحدث بما هو جار بقضاء الله وقدره وخلقه وتقديره من مرض أو صحة أو غنى أو فقد أو حياة أو موت إلى الدهر ويقولون لعن الله هذا الدهر والزمان ولذلك قال قائلهم % أمن المنون وريبه تتوجع % والدهر ليس بمعتب من يجزع % # وقال تعالى ^ نتربص به ريب المنون ^ أي ريب الدهر وحوادثه وقال سبحانه وتعالى ^ وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ^ فأخبر عنهم بما كانوا عليه من نسبة أقدار الله وأفعاله إلى الدهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر أي إذا أصابتكم المصائب لا تنسبوها إليه فإن الله هو الذي أصابكم بها لا الدهر وأنكم إذا سببتم الدهر وفاعل ذلك ليس هو الدهر # وقال أبو بكر الخلال سألت إبراهيم الحربي عن قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر وعن لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر قال كانت الجاهلية تقول الدهر هو الليل والنهار يقولون الليل والنهار فعل بنا كذا فقال الله تعالى أنا أفعل ليس الدهر قال القاضي فقد بين إبراهيم الحربي أن الخبر ليس على ظاهره وأنه ورد على سبب وذكر أبو عبيد نحو ما ذكرنا فقال لا ينبغي لأحد من أهل الإسلام أن يجهل وجهه وذلك أن أهل التعطيل يحتجون به على المسلمين واحتج به بعضهم فقال ألا تراه يقول فإن الله هو الدهر قال وتأويله أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هرم أو تلف فيقولون أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر وأتى عليهم الدهر فيجعلونه الذي يفعل ذلك فيذمونه عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الذي فعل بكم هذه الأشياء أو يصيبكم بهذه المصائب فإنكم إذا سببتم فاعلها فإنما يقع السب على الله تعالى وهو الفاعل لها لا الدهر فصل # القول بأن الله تعالى ليس فوق العرش أول من ابتدعه في الإسلام الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وشيعتهما وهم عند الأمة من شرار أهل الأهواء وقد أطلق السلف من القول بتكفيرهم ما لم طلقوه بتكفير أحد وقالوا نحكي كلام اليهود والنصارى ولا نحكي كلام الجهمية وقالوا اتفق المسلمون واليهود والنصارى على أن الله تعالى فوق العرش وقالت الجهمية ليس فوق العرش وليس هذا قول أئمة متكلمة الصفاتية لا أبي محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب ولا أبي العباس القلانسي ونحوهما ولا قول أبي الحسن الأشعري وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري والقاضي أبي بكر الباقلاني وغيرهم من أئمة الأشعرية الذين تزعم أنهم أصحابك وإن قيل هؤلاء متناقضون في أقوالهم لم يكن نفي قول الأثبات الذين صرحوا به عنهم لقولهم بما يناقضه بأولى من نفي القول النافي عنهم لقولهم ما يناقضه لا سيما إذا كان المعروف عنهم أن الأثبات آخر القولين وإذا كان أبو المعالي والشهرستاني وطوائف غيرهما قد خالفوه من أئمة أصحابهم وقدمائهم في الأثبات لم يجز أن يجعل قولهم هو قول أولئك بل نقل لمذهب إمامه أنا قد ذكرنا بنقل العدول الأئمة أن أبا المعالي تحير في هذه المسألة في حياته ورجع إلى دين أهل الفطرة كالعجائز عند مماته وكذلك الرازي أيضا حيرته وتوبته معروفة وكذلك أئمة هؤلاء # ثم يقال هب أنه قول هؤلاء أفهؤلاء ومن وافقوه من المعتزلة هم أهل التوحيد والتنزيه دون سائر النبيين والمرسلين والصحابة والتابعين وسائر أئمة الفقهاء والصوفية والمحدثين وأصناف المتكلمين الذين لم يوافقوا هؤلاء في هذا السلب بل يصرحون بنقيضه أو بما يستلزم وكلامهم في ذلك ملء العالم مع موافقتهم للكتب المنزلة من السماء وللفطرة الضرورية التي عليها عموم الدهماء والمقاييس العقلية السليمة عن المراء وقد ذكر هذا الإمام لأتباعه أبو عبدالله الرازي في كتابه أقسام اللذات لما ذكر اللذة العقلية وأنها العلم وأن أعرف العلوم العلم بالله لكنه العلم بالذات والصفات والأفعال وعلى كل واحدة من ذلك عقدة هل الوجود هو الماهية أم قدر زائد وهل الصفات زائدة على الذات أم لا وهل الفعل مقارن أو محدث ثم قال ومن الذي وصل إلى هذا الباب أو ذاق من هذا الشراب % نهاية إقدام العقول عقال % وأكثر سعي العالمين ضلال % % وأرواحنا في وحشة من جسومنا % وحاصل دنيانا أذى ووبال % % ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا % سوى أن جمعنا فيه قيل وقال % # لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفى عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن إقرأ في الاثبات ^ الرحمن على العرش استوى ^ ^ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ^ واقرأ في النفي ^ ليس كمثله شيء ^ ^ ولا يحيطون به علما ^ ثم قال ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ومثل هذا كثير عن هؤلاء أئمة هذه المقالة النافية يعترفون بعدم العلم بها ويرجعون إلى ما عليه أهل الفطرة وما عليه أهل الظاهر الحشوية عندهم فكيف يكونون هم أهل التوحيد والتنزيه مع هذا الريب والشك والحيرة والتمويه # الوجه السادس والثلاثون أن يقال له دعواكم الرد على الدهرية بمثل جحد هذه المقدمة وأمثالها مما تبين فيها أنكم جحدتم العلوم الفطرية أوقعكم في أمورا أربعة # أحدها اتفاق سلف الأمة وأئمتها على ذمكم وذم كلامكم # الثاني نفور أهل الإيمان عن طريقكم وما قذف الله تعالى في قلوبهم من البغض لذلك وهم شهداء الله تعالى في الأرض # الثالث طمع الفلاسفة الدهرية فيكم أهل جدل وكلام لا أهل علم وبرهان حتى ارتد خلق كثير منكم إليهم بل أن ابن الراوندي الذي يقال إنه من شيوخ الأشعري صنف كتابه المسمى بكتاب التاج في قدم العالم موافقة للدهرية وهؤلاء المدعون للتحقيق منكم كصاحب الفصوص وابن سبعين وأمثالهما يؤول بهم الأمر إلى أن يقتصروا على قول الدهرية الذين يثبتون واجب الوجود ويفرقون بين الواجب والممكن بل يجعلون وجوده وجود الممكنات ولا يجعلون له وجودا خارجا عن وجود الأرض والسموات ويصرح من يصرح من فضلائهم بأن قولهم هو قول فرعون وأنهم على قول فرعون فيأتون بقول الدهرية المتضمن لإنكار الصانع وهو شر المقالات ويدعون أن هذا هو التحقيق والعرفان وسببه أنكم سلكتم بهم في طريقة النفي والتعطيل التي لا تثبت للصانع وجودا مباينا للمخلوق وهذه يضطر سالكها إلى أن لا يقول بموجود وراء العالم وهو محض قول الدهرية فكيف تتبرؤون منهم وقولكم يؤول إليهم تصريحا أو لزوما # الرابع أن يقال له أنت معترف بعجزك عن مقاومة الدهرية وأنت في أكبر كتبك المطالب العالمية ذكرت أدلة الفريقين القائلين بحدوث العالم وقدمه وضربت هذه بهذه ولم ترجح شيئا بل ذكرت أن الكتب الإلهية والأدلة السمعية لم تبين هذه المسألة وفي أجل كتبك الكلامية لم تحتج على حدوثه بحجة ظنية فضلا عن علمية وادعيت أن ذلك لا يتم إلا بمقدمة تذكر في سائر كتبك أنها معلومة الفساد بالضرورة وهو ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح فمن تكون هذه حاله كيف يدعي أنه وأصحابه أهل التوحيد والتنزيه دون المثبتين والفلاسفة # وسبب ذلك أنهم أدخلوا في مسألة حدوث العالم حقا وباطلا وطلبوا إثباتهما معا فلم ينهض دليل صحيح بإثبات باطل مع حق وطمع فيهم خصمهم لما رآه من ذلك وإن كان كلام خصومهم فيها أيضا فاسدا متناقضا فالطائفتان فيها ضالتان وذلك أن هذا وأصحابه سلكوا طريق المعتزلة التي التزموا حدوث الموصوفات بحدوث صفاتها والتزموا على ذلك امتناع اتصاف الرب بصفة ولزمهم على ذلك وإن لم يلتزموه حدوث كل قائم بنفسه بل حدوث كل موجود فكان ما ذكروه من الحجة متضمنا حدوث الموجودات كلها ومعلوم أن الدليل على ذلك لا يكون حقا وقابلوا بها من زعم أن من المخلوقات ما هو قديم كالعناصر والسموات وقابلوا باطلا بباطل ثم إنهم اضطربوا في العلم بحدوث الصفات وحدوث موصوفاتها اضطرابا ذكرناه في غير هذا الموضع ثم جاء هؤلاء فوافقوهم في المعنى دون العبارة وزعموا أن الموصوف الذي سموا صفته عرضا يستدل على حدوثه بحدوث صفته وزعموا أن شيئا من صفات المخلوقات لا يبقى زمانين وأن القابل لصفة لا يخلو منها ومن ضدها وقود مقالتهم يوجب مثل تلك المقالة مع ما التزموه في مواضع من المكابرات وإن كانوا في مواضع اعترفوا بالحق الذي أنكره أولئك # ومن تدبر عامة بدع الجهمية ونحوهم وجدها ناشئة عن مباحث هذه الدعوى والحجة # ولهذا كان السلف والأئمة يذمون كلامهم في الجواهر والأعراض وبناءهم علم الدين على ما ذكروه من هذه المقدمات وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع قال الإمام أبو المظفر السمعاني والأصل الذي يؤسسه المتكلمون والأصل الذي يجعلونه قاعدة علومهم مسألة العرض والجوهر وإثباتهما وأنهم قالوا إن الأشياء لا تخلو من ثلاثة أوجه إما أن تكون جسما أو عرضا أو جوهرا فالجسم ما اجتمع من الافتراق والجوهر ما احتمل الأعراض والعرض مالا يقوم بنفسه وإنما يقوم بغيره وجعلوا الروح من الأعراض وردوا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم التي لا توافق نظرهم وعقولهم ولهذا قال بعض السلف إن أهل الكلام أعداء الدين لأن اعتمادهم على حدسهم وظنونهم وما يؤدي إليه نظرهم وفكرهم ثم يعرضون عليه الأحاديث فما وافقه قبلوه وما خالفه ردوه وأما أهل السنة سلمهم الله تعالى فإنهم يتمسكون بما نطق به الكتاب ووردت به السنة ويحتجون له بالحجج الواضحة على حسب ما أذن فيه الشرع وورد به السمع وذكر تمام الكلام # والمقصود أن هذا وأمثاله وإن كان في هذا المقام يتجوه بمخالفة الدهرية وليس الرد على الدهرية معلوما من طريقهم بل طريقهم هم والدهرية فيها متقابلون يقولون هؤلاء الحق تارة والباطل أخرى وكذلك أولئك وليس أذكياؤهم على بصيرة فيها وسبب ذلك ما يجحدونه من الحق المعلوم وما يدعونه من الدعاوى الباطلة والمشتملة على حق وباطل وإلا فلو كانت الحجج حقا محضا لم ينكرها أحد من السلف والأئمة ولا كان للمخالفين طريق صحيح إلى هدمها # الوجه السابع والثلاثون إن تسميتك أصحابك أهل التوحد والتنزيه هو مما اتبعتم فيه المعتزلة نفاة الصفات فإنهم فسروا التوحيد بتفسير لم يدل عليه الكتاب والسنة ولا قاله أحد من سلف الأمة وأئمتها كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى وادعوا أن من أثبت الصفات لم يكن موحدا لأن الواحد عندهم الذي لا يعقل فيه ما تميز منه شيء عن شيء أصلا وثبوت الصفات يقتضي الكثرة والذي جعلوه واحدا لا ينطبق إلا على معدوم ممتنع كما سيأتي بيان # ومن المعلوم أن التوحيد الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه هو ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع مثل عبادة الله وحده لا شريك له فمن عب غيره كان مشركا ولم يكن موحدا وإن أقر أنه خالق كل شيء كما قال تعالى ^ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ^ وقال تعالى ^ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ^ وقال تعالى ^ قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون ^ وقال تعالى ^ وإلهكم إله واحد ^ وقال تعالى ^ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد ^ وأمثال هذه الآيات # وأما تفسير التوحيد بما يستلزم نفي الصفات أو نفي علوه على العرش بل بما يستلزم نفي ما هو أعم من ذلك فهو شيء ابتدعته الجهمية لم ينطق به كتاب ولا سنة ولا إمام وكذلك جعل التشبيه ضد التوحيد وتفسير التشبيه بما فيه إثبات الصفات هو أيضا باطل فإن التوحيد نقيضه الإشراك بالله تعالى والتمثيل له بخلقه وإن كان ينافي التوحيد فليس المراد بذلك ما يسمونه هم تشبيها فإنهم يسمون المعاني بأسماء سموها هم وآباؤها ما أنزل الله بها من سلطان فمن بنى على ذلك الحمد والذم ومن علق الحمد والذم بأسماء ليست مما أنزل الله بها سلطانا بين فيه ما يحمده وما يذمه فقد ابتدع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى وليس هذا موضع بسط هذا وتبيينه إذ كل من كان إلى التعطيل أقرب وعن القرآن والإسلام أبعد كان أحق بهذا المعنى الذي تسميه التوحيد والتنزيه # فإن المعتزلة أحق منهم بهذا لأنهم أحق بنفي الصفات والكثرة وأحق بنفي الأمور التي يجعلون إثباتها تشبيها والفلاسفة أحق من المعتزلة بهذا وأهل وحدة الوجود أحق بهذا من الفلاسفة ولهذا يدعون من التوحيد والتحقيق والعرفان بحسب هذا الوضع والاصطلاح الذي ابتدعوه مالا يمكن هؤلاء رده إلا بنقض الأصول المبتدعة التي وافقوهم عليها ومن المعلوم أن الوجود المطلق ليس شيئا له وجود في الخارج مطلقا حتى يوصف بوحدة ولا كثرة وإنما حقيقة قولهم قول أهل التعطيل الذين هم شرار الدهرية فظهر أن توحيدهم هذا وتنزيههم هذا دهليز التعطيل والزندقة وأن من كان أعظم تعطيلا وإلحادا كان أحق بتوحيدهم وتنزيههم هذا وهذا بخلاف ما كان من أهل الإثبات المقرين بالتوحيد والتنزيه الذي جاءت به الرسل عليهم السلام ونزلت به الكتب التوحيد العلمي القولي كالتوحيد الذي دلت عليه السورة التي هي صفة الرحمن وهي تعدل ثلث القرآن والتوحيد العملي الإرادي الذي دلت عليه السورة التي هي براءة من الشرك وهما سورتا الإخلاص فإن هؤلاء الموحدين كلما حققوا هذا التوحيد بعدوا عن أهل الشرك والتعطيل وتبرؤوا منهم كما قال إمامهم إبراهيم لقومه ^ إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين ^ وقال ^ أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ^ وقال ^ يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ^ وقال تعالى ^ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ^ |
# الوجه الثامن والثلاثون قوله أهل التوحيد والتنزيه الذين عزلوا حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته يقال له قد تقدم الكلام على هذا اللفظ المجمل غير مرة # ثم يقال له لا ريب أن الله تعالى أنزل كتابه بيانا للناس وهدى وشفاءا وقال تعالى فيه ^ وأنزلنا إليك الكتاب تبيانا لكل شيء ^ وقال ^ ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء ^ وقال ^ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ^ وقال ^ فمن ابتع هداي فلا يضل ولا يشقى ^ وقال ^ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ^ وقال تعالى ^ وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ^ وقال ^ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ^ وقال ^ فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل عه أولئك هم المفلحون ^ وقال ^ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ^ وقالت الجن ^ إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ^ وقص الله تعالى ذلك عنهم على سبيل التصديق لهم في ذلك والثناء عليهم بهذا القول وكذلك قولهم ^ يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ^ وأمثال هذا كثير # وقد بين الله تعالى ما يتقي من القول فيه والظن فقال تعالى ^ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون ^ وقال عن الشيطان
^ إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله مالا تعلمون ^ وقال تعالى ^ لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق ^ وقال ^ ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ^ وقال ^ يجادلونك في الحق بعدما تبين ^ فذم من يقول مالا يعلم ومن يقو غير الحق ومن يجادل فيما لا يعلم ومن يجادل في غير الحق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار وقال تعالى في موضع آخر ^ ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ^ وقال ^ ما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ^ وقال تعالى ^ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ^ # ومن المعلوم أن العلم له طرق ومدارك وقوى باطنة وظاهرة في الإنسان فإنه يحس الأشياء ويشهدها ثم يتخيلها ويتوهمها ويضبطها بعقله ويقيس ما غاب على ما شهد والذي يناله الإنسان بهذه الأسباب قد يكون علما وقد يكون ظنا لا يعلمه وما يقوله ويعتقده ويحسه ويتخيله قد يكون حقا وقد يكون باطلا فالله سبحانه وتعالى لم يفرق بين إدراك وإدراك ولا بين سبب وسبب ولا بين القوى الباطنة والظاهرة فجعل بعض ذلك مقبولا وبعضه مردودا بل جعل المردود هو قول غير الحق والقول بلا علم مطلقا # فلو كان بعض جناس الإدراك وطرقه باطلا مطلقا في حق الله تعالى أو كان حكمه غير مقبول كان رد ذلك مطلقا واجبا والمنع من قبوله مطلقا متعينا إن لم يعلم بجهة أخرى كما قال في الخبر ^ إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ^ وقال في الاعتبار والقياس الصحيح ^ إن الله يأمر بالعدل ^ ^ وإذا قلتم فاعدلوا ^ ^ كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ^ ^ ليقوم الناس بالقسط ^ فلما كان من المخبرين من لا يقبل خبره إذا انفرد أمر بالتثبت في خبره ولما كان القياس والاعتبار يحصل فيه الظلم والبغي بتسوية الشيء بما ليس مثله في الشرع والعقل أمر بالعدل والقسط وقال تعالى ^ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ^ فبين تعالى أن سبب الاختلاف هو البغي الذي هو خلاف العدل فالشبهة الفاسدة من هذا النمط وهي من أسباب الاختلاف بعد بيان الكتاب والسنة للحق المعلوم كما قال تعالى ^ ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ^ # فلو كان في الإحساس الباطن والظاهر ما يرد حكمه مطلقا حتى يوافقه إحساس آخر لكان ذلك أيضا مردودا وليبين ذلك كما بين نظيره فإن الحاجة إلى ذلك في أصل الأيمان أعظم من الحاجة إلى ما هو دون ذلك بدرجات كثيرة فلما كان المحرم هو اتباع الظن وما تهوى الأنفس والقول في الدين بلا علم أو قول غير الحق نهى عن ذلك ولم يفرق بين إحساس ظاهر أو باطن ولا بين حس وعقل فلم يكن لأحد أن يفرق بين ما جمع الله تعالى بينه ويجمع بين ما فرق الله تعالى بينه بل يتبع كتاب الله تعالى على وجهه والله أعلم # والذي دل عليه الكتاب أن طرق الحس والخيال والعقل وغير ذلك متى لم يكن عالما بموجبها لم يكن له أن يقول على الله وليس له أن يقول عليه إلا الحق وليس له أن يقفو ما ليس له به علم لا في حق الله ولا في حق غيره فإما تخصيص الإحساس بالباطن بمنعه عن تصور الأمور الإلهية بحسه فهو خلاف ما دل عليه القرآن من تسوية هذا بسائر أنواع الإحساس في المنع وأن القول بموجبها جميعها إذا كان باطلا حرم في حق الله تعالى وحق باده وإن كان حقا لم ينه عنه في شيء من ذلك # يؤكد ذلك أن حكم الوهم والخيال غالب على الآدميين في الأمور الإلهية بل وغيرها فلو كان ذلك كله باطلا لكان نفي ذلك من أعظم الواجبات في الشريعة ولكان أدنى الأحوال أن يقول الشارع من جنس ما يقوله بعض النفاة ما تخيلته فالله بخلافه لا سيما مع كثرة ما ذكره لهم من الصفات # الوجه التاسع والثلاثون قولك الذين عزلوا حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته يقال له ليس الأمر كذلك بل هم يستدلون على منازعيهم في إثبات الصفات لله وما يتبع ذلك بما هو من جنس هذه الحجج وأضعف منها سواء سميت ذلك من حكم العقل أو من حكم الوهم والخيال فإن الاعتبار بالمعاني لا بالألفاظ لا سيما وقد جرت عادة هؤلاء المتكلمين أنهم يسمون بدعواهم منازعيهم بالأسماء المذمومة ويسمون أنفسهم بالأسماء المحمودة فإن كانوا مشتركين في جهة الحمد والذم ويقول أحدهم قال أهل الحق وقال أهل التوحيد ونحو ذلك حتى قد يدعون الإيمان أو ولاية الله تعالى لأنفسهم خاصة كما يفعل ذلك الرافضة والمعتزلة وطوائف من غلاة الصوفية وهؤلاء فيهم شبه من أهل الكتاب الذين قالوا ^ لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ^ وقالوا إن الدار الآخرة خالصة لهم عند الله يوم القيامة والذين ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه ويسمى أحدهم من أثبت لله صفة مشبها ومجسما مع كونه قد أثبت نظيرها أو أبلغ منها ويسمى النافي معطلا ويكون قد نفى نظير ما نفاه ذلك # الوجه السابع والثلاثون أن يقال أصل الجهل والضلال والزندقة والنفاق والإلحاد والكفر والتعطيل في هذا الباب هو ما اشتركت فيه الدهرية والجهمية من التكذيب والنفي والجحود لصفات الله تعالى بلا برهان أصلا بل البراهين إذا أعطوها حقها أوجبت ثبوت الصفات وهم مع اشتراكهم في هذا الأصل الفاسد افترقوا حينئذ في المناظرة والمخاصمة كل قوم معهم من الباطل نصيب # وذلك أن مبدأ حدوث هذا في الإسلام هو مناظرة الجهمية للدهرية كما ذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مناظرة جهم للسمنية وهم من الدهرية حيث أنكروا الصانع وإن كان غيرهم من فلاسفة الهند كالبراهمة لا ينكره بل يقول العالم محدث فعله فاعل مختار كما يحكي عنهم المتكلمون وكذلك مناظرة المعتزلة وغيرهم لغير هؤلاء من فلاسفة الروم والفرس وغيرهم من أنواع الدهرية وكذلك مناظرة بعضهم بعضا في تقرير الإسلام عليهم وإحداثهم في الحجج التي سموها أصول الدين ما ظنوا أن دين الإسلام ينبني عليها وذلك هو أصل علم الكلام الذي اتفق السلف والأئمة على ذمه وذم أصحابه وتجهيلهم فإن كلام السلف والأئمة في ذم الجهمية والمتكلمين لا يحصيه إلا الله تعالى وأصل ذلك أنهم طلبوا أن يقرروا ما لا ريب فيه عند المسلمين من أن الله تعالى خلق السموات والأرض وأن العالم له صانع خالق خلقه ويردوا على من يزعم أن ذلك قديم إما واجب بنفسه وإما معلول علة واجبة بنفسها # فإن الدهرية لهم قولان في ذلك ولعل أكثر المتكلمين إذا ذكروا قول الدهرية لا يذكرون أن الدهرية إلا من ينكر الصانع فيقولون الدهرية وهم الذين يقولون بقدم العالم وإنكار الصانع وعندهم كل من آمن بالصانع فإنه يقول بحدوث العالم وهذا كما قاله طوائف من المتكلمين كالقاضي أبي بكر ابن الباقلاني قال في مسائل التكفير # وجملة الخلاف على ضربين خلاف مع الخارجين عن الملة المنكرين لكلمة التوحيد وإثبات النبوة أعني نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وخلاف مع أهل القبلة المنتسبين إلى الملة فأما الخلاف مع الخارجين عن الملة فعلى ثلاثة أضرب خلاف مع المنكرين للصانع والقائلين بقدم العالم وخلاف مع القائلين بحدوث العالم المثبتين للصانع المنكرين للنبوات أصلا كالبراهمة وخلاف مع القائلين ببعض النبوات المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فجعل ثبوت الصانع وحدوث العالم قولا وإنكار الصانع وقدم العالم قولا ولم يذكر قولا ثالثا بإثبات الصانع وقدم العالم لأن ذلك كالمتنافي عند جمهور المتكلمين فلا يجعل قولا قائما بنفسه # وأما الرازي وأمثاله فيذكروا الدهرية أعم من هذا بحيث أدخلوا فيهم هذا القسم الذي هو قول المشائين أر سطو وذويه وقول غيرهم فقال في كتاب نهاية العقول المسألة الرابعة في تفصيل الكفار قال الكافر إما أن يكون معترفا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم اولا يكون فإن لم يكن فإما أن يكونوا معترفين بشيء من النبوات وهم اليهود والنصارى وغيرهم وإما أن لا يعترفوا بذلك وهم إما أن يكونوا مثبتين للفاعل المختار وهم البراهمة وأما أن لا يثبتوه وهم الدهرية على اختلاف أصنافهم وكذلك قال غير هذا مثل ابن الهيصم وأمثاله قالوا قالت الدهرية من منكري الصانع ومثبتيه أن العالم على هيئة ما تراه عليه قد كان لم يزل إلا أن من أثبت الصانع منهم زعم أنه مصنوع لم يتأخر في الوجود عن صانعه وإليه ذهب أرسطو طاليس ومن قال بقوله وقال أهل التوحيد بل هو مصنوع محدث لم يكن ثم كان # ولا ريب إنكار الصانع بالكلية قول السمنية الذين ناظرهم الجهم بن صفوان وغيرهم من الدهرية وكطوائف غير هؤلاء من الأمم المتقدمة وأما الدهرية اليونان أتباع أرسطو وذويه ونحوهم فهم مع كونهم دهرية يقرون بأن العالم معلول علة واجبة بنفسها ولهذا نفق قول هؤلاء على طوائف كثيرة وصاروا في ه زنادقة منافقين وادعوا علم الباطن الذي اختصوا بمعرفته وزعموا أن ما أظهرته الشرائع لمنفعة الجمهور ونحو ذلك مما ليس هذا موضعه # والمقصود هنا أن أولئك المتكلمين لما راموا إثبات وجود الصانع وخلق العالم سلكوا الطريقة التي ابتدعوها من الاستدلال على حدوث الموصوفات بحدوث صفاتها أو بحدوث صفاتها وأفعالها وسموا ذلك أجساما أو جواهر وسموا صفاتها وأفعالها أعراضا وبنوا الحجة على مقدمتين # إحداهما أن الموصوفات لا تخلو عن أعراض حادثة من صفات وأفعال تعتقب عليها # والثانية أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث # فاحتاجوا في تقرير المقدمة الأولى إلى ثبوت الأعراض أو بعضها وحدوثها أو حدوث بعضها وأن الأجسام لا تخلو منها أو من بعضها فتارة يستدلون بما شهدوه من الاجتماع والافتراق وتارة يقولون إنه لازم لها من الحركة والسكون وهذه الأقسام الأربعة هي الأكوان عندهم وهذه حجة الصفاتية يحتجون بالأكوان ويقولون إن الله تعالى لا يوصف بها وآخرون فيهم لا يحتجون إلا بجواز الاجتماع والافتراق دون الحركة والسكون حتى يستقيم له أن يصف الرب بذلك ويقول إن هذا هو الذي لا تخلو الجواهر منه وهو مبني على الجوهر الفرد وتارة يدعى بعضهم حدوث جميع الأعراض زعما منه أن العرض لا يبقى زمانين ويدعون مع ذلك بأن كل جسم فلن يخلو عما يمكن قبوله من الأعراض أو عن ضد ونشأ بينهم في هذا من المقالات والنزاع ما يطول ذكره # وأما المقدمة الثانية فكانت في بادئ الرأي أظهر ولهذا كثير منهم يأخذها مسلمة فإن ما لا يخلو عن الحادث فهو مقارنه ومجامعه لا يتقدم عليه وإذا قدر شيئان متقارنان لا يتقدم أحدهما الآخر وأحدهما حادث كان الآخر حادثا # لكن في اللفظ إجمال فإن هذا القائل ما لا يخلو عن الحوادث أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث أو ما تعتقب عليه الحوادث فهو حادث ونحو ذلك له معنيان # أحدهما ما لا يخلو عن حوادث معينة لها ابتداء فلا ريب أن ما تقدم على ماله ابتداء فله ابتداء # والثاني أن ما لا يخلو عن جنس الحوادث بحيث لم يزل قائما به ما يكون فعلا له كالحركة التي تحدث شيئا بعد شيء فهذا لا يعلم أنه حادث إن لم يعلم أن ذلك الجنس لا يكون قديما بل يمنع حوادث لا أول لها وهذه مقدمة مشكلة بل كلام المتكلمين والفلاسفة فيما يتناهى وفيما لا يتناهى فيه من الاضطراب ما ليس هذا موضعه فاحتاجوا أن يستدلوا على هذه بأدلة التزموا طردها فنشأ عن ذلك مذاهب أخر كنفي التناهي في المستقبل حتى قال طوائف منهم الجهم بوجوب فناء العالم لوجوب تناهيه أولا وآخرا فقال بفناء الجنة والنار وقال أبو الهذيل بوجوب فناء الحركات إلى مقالات # وإن كان طوائف من المصنفين في الكلام لا يتعرضون لهذه المقدمة بل يرون أن قولهم مالا يخلو عن الحوادث فهو حادث يكفي في العلم بحدوث ما التزمته الحوادث وهؤلاء يقولون إن قولنا حوادث وقولنا لا أول لها مناقضة ظاهرة في اللفظ والمعنى وإن لفظ كونها حوادث يوجب أن يكون لها أول وهذه طريقة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما وقولهم هذا يشبه قولهم إن نفي حدوث العالم هو قول نفاة الصانع ولأجل ما في هذه القضية من الاشتباه خفي عليهم هذا الموضع الذي لا بد من معرفته وبهذه الطريقة نفوا يقوم به فعل من الأفعال فنفوا أن الرب استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويا كما نطق به القرآن في قوله تعالى ^ خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ^ ^ وكان عرشه على الماء ^ فخص الاستواء بكونه بعد خلق السموات والأرض كما خصه بأنه على العرش وهذا التخصيص المكاني والزماني كتخصيص النزول وغيره إذ أبطلوا بهذه الطريقة أن يكون على العرش مطلقا وإن كان كثير ممن يسلك هذه الطريقة يجوز عليه الأفعال الحادثة فلا يمنع حدوث الاستواء كما كان كثير ممن ينفي ذلك يقول باستوائه على العرش مع نفي قيام الفعل به كما سيأتي مأخذ الناس في هذا # وإنما الغرض هنا التنبيه على هذه الطريقة فقال نفاة الصفاة من المعتزلة ونحوهم والصفاتية المنكرون للأفعال كالكلابية والأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء وابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم والقاضي أبي بكر بن الباقلاني وأبي إسحاق الأسفرائيني وأبي بكر ابن فورك وغيرهم قالوا الجسم محدث والدلالة على حدوثه أنا وجدنا هذه الأجسام تتغير عليها الأحوال والصفات فتكون تارة متحركة وتارة ساكنة وتارة حية وتارة ميتة وكذلك سائر الصفات التي تتجدد عليها فلا يخلو الجسم من أن يكون انتقل من حال قدم إلى حال قدم أو من حال حدث إلى حال حدث أو من حال قدم إلى حال حدث أو من حال حدث إلى حال قدم فيستحيل أن يكون متنقلا من حال قدم إلى حال قدم لأنه لو كان كذلك استحال خروجه عن تلك الحال لأن كل حكم حصل عليه الجسم فيما لم يزل وجب وجوده دائما كوجوب وجوده فلما لم يصح خروج القديم عن وجوده الأزلي لأن وجوده ثابت فيما لم يزل كذلك لا يصح خروجه عن كل حكم كان عليه فيما لم يزل وفي العلم بأنه ينتقل من المكان الذي فيه ويخرج عنه دليل على أنه لم يكن في ذلك المكان فيما لم يزل لأن كل مكان يشار إليه وكل حال يشار إليه يصح خروجه عنهما وإذا جاز خروجه عنهما ثبت أنه لم يكن حاصلا في ذلك المكان ولا على تلك الصفة فيما لم يزل وإن كانت الحالة الأولى لم تكن حالة قدم فالحالة التي تجددت بعد أن لم تكن أولى وأحرى أن لا تكون حالة قدم فثبت بذلك أن الجسم لم يكن موجودا فيما لم يزل إذ لو كان موجودا فيما لم يزل لكان لا بد أن يكون في مكان أو ما يقدر تقدير المكان ولو كان كذلك لاستحال خروجه عن تلك المحاذاة لما ذكرناه وإلا نودي إلى حدثه وصح بذلك ما قلناه فهذا نظم حجة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما وهي حجة مبنية على وجوب الكون للجسم ووجوب حدوثه وامتناع حوادث لا أول لها وهذه حجة أكثرهم # ومضمونها أن الجسم القديم لا بد له من مكان فإن كان قديما امتنع خروجه عنه وإن كان حادثا لزم قيام الحادث به وتعاقب الحوادث عليه وهي حجة الرازي وغيره في حدوث العالم فصل # النصوص قد أخبرت والعقول قد دلت على ثبوت صفات الله متنوعات له من العلم والقدرة والحب والبغض والسمع والبصر فإذا كان مع ذلك قد لزم القول بأفعال تقوم بذاته كما تقوله طوائف من أهل الفلسفة والكلام مع جماهير أهل الحديث والفقه والتصوف وسلف الأمة وأن الأفعال متعلقة بمشيئته وقدرته وقد علم ما دلت عليه النصوص مع أن في العقول تنبيه عليه من قوله ^ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه ^ فإنه إذا كان جملة السموات مقبوضة بيمينه وقد قال ابن عباس ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهما وما بينهما في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم وقد علم بالعقل أنه يجب أن يكون أعظم بكل وجه من مخلوقاته ومبتدعاته إذ كل ما فيها من وجود وكمال فهو من أثر قدرته ومشيئته فهو أعظم وأكبر وإذا كان كذلك كانت أفعاله التي يفعلها بذاته تناسب ذاته وكانت أعظم وأجل من أن يدرك عقول البشر قدرها وإذا كان من المعلوم أن حدوث هذه المتكونات من استحالة العناصر والمولدات أعظم نسبة إلى الفلك من الخردلة إلى الإنسان العظيم إذ في الإنسان من قدر الخردل أكثر مما في الفلك من قدر العناصر والمولدات فنسبة الأفلاك وما فيها إلى الرب تعالى دون نسبة حوادثها المتكونة إلى الفلك فإذا جاز أن تكون هذه محدثة بحركة مشهودة حادثة في الفلك فحدوث الفلك وما فيه لفعل يفعله الرب أولى بالجواز وأبعد عن الامتناع وله المثل الأعلى هذا مع أن هذه المحدثات إنما هي منسوبة عندهم إلى فيض العقل الفعال مع إعداد حركات جميع الأفلاك للقوابل وحينئذ فتكون نسبة المحدثات إلى ذلك نسبة كثرة أعظم من نسبة الخردلة إلى الإنسان بكثير ولهذا يظهر ذلك للعباد في المعاد إذا قبض الجبار الأرض بيده وطوى السموات بيمينه ثم هزهن وقال أنا الملك أين ملوك الأرض أين الجبارون أين المتكبرون # وإنما يعظم على الجهال من المتفلسفة وأمثالهم وأشباههم تقدير حدوث العالم وتغيره لأنهم لم يقدروا الله حق قدره وكان ينبغي كلما شهدوه على عظم العالم وقدره يدلهم على قدر مبدعه لكن لما ضل من ضل منهم لم يثبت لخالقه ومبدعه إلا وجودا مطلقا لا ينطبق إلا على العدم وإن أثبت له نوعا من الخصائص الكلية فهي أيضا لا تمنع أنه إنما يطابق العدم ولهذا كان هؤلاء من الدهرية المعطلة نظيرا للصفاتية الذين لا يثبتون حقيقة الذات المباينة للعالم فإن حقيقة قولهم يعود إلى قول معطلة الصفات أيضا # وإذا كان الأمر كذلك فيقال لمن يلتزم منهم نفي الصانع ويقول أنا أقول إنه قديم واجب بنفسه لئلا يلزمني هذا المحذور الذي ذكرتموه في صدوره عن فاعل قديم كما قد يقول بعض الصفاتية إذا ضاقت عليهم الحجج في مسألة العرش والقرآن والرؤية وغيرها نحن نلتزم قول المعتزلة بنفي الصفات مطلقا فإنه يقال لهذا الدهري إذا كنت تجوز في عقلك وجود هذه الأفلاك قديمة أزلية واجبة الوجود أو حادثة بذاتها فإنها إذا لم تكن مفعولة لغيرها فإما أن تكون قديمة بنفسها أو حادثة بنفسها فإذا جوزت ذلك بلا زمان ولا مكان ولا من مادة ولا عن خالق لأن في إثبات الخالق صدور عن فاعل قديم أو حدوثها عنه بلا زمان ولا مكان ولا من مادة وهذا خلاف ما يشهد من صدور الأجسام عن غيرها أو حدوثها فإن تجويز وجوبها بنفسها وقدمها أو حدوثها بنفسها بلا فاعل أبعد عن المشهود والمحسوس والمعقول من صدورها عن فاعل بلا مادة ولا مكان ولا زمان فإن المشهودات صادرة في مكان وزمان ومن مادة وعن فاعل في الجملة وإن سميتموه طبيعة أو قوى فلكية أو غير ذلك فإنكم لا يمكنكم إنكار الأسباب الحادثة المحسوسة فإذا جوزتم وجود ذلك في غير زمان ولا مكان ولا من مادة ولا بفاعل كان ذلك أبعد عن المحسوس والمعقول مما فررتم منه وإذا قلتم ذلك قديم واجب الوجود بنفسه كان ما يلزمكم في هذا من المحذورات أعظم بكثير مما يلزمكم من الاعتراف بصانع لها قديم واجب الوجود فإنكم مهما أوردتموه في ثبوته حينئذ من كونه يستلزم أن يكون محلا للصفات والأفعال ونحو ذلك فإن ذلك يلزمكم أعظم منه إذا قلتم بأن الأفلاك قديمة واجبة الوجود بنفسها وإن قدر أن قائلا يقول إنها حدثت بأنفسها فهذا أعظم إحالة وهذا مما نبغي التفطن له فكل ما يقوله الدهرية من نفاة الصانع ومن مثبتيه من الشبهة النافية لوجوده أو لفعله فإنه يلزمهم أعظم منه على قولهم بأن القديم واجب الوجود بنفسه مستغن عن صانع وقولهم بأنه معلول عن علة موجبة فتدبر هذا # وأصل ذلك أن الله ليس كمثله شيء لا في نفسه ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا مفعولاته فإذا رام الإنسان أن ينفي شيئا مما يستحقه لعدم نظيره في الشاهد كان ما يثبته بدون الذي نفاه أبعد عن المشهود مثل أن يثبت الصفات بلا حقيقة الذات أو الذات بلا صفات أو يثبتهما بدون فعل يقوم بنفسه أو يثبت ذلك لازما لذاته أو يقول إن هذا المحسوس هو القديم الواجب الوجود بنفسه أو يقول حدث بنفسه فكل هذه المقالات النافية يلزم كل قول منها من المعارضات أعظم مما أورده هو على أقوال المثبتين فلا خلاص عنها بحال إذ الوجود مشهود محسوس ولا يخلو إما أن يكون قديما واجبا بنفسه أو محدثا بإحداث غيره وممكنا ومفتقرا إلى واجب بنفسه وإذا كان لا بد من الاعتراف بالوجود القديم الواجب وكان من نفي الرب الصانع الخالق السموات والأرض لشبهة يذكرها يلزمه مع هذا هي وما هو أعظم منها علم أن كل ما يذكره النفاة من الشبهة النافية للرب أو صفاته أو أفعاله حجج باطلة متناقضة إذ كان يلزم من صحتها نفي الوجود بالكلية وما استلزم نفي الوجود بالكلية علم أنه باطل |
# وهذا المقصود هنا وهو أن كل ما يحتج به في إثبات قدم العالم بل وفي نفي الصفات يلزم صاحبه أعظم مما فر منه حتى يؤول به الأمر إلى أن ينكر الوجود بالكلية أو يعترف ببطلان قوله وببطلان كل ما يدل على قوله وهذا موجود في عامة الدين مما أمر الله به من اعتقاد أو قول أو قصد وعمل ومن ترك شيئا من ذلك إلى غيره خوفا ترك كان في الذي فر إليه أعظم من ذلك المخوف وإن كان رغبة فيما فر إليه كان ما فاته أعظم مما حصل له بل يعاقبون بأعظم من ذلك وقد قال تعالى ^ ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ^ فأخبر أن المشركين لا يأتون بقياس وأقيستهم من الباطل إلا أتى الله بما هو الحق بكلام وقياس أحسن تفسيرا بحيث يكون بيانه ودلالته للمطلوب أبين وأوضح وأجلى وأقرب إلى الأمور البديهية الجليلة فهذا في جانب الحق # وأما في عقوبة المبطل فإن المبطلين رئيسهم من الجن إبليس وأعظم رؤسائهم في الإنس فرعون وإبليس ترك طاعة الله تعالى وعبادته في السجود لآدم حذرا من نقص مرتبته بفضل آدم عليه فأداه ذلك إلى أن رضي بأن صار بأخس المراتب وباع آخرته بدنيا غيره كأخس القوادين فإنه يهلك نفسه في إغواء بني آدم بتحسين شهوات الغي لهم يتلذذون بالشهوات التي لا يلتذ هو بها ثم إنهم قد يتوبون فيغفر لهم وهو قد خسر وهلك من غير فائدة مع أنه ليس بين كونه تابعا لهؤلاء في إرادتهم الخسيسة وكونه تابعا لربه فيما أراد به من السجود لآدم نسبة في الشرف والرفعة كما في الحديث الذي رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قال الشيطان وعزتك لأغوين بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسامهم فقال وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لأغفرن لهم ما استغفروني # وهكذا فرعون استكبر أن يعبد رب السموات والأرض خوفا من سقوط رياسته ثم رضي لنفسه أن يعبد آلهة له قد صنعها هو وهكذا تجد كل أهل
المقالات الباطلة وأهل الأعمال الفاسدة وإبليس إمام هؤلاء كلهم فإنه اتبع قياسه الفاسد المخالف للنص واتبع هواه في استكباره عن طاعة ربه تعالى # فكل من اتبع الظن وما تهوى الأنفس وترك اتباع الهدى ودين الحق الذي بينه الله تعالى وأمر به في كتبه وعلى ألسن رسله وفطر عليه عباده وضرب له الأمثال المشهودة والمسموعة فهو متبع لإبليس في هذا له نصيب من قوله ^ لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ^ كما قال محمد بن سيرين أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقايس ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نعت القرآن من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله وق قال تعالى لما أهبط آدم ^ فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ^ فأخبر أن من اتبع هداه الذي جاء من عنده فإنه لا يضل ولا يشقى كما قال ^ ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون إلى قوله أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ^ فإنه الهدى ضد الضلالة والفلاح ضد الشقاء وقد قال من قال من السلف ^ المفلحون ^ الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من ما منه هربوا # ولهذا أمرنا أن نقول في كل صلاة ^ اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ^ فإن المغضوب عليهم هم أهل الشقاء والضالون أهل الضلال وهم الذين اتبعوا هداه فلم يضلوا ولم يشقوا بل أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون وقال أيضا ^ إن المجرمين في ضلال وسعر ^ والسعر من أعظم الشقاء وهذا باب واسع # وإنما القصود هنا التنبيه على هذا الأصل وهو أن من أعرض عن هدى الله علما وعملا فإنه لا يحصل له مطلوب ولا ينجو من مرهوب بل يلحقه من المرهوب أعظم مما فر منه ويفوته من المطلوب أعظم مما رغب فيه وأما المتبعون لهداه فإنهم على هدى من ربهم وهم المفلحون الذين أدركوا المطلوب ونجوا من المرهوب # وهذا الذي شهد الله تعالى به في كتابه وكفى به شهيدا قد يري العباد آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق فتتفق عليه الأدلة المسموعة والمشهودة هي أصل العلوم الضرورية والنظرية والقياسية التي ينتحلها أهل النظر وأهل الذوق فتكون الأدلة الحسية والضرورية والقياسية موافقة للأدلة السمعية من الكتاب والسنة وإجماع المؤمنين والمخالفون لهذا مخالفون لهذا وإن ادعوا في الأول من الأقيسة العقلية وفي الثاني من التأويلات السمعية ما إذا تأمله اللبيب وجد مآلهم في تلك الأقيسة العقلية إلى السفسطة التي هي جحود الحقائق الموجودة بالتمويه والتلبيس ومآلهم في تلك التأويلات إلى القرمطة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه وإفساد الشرع واللغة والعقل بالتمويه والتلبيس وهذا أيضا سفسطة في الشرعيات وسمي قرمطة لأن القرامطة هم أشهر الناس بادعاء علم الباطن المخالف للظاهر ودعوى التأويلات الباطنة المخالفة للظاهر المعلوم المعقول من الكتاب والسنة والله يهدينا وسائر أخواننا المؤمنين لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم # ولما كان مآل هؤلاء إلى السفسطة التي هي جحود الحقائق وجحود الخالق وكان لا بد لهم من النفاق كان لتنبيه من نبه من الأئمة كمالك وأحمد وأبي يوسف وغيرهم على أن كلام هؤلاء جهل وأن مآله إلى الزندقة كقول أحمد علماء الكلام زنادقة وقول أبي يوسف ويروى عن مالك من طلب العلم بالكلام تزندق ومن طلب المال بالكيمياء أفلس ومن طلب غريب الحديث كذب وقول الشافعي ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح # ولما كان الرد إلى ما جاءت به الرسل يؤول بأصحابه إلى الهدى والصلاح قال تعالى ^ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ^ # ثم قال هذا الفيلسوف وهذا كله مع أن هذه الآراء في العالم ليست على ظاهر الشرع فإن ظاهر الشرع إذا تصفح ظهر من الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين أعني غير منقطع وذلك أن قوله تعالى ^ وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ^ يقتضي بظاهره أن وجودا قبل هذا الوجود وهو العرش والماء وزمانا قبل هذا الزمان أعني المقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك وقوله تعالى ^ يوم تبدل الأرض غير الأرض ^ يقتضي أيضا بظاهره أن وجودا ثانيا بعد هذا الوجود وقوله تعالى ^ ثم استوى إلى السماء وهي دخان ^ يقتضي بظاهره أن السموات خلقت من شيء فالمتكلمون ليسوا في قولهم أيضا في العالم على ظاهر الشرع بل يتأولوه بأنه ليس في الشرع أن الله كان موجودا مع العدم المحض ولا يوجد هذا فيه أيضا أبدا فكيف يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع انعقد عليه والظاهر الذي قلناه في الشرع في وجود العالم قد قال فيه فرقة من الحكماء # قلت لم يقل أحد من سلف الأمة ولا أئمتها إن هذه السموات والأرض خلقنا وحدثنا من غير أن يتقدمها مخلوق وهذا وإن كان يظنه طائفة من أهل الكلام أو يستدلون عليه فهذا قول باطل فإن الله قد أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين أن أهل اليمن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أول هذا الأمر فقال كان الله ولم يكن شيء غيره وفي رواية في البخاري ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض وفي رواية ثم كتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء وقد بسطنا هذا فيما سيأتي لما احتج المؤسس بحديث عمران هذا وذكر المخلوقات التي أخبر بابتدائها القرآن وإعادتها وما يتعلق بذلك # وكذلك لم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها أن السموات والأرض لم تخلقا من مادة بل المتواتر عنهم أنهما خلقتا من مادة وفي مدة كما دل عليه القرآن قال الله تعالى ^ أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض أتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين ^ وقال تعالى ^ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم ^ # وهذا الذي يذكره كثير من أهل الكلام الجهمة ونحوهم في الابتداء نظير ما يذكرونه في الانتهاء من أنه تفنى أجسام العالم حتى الجنة والنار أو الحركات أو ينكرون وجود النفس وأن لها نعيما وعذابا ويقولون إن ذلك إنما هو للبدن بلا نفس ويزعمون أن الروح عرض من أعراض البدن ونحو ذلك من المقالات التي خالفوا فيها الكتاب والسنة إذ كانوا فيها هم والفلاسفة على طرفي نقيض وهذا الذي ابتدعه المتكلمون باطل باتفاق سلف الأمة وأئمتها # لكن يقال لهؤلاء الفلاسفة لا ريب أنكم أنتم وهؤلاء كلاكما مخالفون لما نطقت به الكتب الإلهية كما أنكم مخالفون لصرائح المعقولات ومن وافق ظالما في ظلمه كان جزاؤه أن يقال له ^ ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشركون ^ وأنت قد اعترفت أن الأخبار الإلهية ناطقة بأن صورة العالم أي صورة السموات والأرض محدثة وأما قولك إن ظاهر الشرع أن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين فليس في القرآن ما يدل ظاهره على أن وجودا غير وجود الله أو زمانا موجودا خارجا عنه هو مقارن لوجوده وما ذكرته إنما يدل على أن العرش كان قبل السموات وهذا حق لكن ليس فيه أن وجود العرش أزلي وقد جاء ذكر خلقه في الأحاديث كحديث أبي رزين الآتي ذكره مع ما في القرآن من أنه رب العرش وأمثال ذلك وكذلك ما فيه من ذكر زمان قبل هذا الزمن المتعلق بحركة الفلك لا يدل على أن ذلك قديم أزلي مقارن لوجود الله تعالى وكذلك ما فيه من ذكر مادة لخلق السموات والأرض لا يقتضي أن تلك المادة قديمة أزلية هذا مع ما في القرآن من أنه ^ خالق كل شيء ^ في غير موضع و ^ رب كل شيء ^ ولفظ الخلق ينافي ما يذكرونه من لزوم العالم له كلزوم الصفة للموصوف # وحديث أبي رزين رواه أحمد والترمذي وغيره قال الترمذي في كتاب التفسير في تفسير سورة هود لأجل قوله تعالى ^ هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ^ ثنا أحمد بن منيع قال ثنا يزيد بن هرون أنا حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين قال قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه قال كان في عماء ما تحته هو وما فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء قال أحمد بن منيع قال يزيد بن هارون العماء أي ليس معه شيء فهذا الحديث فيه بيان أنه خلق العرش المخلوق قبل السموات والأرض وأما قوله في عماء فعلى ما ذكره يزيد بن هارون ورواه عنه أحمد بن منيع وقرره الترمذي في أن معناه ليس معه شيء فيكون فيه دلالة على أن الله تعالى كان وليس معه شيء وسيأتي الكلام على ذلك إنشاء الله تعالى # ثم لو دل على وجود موجود على قول من يفسر العماء بالسحاب الرقيق لم يكن في ذلك دليل على قول الدهرية بقدم ما ادعوا قدمه ولا بأن مادة السموات والأرض ليستا مبتدعتين وذلك أن الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه بابتداء الخلق الذي يعيده كما قال ^ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ^ وأخبر بخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام في غير موضع وجاءت بذلك الأحاديث الكثيرة وأخبر أيضا أنه يغير هذه المخلوقات في مثل قوله ^ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات ^ وقوله تعالى ^ وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ^ ^ يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ^ ومن المعلوم أنه لم يتعقب الإعادة عدمه كما لم يتقدم ابتداء خلق السموات والأرض العدم المطلق وفي قوله تعالى ^ إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت ^ وقوله ^ إذا السماء انفطرت ^ وقوله ^ إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع ^ وقوله ^ يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا ^ وقال ^ فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان ^ وقال تعالى ^ يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن وقال تعالى ^ ويم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا ^ وقال تعالى ^ فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ^ فأخبر في هذه الآيات أن الخلق الذي ابتدأه وخلقه في ستة أيام يعيده ويقيم القيامة وقد أخبر أنه خلقه من مادة وفي مدة وأنه إذا أعاده لم يعدمه بل يحيله إلى مادة أخرى وفي مدة # وأما العرش فلم يكن داخلا فيما خلقه في الأيام الستة ولا فيما يشقه ويفطره بل الأحاديث المشهورة دلت على ما دل عليه القرآن من بقاء العرش وقد ثبت في الصحيح أن جنة عدن سقفها عرش الرحمن قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلا الجنة وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن وقال تعالى لما أخبر بالقيامة ^ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه ^ وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض وفي الصحيحين أيضا عن ابن عمر واللفظ لمسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون وفي الصحيحين أيضا عن عبدالله بن مسعود قال جاء جبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد أو يا أبا القاسم إن الله يمسك السموات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والجبال والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ثم يهزهن ويقول أنا الملك أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال وتصديقا له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ^ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ^ وفي الصحيحين أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفأها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة قال فأتى رجل من اليهود فقال بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة قال بلى قال تكون الأرض خبزة واحدة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه فقال ألا أخبرك بإدامهم قال بلى قال إدامهم باللام ونون قالوا ما هذا قال ثور ونون يأكل من زائدة كبدها سبعون ألفا وفي الصحيحين عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس بها علم لأحد وفي الصحيحين عن عائشة قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى ^ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات ^ فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله فقال على الصراط # ثم إنه سبحانه وتعالى لما أخبر بقبضة الأرض وطيه للسموات بيمينه ذكر نفخ الصور وصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله ثم ذكر النفخة الثانية التي يقومون بها وذكر أنه تشرق الأرض بنور ربها وأنه يوضع الكتاب ويجاء بالنبيين والشهداء وأنه توفى كل نفس ما عملت وذكر سوق الكفار إلى النار وذكر سوق المؤمنين إلى الجنة إلى قوله تعالى ^ وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوؤ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ^ # ولم يكن العرش داخلا فيما يقبض ويطوى ويبدل ويغير كما قال في الآية ^ وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ^ # ثم أخبر ببقاء الجنة والنار بقاءا مطلقا ولم يخبرنا بتفصيل ما سيكون بعد ذلك بل إنما وقع التفصيل إلى قيام القيامة واستقرار الفريقين في الجنة والنار وذكر ما فيهما من الثواب والعقاب وقد أجمل من ذلك مالا نعلمه على التفصيل كقوله تعالى ^ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءا بما كانوا يعملون ^ وقوله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فكان الذي أخبرنا به مفصلا مالنا حاجة ومنفعة بمعرفته مفصلا وما سوى ذلك فوقع الخبر به مجملا إذ يمتنع أن نعلم كلما كان وسيكون مفصلا وهذا كما أنه أمرنا أن نؤمن بالملائكة والأنبياء والكتب عموما وقد فصل لنا من أخبار الأنبياء وأمر كتبهم وقصصهم وأمر الملائكة ما فصله والثاني أجمله كما قال ^ منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ^ وقال تعالى ^ ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا ^ وأمثال هذا # فلما وقع التفصيل في خلق السموات والأرض وما بينهما وفي القيامة التي تستحيل فيها السموات والأرض وما بينهما لم يكن العرش داخلا في ذلك بل أخبر ببقائه بعد تغيير السموات والأرض كما أخبر بكونه قبل خلق السموات والأرض خبرا مطلقا وأخبر في غير موضع أنه ربه وصاحبه تمييزا له من السموات والأرض كقوله ^ قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله قل أفلا تتقون ^ وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم وقال عن أهل سبأ ^ ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبأ في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ^ وذكر نفسه بأنه ذو العرش في غير موضع كقوله تعالى ^ وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد ^ وقوله تعالى ^ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ^ وقوله ^ رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ^ فهذا كله يبين أن العرش له شأن آخر # كما أن الروح خصه من بين الملائكة في مثل قوله ^ تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ^ وفي قوله ^ يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ^ وفي قوله تعالى ^ تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام ^ مع العلم أن ذلك جميعه مخلوق لله مملوك له وأنه رب ذلك كله وهم عباده # وليس فيما سكت عن الأخبار بتفصيله ما ينافي ما علم مجملا وما أخبر به مفصلا كما ذكر البخاري عن سليمان التيمي أنه قال لو قيل لي أين الله لقلت في السماء فلو قيل لي أين كان قبل أن يخلق السماء لقلت على عرشه على الماء فلو قيل لي أين كان قبل ذلك لقلت لا أدري قال البخاري وذلك لقوله تعالى ^ ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ^ يعني بما بين |
# فأما قول الدهرية بأن السموات لم تزل على ما هي عليه ولا تزال فهذا تكذيب صريح وكفر بين بما في القرآن وما اتفق عليه أهل الإيمان وعلموه بالاضطرار أن الرسل أخبروا به وكذلك قول الجهمية أو من يقول منهم إن السموات والأرض خلقتا من غير مادة ولا في مدة وأنهما يفنيان أو يعدمان أو أن الجنة تفنى أيضا كل ذلك مخالف لنصوص القرآن ولهذا كفر السلف هؤلاء وإن كان كفر الأولين أظهر وأبين لكن لم تكن الدهرية تتظاهر بقوله في زمن السلف كما تظاهرت الجهمية بذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك عند احتجاج المؤسس على نفي العلو بقوله ^ هو الأول والآخر ^ كما احتج بها الجهمية قبله # والطريق إلى معرفة ما جاء به الرسول أن تعرف ألفاظه الصحيحة وما فسرها به الذين تلقوا عنه اللفظ والمعنى ولغتهم التي كانوا يتخاطبون بها وما حدث من العبارات وتغير من الاصطلاحات # ولفظ العالم ليس في لقرآن ولا يوجد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين وإنما الموجود لفظ العالمين وفيه عموم كقوله ^ رب العالمين ^ وقد يقال فيه خصوص كقوله ^ وفضلناهم على العالمين ^ وقوله ^ واصطفاك على نساء العالمين ^ وقوله تعالى ^ ما سبقكم بها من أحد من العالمين ^ عند من يجعل ذلك المراد به الآدميون أو أهل عصرهم # وكذلك لفظ الخلق هو معرف باللام ففيه عموم وقد ينصرف إلى المعهود الذي هو أخص من جملة المخلوقات كقوله في حديث خلق آدم فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن وفي الحديث المتقدم ذلك وكذلك قوله في حديث الخلق وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل والله سبحانه وتعالى أعلم
# والمقصود هنا التنبيه على فساد حجج الدهرية المعطلة للصانع تعالى وتناقضها ومشاركة الجهمية لهم في بعض أصولهم الفاسدة مع حجج الدهرية المثبتة له أيضا # وقد تقدم ما ذكره أبو المعالي من أن شبه الدهرية لحصرها أربعة أقسام # أحدها تعرضهم للقدح في الدليل الذي ذكره أبو المعالي دليل المعتزلة ومن اتبعهم من المتكلمين الذي استدلوا له على حدوث الأجسام دليل الأعراض ونحن قد ذكرنا في غير هذا الموضع كلام أئمة المسلمين في هذه الطريقة تحريما وكراهة وإبطالا # قال والقسم الثاني يتعلق بالتعرض لنفي الصانع ولهم في ذلك طريقان # أحدهما أن إثبات قائم بنفسه يتقدس عن الجهات المحاذيات غير معقول # والثاني يتعلق بالتعديل والتجويز والحكم بأن الحكم لا يفعل الفعل إلا لغرض والغرض ماله الضر والنفع وذلك يستحيل على القديم # قلت هاتان أيضا كلامهم فيهما مع المعتزلة في الأصل فإنهم جهمية أثبتوه بالصفات السلبية وهم أيضا قدرية ثم انتقلت هذه الحجة إلى المرجئة فجاوبوهم في المقدمة الثانية ببعض جواب المعتزلة وأجابوهم في الصفات بجواب يقال إنه متناقض # قال أبو المعالي والقسم الثالث على الاستشهادات بالشاهد على الغائب من غير رعاية وجه في الجمع بينهما # قال والقسم الرابع من كلامهم يشتمل على ضروب من التمويهات # قلت قد نبهنا على القسم الثالث والمقصود هنا القسم الثاني فإنه الذي ذكروا فيه نفي الصانع وهو أعظم كلامهم والحجة العظمى التي عول عليها ابن الراوندي المصنف كتاب التاج في قدم العالم ومحمد بن زكريا المتطبب فيما صنفه في ذلك حيث قال بالقدماء الخمسة والاحتجاج بها على قدم العالم تارة مع الإقرار بالعلة الموجبة وتارة مع عدم ذلك # فأما الأول فقالوا لو كان العالم محدثا لكان محدثه فاعلا مختارا وهو محال لوجهين # أحدهما أن ذلك الاختيار إما أن كون لغرض أو لا يكون فإن كان لغرض فهو باطل لأمرين # أحدهما أنه يجب أن يكون ذلك الغرض أولى به من عدمه وإلا لم يكن غرضا وإذا كان وجوده أولى به كان مستكملا بخلق العالم وهو محال # فإن قيل هو فعله لا لغرض يعود إليه بل لغرض يعود إلى غيره وهو الإحسان إلى الغير وهذا يدفع المحذور # قيل الإحسان إلى الغير إما أن يكون بالنسبة إلى ذاته أولى من تركه وإما أن لا يكون فإن كان مساويا لم يكن غرضا وإن لم يكن مساويا عاد المحذور # الثاني إن من فعل لغرض غيره كان الفاعل دون المفعول كالخادم والمخدوم ومن الممتنع أن يكون غير الله أشرف منه فيمتنع أن يفعل لغرض غيره # وإن قيل إنه فعل العالم لا لغرض كان عابثا والعبث على الحكيم محال ولأنه يكون ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح وهو محال # الوجه الثاني أنه لو فعله بالاختيار فإما أن يجوز منه فعل القبيح أو لا يجوز وإن شئت قلت فإما أن يجوز عليه فعل كل شيء وإما أن يكون متنزها عن بعض الأفعال فإن قيل إنه يجوز أن يصدر منه فعل القبيح لم يؤمن منه تصديق المتنبئين الكذابين بالمعجزات ولم يؤمن أيضا الخبر المخالف لمخبره فإن الكذب وتصديق الكاذب قبيح وتجويز ذلك يبطل النبوات وأخبار المعاد وهذا تبطل بهما الملل # وإن قيل إنه لا يفعل القبيح وهذا قبيح # الثاني أن العالم مملوء طافح بالشرور والآفات وأنواع الألم والعقوبات والقول بالغرض باطل وإذا بطل القسمان بطل القول بالفاعل المختار # وأما الاحتجاج بها على نفي الصانع مطلقا فأن يقال إن كان موجبا بذاته لزم قدم المفعولات وهو خلاف المحسوس لأن الموجب لفعل المحدث الذي هو علة تامة إن كان موجودا في الأزل لزم قدم المحدثات وإن لم يكن موجودا فصدوره بعد أن لم يكن يحتاج إلى سبب حادث والقول فيه كالقول في غيره من الحوادث فيمتنع حدوث محدث عن موجب بذاته وإن كان فاعلا باختياره عادت الحجة المتقدمة # وهذه الحجة لما كان أصلها هو البحث عن حكمة الإرادة ولم فعل ما فعل وهي مسألة القدر ظهر بها ما كان السلف يقولونه إن الكلام في القدر هو أبو جاد الزندقة وعلم بذلك حكمة نهيه صلى الله عليه وسلم لما رآهم يتنازعون في القدر عن مثل ما هلك به الأمم قال لهم بهذا هلكت الأمم قبلكم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض وعن هذا نشأ مذهب المجوس والقدرية مجوس هذه الأمة حيث خاضوا في التعديل والتجويز بما هو من فروع هذه الحجة كما أن التجهم فروع تلك الحجة # ثم إن الدهرية ظنوا أنهم بالقول بقدم العالم ينجون من هذه الشبهات وكان الذي وقعوا فيه شرا مما وقعت فيه المجوس والقدرية ولهذا كان المشركون والصابئون القائلون بقدم العالم ومن معهم من الفلاسفة شرا من المجوس ومن معهم من القدرية المعتزلة وغيرهم # والمقصود بيان هذا يقال لهم لا ريب في هذا الوجود المشهود المستلزم لوجود الموجود القديم الواجب فإن نفس الوجود يستلزم موجودا قديما واجبا بنفسه إذ كل موجود فإما أن يكون واجبا قديما أو يكون محدثا أو ممكنا والمحدث لا بد له من محدث والممكن لا بد له من واجب وهذا مما لا ينازع فيه أحد من بني آدم وإنما الدهرية تقول هذا العالم قديم واجب بنفسه أو يقولون هو معلول علة قديمة واجبة بنفسها فيقال لهؤلاء إن قلتم إن هذا العالم واجب الوجود بنفسه قديم لزمكم هذه المحالات وأضعافها فإنه يقال لكم لأي سبب تحرك الفلك الأعلا وغيره من الأفلاك ولم حصلت هذه الاستحالات فإن هذه أمور حادثة بعد أن لم تكن وهي ممكنة قطعا فالمحدث لها سواء كان الفلك أو غيره الذي قد قدر أنه قديم واجب الوجود بنفسه إن أحدثها لغرض لزم أن يكون مستكملا بها والتقدير أنه قديم واجب الوجود بنفسه فقد لزمكم أن يكون القديم الواجب الوجود بنفسه مستكملا بغيره وهذا هو المحال الذي فررتم منه فقد وقعتم فيه مع ما في ذلك من المحالات اللازمة على هذا التقدير مثل امتناع كون الفلك الأعلا هو المحدث لجميع الحركات وغير ذلك حتى لو قدر في كل فلك متحرك أنه قديم واجب الوجود بنفسه كان هذا السؤال قائما فيه وفي حركاته الحادثة بعد أن لم تكن وكذلك إن قالوا تحرك لأجل العناية بالسافلات أن يكون الأعلا خادما للأدنى وأن تكون هذه الغاية أعلا من الفاعل الذي هو أشرف منها وهو متناقض # وإن فرض أن قائلا يقول أو يخطر له إن الفلك ليس بقديم واجب بنفسه ولا معلول علة قديمة بل يقول حدث بنفسه بعد أن لم يكن وهذا لا نعلم به قائلا وقد ذكر أرباب المقالات أنهم لم يعلموا به قائلا لكن هو مما يخطر بالقلب ويوسوس به الشيطان # فيقال هذا الوجود المشهود إما أن يكون موجودا بنفسه وإما أن لا يكون وإذا كان موجودا بنفسه فإما أن يكون قديما وهو القسم الذي تقدم بيان تناقض أصحابه وإما أن يكون محدثا بنفسه فيقال هذا القول أظهر فسادا وتناقضا فإنه من المعلوم ابالفطرة البديهية أن المحدث بد أن لم يكن لا يتصور أن يحدث عن غير محدث ولا ن يحدث نفسه فلا يكون الشيء صانعا لنفسه ولا مصنوعا لنفسه ولا يكون أيضا على غائية لنفسه كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع قال تعالى ^ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ^ قالوا من غير خالق خلقهم قال جبير بن مطعم لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية في صلاة المغرب أحسست بفؤادي قد انصدع وقد تكلمنا على هذه الآية في غير هذا الموضع بين سبحانه باستفهام الإنكار الذي يتضمن أن الأمر المنكر من العلوم المستقرة الملازمة للمخاطب التي ينكر على من جحدها لأنه سفسط بجحد العلوم البديهية الفطرية الضرورية فإنه من المعلوم أن ما حدث لا يكون من غير محدث أحدثه ولا يكون هو حدث بنفسه فقال ^ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ^ وهذا يستلزم الجمع بين النقيضين وغيره من المحالات # وإن كانت إحالته في العقل من أظهر العلوم الضروريات فإن كونه فاعلا لنفسه يقتضي أن يكون وجوده قبلها وكونها مفعولة يقتضي أن يكون وجوده بعد نفسه فيجب أن تكون نفسه موجودة معدومة في آن واحد # والمقصود هنا بيان تناقض حججهم وأن الذي يقولونه فيه من المحذور أعظم مما فروا منه # فيقال إذا قدر أنه حدث بنفسه بلا محدث بل عن العدم المحض فمعلوم أن هذا مع كونه معلوم الفساد بالضرورة من أبعد الأشياء عن الأمور الموجودة المحسوسة وعن القياس العقلي فمن جوز أن يكون هذا الوجود صدر عن عدم محض فصدروه عن علة موجبة لا تستلزم وجود المعلول أقرب إلى العقل وأبعد عن المحذور وهو الذي فروا منه لأن أكثر ما في هذا أنه تكون العلة التامة قد تخلف عنها معلولها أو وجد المعلول عن علة ليست تامة ومن المعلوم أن صدوره لا عن شيء أعظم امتناعا وفسادا من صدوره عن علة ليست تامة ومن المعلوم أن وجود العلة التامة بلا معلول أقل فسادا وامتناعا من وجود المحدث لا من علة أصلا فإن المعلول إما محدث وإما قديم ومعلوم بالعقل أن حاجة المعلول المحدث إلى العلة أظهر من حاجة المعلول القديم ووجود المعلول بلا علة أبعد في العقل من وجود العلة بلا معلول فإذا جوزتم صدور المحدث بلا علة ولا محدث كان تجويز وجود العلة التامة مع تأخر معلولها أقرب في العقل وأبعد عن المحال # وكذلك أيضا إذا جوزتم صدوره عن العدم فصدوره عن فاعل مستكمل بفعله أو فاعل يفعل لا لغرض أقرب في العقل وأبعد عن المحال مما جوزتموه فإن هذا غايته أن يكون أحدثه فاعل ناقص أو عابث وبكل حال فهذا أقل امتناعا من أن يكون حدث لا عن شيء # وبالجملة فافتقار المحدث إلى المحدث من أبده العلوم وأوضح المعارف وهذا لم ينازع فيه أحد من العقلاء وأي قول قيل كان أقرب إلى العقل وأبعد عن المحال من هذا فإذا قرر هذا القول ظهر أن المحال الذي فيه أعظم من المحال الذي يلزم غيره ولهذا لم نكثر تقرير هذا القول وإنما تكلمنا على ما قال به قائلون وهم الدهرية القائلون بقدم العالم إما واجبا بنفسه وإما واجبا بعلته فهؤلاء إذا ظهر تناقض قولهم كان تناقض ذلك القول أظهر وقد ذكرنا بعض تناقضهم # ويقال لهم أيضا هذه الكمالات الحاصلة للفلك بإحداث ما يحدثه من الحركات إن كانت مقدورة له في الأزل فلم أخرها وإن كانت غير مقدورة له فقد أثبتموه عاجزا عن غير ما فعل من الأحداث فإذا أقررتم بخلق الفلك لم يلزمكم في إثباته أكثر من هذا وهو أن يكون مستكملا بما يحدثه من الأفعال وأن لا يكون وجود تلك الأفعال في الأزل ممكنا وغاية ما يلتزمونه من قيام أفعال حادثة بذاته أو من كونه جسما أو غير ذلك فإن هذا كله لازم لكم إذا قلتم بأن الفلك قديم واجب الوجود فإذا كان كل محذور يلزمكم على تقدير إثبات الصانع يلزمكم أيضا على تقدير نفي الصانع كان القول بنفيه باطلا قطعا وكانت هذه الحجة فاسدة وهذا هو المقصود هنا # وأما بيان أن هذه الحوادث الموجودة في العالم يمتنع أن يكون الفلك مستقلا بهذا فذاك له مقام آخر إذ الغرض هنا بيان تناقضهم مع أن ذلك ظاهر بين والعقلاء المعروفون متفقون على أن الحوادث التي تحدث لا يستقل بها الفلك ويمتنع أن يكون في المخلوقات ما يستقل بأحداث محدث منفصل عنه فهذا له مقام آخر وهو دليل مستقل عظيم القدر على ثبوت الصانع تعالى # وهكذا الإلزام على التقدير الثاني وهو أن يقال هذه الحركات لغير غرض فيقال فيلزمكم بموجب كلامكم أن يكون الموجود القديم الواجب الوجود يفعل أفعالا دائمة مستمرة لغير غرض وقد قلتم إنه عبث والعبث على الحكيم محال فمهما كان جوابكم عن ذلك في هذا أمكن أن تجيبوا أنفسكم به إذا كان القديم الواجب الوجود هو صانع الفلك مع كون المحذور حينئذ أقل عندكم فلم عدلتم عن القول الأخف إلى القول الأقبح ولله المثل الأعلى فنزهتموه إذا كان موجودا قديما صانعا عن أن يستكمل بفعله أو يكون عابثا فيه فجعلتموه معدوما وأي موجود فرض كان خيرا من المعدوم فعدلتم عن أن تصفوه بنوع نقص فوصفتموه بما يجمع كل نقص ثم وصفتم غيره بصفات الكمال التي هي وجوب الوجود والقدم مع وصفكم له بتلك النقائص فاجتماع هذه النقائص مع هذه الكمالات لازم لكم ولم تستفيدوا إلا كمال التعطيل والجحود بلا حجة أصلا # وقد ظهر فساد حجتهم وتناقضهم فيها من وجوه # أحدها أن الذي نفوه به يلزمهم مثله فيما أثبتوه من موجود قديم واجب وهو الفلك المشهود # الثاني أنهم قصدوا تنزيهه عن تجدد كمال له بفعله أو عن عبث فجعلوه أعظم نقصا من المستكمل العابث ومن المعلوم أنه إذا قدر فاعل يستكمل بفعله كان خيرا من المعدوم فإن الفلك أو غير الفلك إذا قدر ذلك فيه لم يشك عاقل أنه خير من المعدوم فكان نفيهم له الذي فروا إليه شرا من نفي بعض الأمور التي ظنوها كمالا فتدبر هذا أيضا وكذلك إذا قدر موجود كامل يفعل فعلا لغير غرض له وقيل إنه عابث فهو أكمل من العدم الذي ليس بشيء أصلا فإن الفاعل لغير غرض بمنزلة الساكن الذي لا يفعل وهذا يقال فيه إنه جامد ويقال في ذلك إنه عابث والجامد والعابث خير من العدم المحض لا سيما إذا كان متصفا بسائر صفات الكمال # الثالث ما تركب من هذين الوجهين وهو أنهم مع التزام المحالات التي زعموا أنهم فروا منها ومع التزام ما هو شر مما فروا منه لم يستفيدوا بذلك إلا جحود الصانع تعالى وتقدس رب العالمين الذي هو أصل كل باطل وكفر وكذب وتناقض وشر في الوجود كما أن الإيمان به أصل كل حق وهدى وصدق واستقامة وخير في الوجود # وهكذا يقال لهم في فعل القبائح وعدم فعلها من وجوه # أحدها أن هذا لازم لكم فيما تصفونه بأنه واجب لذاته قديم وهذا لا بد منه على كل تقدير ولا مندوحة عنه # الثاني أن يقال تجويز تصديق الكاذب أو الكذب أكثر ما يقال فيه إنه يستلزم بطلان الرسالة والخبر عن الثواب والعقاب وهذا المحذور أخف بكثير من محذور نفي الصانع فهل يسوغ في العقل أن نجحد الصانع وخلقه للعالم لأن ثبوت ذلك يستلزم بطلان النبوة والوعد والوعيد فإنه يقال لذلك وأنت إذا نفيته بطلت النبوة والوعد والوعيد أيضا وبطل أضعاف هذا من أمور الديانات فبتقدير أن يكون هذا لازما على التقديرين لا يجوز أن يحتج به على نفي أحدهما مع كثرة المحاذير على هذا التقدير بل غاية ما يقال إذا قدر أنه لازم فليس بمحذور ومعلوم أن الإقرار بالصانع تعالى مع الكفر بالرسل والمعاد أقل كفرا من جحود الصانع كما أن الإقرار مستكمل أو عابث أقل كفرا من جحوده فالتزام زيادة الحجة والتعطيل بلا حجة من أبطل الباطل # وهكذا ما احتجوا به على جحود فعل القبيح كتكليف المحال ووجود الشرور فإنه يقال فيه هذان الوجهان # أحدهما لزوم ذلك أيضا مع ما يصفونه بالقدم ووجوب الوجود # الثاني أن ذلك إنما يستلزم نقصا وذلك أهون من العدم فإذا كانت الحجة إنما تستلزم في الوجود لم جز أن يلتزم عدمه بلا حجة بل إذا كان إثبات الوجود الناقص لا بد منه على كل تقدير # ومثل من احتج على بطلان الخالق بأن ذلك يستلزم بطلان النبوة والمعاد مثل من بلغه أن الله تعالى بعث رسولا وأن قوما كذبوه فتأذى بذلك فجاء إليه فقتله وقال إنما قتلته لئلا يتأذى بالتكذيب وهؤلاء أعدموا الخالق لئلا تكذب رسله على زعمهم # وكذلك مثل من أراد أن ينصر ملكا له مملكة عظيمة ولكن بعض رعيته عصوه فعمد إلى ذلك الملك فقتله أو عزله عن الملك بالكلية وقال إنما فعلت ذلك إجلالا لقدره لئلا يعصيه بعض رعيته # ويحكى عن بعض الحمقاء أنه رأى ذبابا وقع على وجه مخدومه فأخذ المداس فضرب به وجه مخدومه ليطير عنه الذباب # ومثل من كان له ميراث من أبيه غصب بعض الناس شيئا منه فقصد بعض الحكام أو بعض الشهود دفع الشر عن ذلك الوارث ودفع تضرره بالغصب فأثبت أنه ليس ابنه وأنه لا يستحق شيئا من الميراث وقال إنه بهذا الطريق امتنع أن يكون مغصوبا وزال تضرره بالغصب # أو رجل كان له عقار عظيم من مساكن وبساتين وغيرها وله منافع عظيمة وحقوق كثيرة قد غصبه بعض الناس بعضها وهو متألم لذلك فقام قوم من الحكام والشهود والأعوان ليزيلوا عنه فسعوا في أخذ ذلك العقار منه بالكلية وإخراجه من ملكه ويده بلا فائدة حصلت له أصلا وقالوا هذا العقار إذا كان له فلا بد له من أن يؤخذ منه هذا الجزء اليسير فيتألم فأعدموه إياه كله بلا فائدة حصلت له # ومثل من قال أنا لا أصلي لأني إذا صليت أقصر في ذكر الله وعبادته وطاعته التي ينبغي أن أفعلها في الصلاة فأنا أترك الصلاة بالكلية خوفا من ترك بعض واجباتها # وكذلك من قال لا أزكي أصلا لأني إذا زكيت فقد يأخذ زكاة بعض مالي من لا يستحقها فيحرم المستحقين لها فأنا أحرم المستحقين جميع الزكاة لئلا يحرموا بعضها بالمزاحمة # ومثل من ارتكب الفواحش المحرمة وترك النكاح الحلال قال لأني إذا نكحت المرأة فقد أطؤها وهي حائض أو في الدبر فأستحل الفواحش من التلوط وغيره حذرا من هذا الذنب # أو من أخذ يسرق أموال الناس خوفا من تجارة أو صناعة يكون ظلمه فيها أقل من ظلم السرقة # أو من أقام ببلاد الحرب معاونا لهم على قتال المسلمين خوفا من أن يهاجر إلى بلاد المسلمين فيقصر بجهاد أهل الحرب والأمثال في هذا كثيرة جدا # ومن العجب أن المتكلمين المناظرين لهؤلاء وأمثالهم من أهل الكفر إذا أوردوا سؤالا من جنس هذا السؤال أن يدخلوا معهم في جوابه وحله وقد لا يكون المجيب متمكنا من ذلك علما وبيانا ولا ينقطع بذلك الخصم ولا يهتدي لنقص قوي إدراكه أو سوء قصده أو لا حتياج تحقيق ذلك إلى مقدمات متعددة وزمان طويل وتقرير لتلك المقدمات بجواب ما ترد بها من ممانعة ومعارضة فيتركوا أن يبدؤوهم من أول الأمر ببيان فساد هذه الحجة وبيان تناقضهم وأن قائلها يلزمه إذا قال بها أعظم مما أنكره فإذا تبين له فسادها وللمتكلمين معه حصل دفع هذا الشر وبطلان هذا القول وهذه الحجة وهو المقصود في هذا المقام ثم بيان الحق وتكميله مقام آخر # ومثل ذلك مثال من قدم العدو بلاده فأخذ يبني ويغرس ويعمر ما ينتفع به لنفسه ويدفع به عدوه قبل دفع العدو عن بلاده فجعل كلما عمر شيئا خربه العدو وهو غير متمكن من العمارة الثانية فإذا كان قادرا من أول الأمر على دفع العدو كان ذلك أولى وإن حصل له في ذلك نوع مشقة فهي أخف من كل مشقة يلتزمها مع بقاء العدو ببلاده والحجج الباطلة هي عدو الحق فهي عدو في قلب الناظر بنفسه لطلب الحق وقلبه كبلاده وهي أيضا عدو له مع المناظر الذي يناظره وسواء كان معاونا أو مغالبا ولهذا ناظر إبراهيم الخليل بمثل هذه المناظرة المتضمنة قياس الأولى وإلزام الخصم على قوله أعظم مما ألزمه هو على قول خصمه كما قال ^ وكيف أخاف ما أرشكتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ^ قال تعالى ^ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء ^ قال زيد بن أسلم وغيره بالعلم فالعلم بحسن المحاجة مما يرفع الله تعالى به الدرجات وكذلك قال تعالى فيما أمر أن يخاطب به أهل الكتاب ^ قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ^ فصل # يجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة أن يفحص عن منافع جميع الموجودات وأما دلالة الاختراع فيدخل فيها وجود الحيوان كله ووجود النبات ووجود السموات وهذه الطريقة تنبني على أصلين موجودين بالقوة في جميع فطر الناس |
# أحدهما أن هذه الموجودات مخترعة وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات كما قال تعالى ^ إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ^ الآية فإنا نرى أجساما جمادية ثم تحدث فيها الحياة فنعلم قطعا أن ها هنا موجدا للحياة ومنعما بها وهو الله تبارك وتعالى وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر أنها مأمورة بالعناية بما ها هنا ومسخرة لنا والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة # وأما الأصل الثاني فهو أن كل مخترع فله مخترع فيتضح من هذين الأصلين أن للموجود فاعلا مخترعا ل وفي هذا الجنس دلائل كثيرة على عدد المخترعات # وكذلك كان واجبا على من أراد معرفة الله تعالى حق معرفته أن يعرف جواهر الأشياء ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع ولهذا أشار تعالى وتقدس بقوله ^ أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء ^ وكذلك أيضا من يتتبع معنى الحكمة في موجود موجود عن معرفة السبب الذي من أجله خلق الغاية المقصودة به كان وقوفه على دليل العناية أتم فهذان الدليلان هما دليلا الشرع # وأما أن الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع سبحانه في الكتاب العزيز هي مختصرة في هذين الجنسين من الدلالة فهذا بين لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز إذا تصفحت وجدت على ثلاث أنواع # إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية # وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع
# وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعا # فأما الآيات التي تتضمن دلالة العناية فقط فمثل قوله تعالى ^ ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا إلى قوله وجنات ألفافا ^ ومثل قوله تعالى ^ تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا إلى قوله تعالى أو أراد شكورا ^ ومثل قوله تعالى ^ فلينظر الإنسان إلى طعامه ^ ومثل هذا في القرآن كثير ^ # وأما الآيات التي تضمنت دلالة الاختراع فقط فمثل قوله تعالى ^ فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق ^ ومثل قوله تعالى ^ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ^ الآية ومثل قوله تعالى ^ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ^ ومن هذا قوله حكاية عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم ^ إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ^ إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى # فأما الآيات التي تجمع الدلالتين فهي كثيرة أيضا بل هي الأكثر مثل قوله تعالى ^ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون إلى قوله تعالى فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ^ فإن قوله ^ الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ^ تنبيه على دلالة الاختراع وقوله ^ الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ^ تنبيه على دلالة العناية ومثل قوله تعالى ^ وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون ^ وقوله ^ ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ^ وأكثر الآيات الواردة في هذا المعنى يوجد فيها النوعان من الدلالة # فهذه الدلالة هي الصراط المستقيم الذي دعا الله تعالى الناس منه إلى معرفة وجوده ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى وإلى هذه الفطرة الأولى المغروزة في طباع البشر الإشارة بقوله تعالى ^ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم إلى قوله تعالى بلى شهدنا ^ ولهذا قد يجب على من كان وكده طاعة الله في الإيمان به وامتثال ما جاء به رسله أن يسلك هذه الطريقة حتى يكون من العلماء الذين يشهدون لله بالربوبية مع شهادته لنفسه وشهادة ملائكته له كما قال تبارك وتعالى ^ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ^ ودلالة الموجودات من هاتين الجهتين هو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى ^ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ^ # فقد بان من هذا أن الأدلة على وجود الصانع تعالى منحصرة في هذين الجنسين دلالة العناية ودلالة الاختراع وأن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما طريقة الخواص وأعني بالخواص العلماء وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل أعني أن الجمهور يقتصرون في معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس وأما العلماء فيزيدون إلى ما يذكرون من هذه الأشياء بالحس ما يدركون بالبرهان أعني من العناية والاختراع حتى لقد قال بعض العلماء إن الذي أدرك العلماء من معرفة منافع أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب ألف منفعة وإذا كان هذا هكذا فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والطبيعية وهي التي جاءت بها الرسل ونزلت بها الكتب والعلماء ليسوا يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط بل ومن قبل التعمق في معرفة الشيء الواحد نفسه فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات مثالهم في النظر إلى المصنوعات التي ليس عندهم علم بصنعتها فإنهم إنما يعرفون من أمرها أنها مصنوعات فقط وأن لها صانعا موجودا ومثال العلماء في ذلك مثال من نظر إلى المصنوعات التي عنده علم ببعض صنعتها وبوجه الحكمة فيها ولا شك أن من حاله من العلماء بالمصنوعات هذه الحال فهو أعلم بالصانع من جهة ما هو صانع من الذي لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط وأما مثال الدهرية في هذا الذين جحدوا الصانع سبحانه وتعالى فمثال من أحس مصنوعات فلم يعترف أنها مصنوعات بل نسب ما رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته # قلت ذكره لهذين النوعين كلام صحيح حسن في الجملة وإن كان في ضمنه مواضع قصر فيها مثلما ذكره في دلالة حركة الفلك وتفسير الآية وتسبيح المخلوقات واستدلال إبراهيم ودليل الأحداث والاختراع يدل على ربوبية الله تعالى ودليل الحكمة والعناية والرحمة يدل على رحمته وقد فتح الله كتابه العزيز بقوله ^ الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ^ وهذا أجود من طريق المتكلمين طريقة الأعراض وإن كان لم يستقص الكلام في دلالة ثبوت الصانع تعالى ولم يفصل إحداث الجواهر وغير ذلك # مع أن طرق معرفة الصانع بالفطرة والضرورة وبالنظر والاستدلال بنفس الذوات وبصفاته باب واسع ليس هذا موضعه وكثير من يرغب عن طريقة الأعراض يذكر ما في خلق الإنسان أو ما في خلق ما يشهد حدوثه من هذين النوعين من الحدوث الدال على المحدث والحكمة الدالة على قصد الصانع ورحمته ونعمته بما يدل عليه # وقد ذكرنا ما ذكره الخطابي من كراهة طريقة الأعراض وأنها بدعة محظورة وقد قال في أوائل كتابه شعار الدين القول فيما يجب من معرفة الله سبحانه وتعالى أول ما يجب على من يلزمه الخطاب أن يعلم أن للعالم بأسره صانعا وأنه هو الواحد لا شريك له وقد جرى كثير من عوام المسلمين في هذا على عادة النشوء وحكم الولادة فكان إيمانهم إيمان تلقين وتربية وذلك أنهم يولدون في دار الإسلام ويتربون في حجور المسلمين وينشأون في بلادهم فيتلقنون كلمة التوحيد من الآباء والأمهات ويسمعون الأذان من المؤذنين ويتلون القرآن من الأئمة في الصلوات ومن المعلمين في المكاتب فيستحكم حب الدين في قلوبهم ويعتقدون حسنه وصحته تقليدا فينتفعون به ويقتصرون عليه ودين الإسلام إذا كان موثوقا بصحته مشهودا له بالفضل على كل دين سواه فقد يجب على كل متدين به أن يكون مصلدا اعتقاده إياه عن نظر واستدلال ليكون العلم به أصح والوثيقة به أشد وقد نصب الله تعالى الأدلة وأزاح بها العلة ووسع من وجوهها وكثر من عددها فهي على اختلاف مراتبها في الوضوح والغموض معروضة للاستدلال بها والاستشهاد بمواضعها فلا أحد يعقل من آحاد الناس إلا وله في جليها مستدل وفي واضحها مستشهد وإن كان نزل فهمه عن دقيقها ولطيفها فالواجب على كل من الناس أن يبذل وسعه فيه ويبلغ جهده في دركه فإن الله تعالى يقول ^ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ^ # فمن أوضح الدلالة على معرفة الله سبحانه وتعالى على أن للخلق صانعا ومدبرا أن الإنسان إذا فكر في نفسه رآها مدبرة وعلى أحوال شتى مصرفة كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ولحما فيعلم أنه لا ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال لأنه لا يقدر أن يحدث في الحال الأفضل التي هي حال كمال عقله وبلوغ أشده عضوا من الأعضاء ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة فيدله ذلك على أنه في وقت نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز وقد يرى نفسه شابا ثم كهلا ثم شيخا وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم ولا اختاره لنفسه ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل هذه الأفعال بنفسه وأن له صانعا صنعه وناقلا نقله من حال إلى حال ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر # فإن قيل إن النطفة قديمة وفيها قوة قابلة للاغتذاء فإذا وقعت في الرحم والطبائع معتدلة قبلت بالقوة التي فيها الاغتذاء والتربية حتى تستوي جارحة ويتم بها خلقه # قيل لو كانت النطفة قديمة كما زعمتم لم يجز عليها الانقلاب والتغيير لأن التغيير والانقلاب من سمات الحدث فبطل أن يكون المنقلب المتصرف قديما # فأما ما ادعوه من قبول النطفة بما فيها من القوة الاغتذاء والتربية فإن ذلك لا ينكر إذا صح العلم به في طريق العادات ولكن الذي ننكره من ذلك أن يكون هذا الفعل للنطفة بذاتها من غير مدبر دبرها لذلك ولو كان هذا جائزا من غير مدبر حكيم عالم قدير يعلم كيف يدبر النطفة ويقلبها أطوارا ويسوي منها السمع لما يصلح له ويضعه في موضعه والبصر في مكانه الذي يليق به في البدن وكذلك تعليق اليدين العاملتين في موضعهما والرجلين الحاملتين في أخص المواضع بهما ووضع كل شيء من القلب والكبد والطحال وسائر الأجسام في الموضع الذي هو أملك به وأشكل لما أعد له من الفعل لجاز أن يرتفع الماء من إليه ويختلط بالطين ويقع الطين في قالب اللبن وينطبع به ثم يزحف إلى موضع البناء فيرتفع بعضه على بعض فينتضد حتى يكون بناء رفيعا محكما مشيدا من غير بان ولا رافع ساق على ساق بل ينطبع الماء والتراب بنفسهما لا بشيء سواهما فإن لم يكن هذا جائزا لأنه ليس من طبع الماء أن يكون منهما ما وصفت فكذلك غير جائز تركيب الإنسان وتصويره وتخطيطه على ما عليه الإنسان من جنس الصورة وعجيب التركيب بنفس النطفة وطبعها ويجاز على هذا بطبع الخشب وجودة سفينة اجتمعت أجزاؤها واعتدلت وتماسكت وداخل بعضها بعضا وقربت من الساحل معها دقلها وآلاتها يعبر من يريد العبور من سوال سق ثم تعود بنفسها إلى مركزها ومرساها كذلك ويجاز بطبع الماء والنار والتربة أن يوجد حمام في أسفله نار وفي بيوته ماء على غاية الاعتدال في الحرارة والرطوبة من غير بان بناه ومسخن سخنه ومدبر دبره فإن لم يجز شيء مما ذكرناه فليكن مثل ذلك ما ادعوه من النطفة واجتماع خلق الإنسان منها من غير مدبر حكيم دبره وأحكمه # فهذا الدليل يتضمن أن المحدث لا بد له من محدث وأن ما فيه من الحكمة لا بد له من قاصد حكيم # ثم ذكر دليلين في العالم أحدهما حدوث ما يحدث لاختلاف الحركات الطبيعية الدالة على أنه بإرادة كما قد نبهنا أن الإرادة هي أصل جميع الحركات الثاني ما في العالم من الحكمة فقال # دليل ثان أنا رأينا أشياء متضادة من شأنها التباين والتنافر والتفاسد مجموعة في بدن الإنسان وأبدان سائر الحيوان وهي الحرارة والبرودة فعلمنا أن جامعا جمعها وقهرها على اجتماع وأقامها بلطفه ولولا ذلك لتنافرت وتفاسدت ولو جاز أن تجتمع المتضادات المتنافرات وتتقاوم من غير جامع يجمعها لجاز أن يجتمع الماء والنار ويتقاوما من ذاتهما من غير جامع يجمعهما ومقيم يقيمهما وهذا محال لا يتوهم فتعين إنما كان اجتماعهما بجامع قهرهما على الاجتماع والالتئام # دليل ثالث أنك إذا تأملت هيئة العالم يبصرك واعتبرتها بفكرك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه ساكنه من آلة وعتاد فالسماء مرفوعة كالسقف والأرض ممدودة كالبساط والنجوم منضودة كالمصابيح والجواهر مخزونة كالذخائر وضروب النبات مهيئة للمطاعم والملابس والمشارب وصنوف الحيوان مسخرة للمراكب مستعملة في المرافق والإنسان كالمملك البيت المخول ما فيه وفي هذا كله دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتدبير وتقدير ونظام وأن له صانعا حكيما تام القدرة بالغ الحكمة وقد نبه كتاب الله عز وجل على هذا النوع من الاستدلال فقال تعالى ^ وفي أنفسكم أفلا تبصرون ^ إشارة إلى أثارة الصنعة الموجودة في الإنسان من يدين يبطش بهما ورجلين يمشي بهما وعين مبصرة وأذن يسمع ولسان يتكلم به وأضراس تحدث له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء ومعدة أعدت لطبخ الغذاء وكبد يسلك إليها صفوه وعروق ومعابر ينفذ منها إلى الأطراف وأمعاء يرسب إليها ثفل الغذاء ويبرز عن أسفل البدن # وقال عز وجل ^ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ^ الآية هذا من قريب ما يستدركه العاقل من وجوه الأدله من غير كثير استقصاء في فعل ومعاناة بدقيق فكر وذلك أنه خطاب للعرب ومن سنة العربي أن يركب راحلته فيسير عليها فيما قرب من الأرض باغيا حاجته وفيما يعد عنها ضاغنا في السفر في الحال يكثر في بلادهم فإذا خلا بالمكان لم ير إلا سماءا فوقه وأرضا تحته وجبلا عن يمينه وجبلا عن شماله ومطية هو راكبها فإذا تأمل هذه الأشياء استبان فيها أثر الصنعة ولطف الحكمة مما جمع الله من المرافق فيها أن صانعها لطيف خبير عالم قدير حكيم عليم وقد قيل إن الإبل خصت بالذكر من بين سائر الحيوان وذلك أن الأنعام ضروبها أربعة حلوبة وركوبة وأكولة وحمولة والإبل تجمع هذه الخلال كلها # وقال سبحانه وتعالى ^ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ^ فذكر خلق السموات بما فيها من الشمس والقمر والنجوم وسيرها في أفلاكها الذي يختلف الليل والنهار به ويتبين زيادتهما ونقصانهما ودخول أحدهما على الآخر وأخذ بعضها من بعض فيكون بها انقسام فصول السنة وتعاقب الحر والبرد الذين بأحدهما لقاح الشجر وبالآخر نضج الثمار وذكر الله الأرض التي هي مسكن الحيوان والدواب وفيها قرار البحار التي تجمع المياه التي تحمل السفن والفلك وذكر الريح التي تنشئ السحاب وتجريها إلى حيث أذن لها أن تمطر فيحيي بها البلاد والزرع والأنعام وبها يجري الفلك والسفن في البحار فتصلح بهذه الأمور معايش الناس وتكثر بها منافعهم وباجتماع هذه الأمور ومعاونة بعضها بعضا يتم صلاح أمر العالم وينتظم وفي ذلك دليل على أن صانع العالم قادر حكيم عالم خبير ووقع ذكر هذه الأمور عقب قوله تعالى ^ وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ^ ليدل بها على صدق الخبر عما قد يدلنا به من وحدانيته سبحانه وذكر رحمته ورأفته بخلقه وطرق الاستدلال كثيرة لكنا أخبرنا منها في الكتاب ما هو أقرب إلى الأفهام وذكر تمام الكلام الذي كتبناه في موضعه # واستدلال الناس من جميع الطوائف بما يشهدونه في العالم من الحكمة والنعمة والبرهنة على حكمة ارب ورحمته وإرادته النعمة والإحسان إلى عباده وعنايته كثيرة جدا # وإنما المقصود هنا أن الفلاسفة يصرحون بذلك وهم من أكثر الناس نظرا في حكم الموجودات وقد اعترفوا بما تقدم من أن هذه الموافقة تعلم ضرورة أنها من قبل فاعل قاصد لذلك مريد إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق فعلم أن نفيهم بعد ذلك كونه فاعلا مختارا تناقض منهم # وأيضا فلو لم يتناقضوا لكانت هذه الدلالة مع دلالة الاختصاص كلاهما يدل على الإرادة الاختصاص يدل على إرادة في نفس المفعول وهذا يدل على الإرادة للمفعول ولحكمته فهذه ثلاث طرق # وقد اعتذر ابن سينا ونحوه من المتفلسفة عن هذا فقال في الإشارات بعد أن ذكر حججه على نفي الفعل بالقصد والاختيار إشارة لا تجد إن طلبت مخلصا إلا أن تقول إن تمثل النظام الكلي في العلم السابق مع ترتيبه الواجب اللائق يفيض منه ذلك النظام على ترتيبه وتفاصيله معقولا فيضانه وهذا هو العناية وهذه جملة تهتدى سبيل تفاصيلها |
# وهذا الكلام أبعد ممن يقول بتخصيص العالم بوقت دون وقت وصفة دون صفة إنما كان لأن العلم القديم تعلق به ذلك الوجه كما قال ذلك طوائف من المتكلمين من الأشعرية وغيرهم كما سيأتي بيانه مثل أن هؤلاء جعلوا العلم مخصصا لما أريد وهؤلاء المتفلسفة جعلوا العلم مخصصا لما لم يرد عندهم والكلام على هذا من وجوه # أحدها أن يقال لا نسلم أن هذا مخلصا ولا أنه واقع ولا ممكن كيف نعلم أنه لا مخلص غيره وهم لم يذكروا حجة على ذلك ولا يمكنهم أن يقيموا عليه حجة أصلا # الوجه الثاني أن يقال العلم أبدا تابع للمعلوم مطابق له ثم قد يكون سببا في وجود المعلوم كالعلم بما يفعله العالم مثلما ذكره من علم الرب تعالى بالنظام الكلي وقد لا يكون سببا كالعلم بالأمور التي لا تكون بفعل الإنسان ولا بقصده ثم من الناس من المتفلسفة ونحوهم من يجعل العلم مطلقا صفة فعليةأو يجعله هو وحده الموجب المعلوم وهو غلط كما سنبينه ومنهم من المتكلمين وغيرهم من يجعله أبدا صفة انفعالية للمعلوم لا يكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة ويقول فيه وفي القول ليس لمتعلقهما منها صفة ثبوتية وهذا وإن كان أقرب إلى الصواب من القول الأول ففيه تقصير بل الصواب أنه يجتمع في جنسه الأمران إذ الأولون يسلمون أنه عالم بنفسه وهذا ليس مؤثرا في المعلوم والآخرون يقولون الإرادة مشروطة بالعلم وهذا اعتراف بتوقف المفعول عليه لكن المقصود الكلام في العلم الذي له تأثير في المعلوم وهو العلم العملي فنقول # من الأمور المعلومة بالفطرة البديهية الضرورية أن الإنسان إذا عمل عملا بإرادته يجد من نفسه أنه يكون شاعرا بما يريد أن يفعله وأنه مع الشعور لا بد أن يكون
مريدا ولا بد مع هذين أن يكون قادرا عليه ويجد من نفسه أن إحساسه وشعوره يقتضي إرادة الفعل ومحبته وأن له شعورا بما يفعله لأجله وشعورا بالحب والإرادة التي في نفسه لذلك المطلوب وشعورا بالفعل الذي يتوصل به إليه فهذه أربع حقائق مراد مطلوب بالفعل وإرادة في النفس له وفعل موصل إليه وإرادة لذلك الفعل كالطعام مثلا والشعور يتعلق بهذه الأربعة فإنه إذا أخبر بالطعام وهو جائع أحس من نفسه بشهوته ومحبته فأراد أكله ومقصوده بذلك وجود لذة الأكل ودفع ألم الجوع وهو يفرق بين نفس الأعيان واللذة بها وبين إرادة ذلك ثم يريد الأكل الموصل إلى المطلوب ويفعل هذا الفعل وهكذا في شهوة النكاح وهكذا في جميع الأفعال من العبادات وغيرها والعلم سابق للإرادة والعمل في ذلك كله فإنه مثلا يعرف الله تعالى وثوابه وعقابه فيصير في قلبه محبة له أو لثوابه الملائم له فالله تعالى هو مقصوده ومعبوده وهو يريد التنعم بما يحصل له من النعيم المتعلق بذاته تعالى كالنظر إليه ومن مخلوقاته مثل موجودات الجنة فكلاهما مقصود له وقصد هذا مستلزم هذا كتلازم قصد الأعيان المطعومة وقصد لذة الأكل ثم يريد الأعمال الموصلة إلى ذلك ويعملها ومن المعلوم أن نفس العلم بالمعلومات لا يغني عن إرادة ذلك والقدرة عليه فمن ادعى أن مجرد العلم كاف في حصول المعلومات كان مكابرا مباهتا فإنه في المشاهد منتف قطعا وأما في الغائب فغايته أن يعلمه بنوع شيء قياس الشمول أو التمثيل فصل # ذكر ابن سينا فقال تنبيه أتعلم ما الملك الملك الحق هو الغني الحق مطلقا ولا يستغني عنه شيء ومن شيء وله ذات كل شيء لأنه منه أو ما منه ذاته فكل شيء غيره فهو مملوك وليس له إلى شيء فقر # قال الرازي الغرض منه ذكر ماهية الملك ويعتبر فيها أمران أحدهما سلبي وهو أن يكون غنيا مطلقا عن كل ما عداه وثانيهما إضافي وهو أن يفتقر إليه كل ما عداه بواسطة أو بغير واسطة # قلت هذه الجملة متفق عليها بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل بل المشركون من العرب وغيرهم يقرون بها كما قال تعالى وتقدس ^ قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون الله قل فأنى تسحرون ^ والأكثرون يقرأون الآخرتين ^ سيقولون لله ^ كما اتفقوا على أن جواب الأول ^ سيقولون لله ^ وهو جواب مطابق لمعنى اللفظ لأن معنى قوله ^ قل من رب السموات السبع ^ ^ ومن بيده ملكوت كل شيء ^ أي لمن ذلك فكان الجواب بقوله ^ سيقولون لله ^ هذا بيان لأن المشركين يقرون بأن ملكوت كل شيء لله وذلك مبالغة في الملك فإن ^ الملكوت ^ أبلغ من لفظ الملك وما ذكروه من ذلك يتضمن غناه عن كل شيء وفقر كل شيء إليه فهو حق لكنه يتضمن أكمل من ذلك من العلم والقدرة والتدبير على وفق المشيئة والإرادة وغير ذلك من المعاني التي تبين أن هؤلاء الفلاسفة لا يجعلونه ملكا حقا وكيف يكون ملكا عندهم من لا يقدر على إحداث شيء ولا دفع شيء ولا له تصرف لا بنفسه ولا في غيره بوجه من الوجوه بل هو بمنزلة المقيد بحبل معلق به من لا يقدر على دفعه عن نفسه وما يثبتونه من غناه وافتقاره ما سواه إليه يتناقضون فيها فإنهم يصفونه بما يمتنع معه أن يكون غنيا وأن يكون إليه شيء ما فقير لكن ليس المقصود هنا كشف أسرار أقاويلهم وإنما المقصود التنبيه على فساد حججهم التي خالفوا بها أهل الملل في هذا ونحوه وأنهم يتكلمون بجهل بسيط أو مركب # فيقال إن كان المقصود إن الله يستحق أن يسمى ملكا حقا لثبوت هذا المعنى فلا ريب أنه قد سمى نفسه ملكا حقا ولا ريب أن هذه المعاني داخلة في ضمن هذا الاسم وأكثر منها في صفات الكمال الثبوتية وتنزيهه عن النقائص لكن في هذا ما يدل على أنه ليس له إرادة وقصد إلا أن يحتج على ذلك بأن لفظ الغني ينفي ذلك أو أن ذلك يقتضي فقرا إلى الغير وقد تقدم الكلام على ذلك وتبين أن ذلك مع أنه لا فقر فيه إلى غيره فالذي يذكرونه يستلزم من المحاذير أعظم مما فروا منه من وجوه بل سلب ذلك هو الذي يقتضي أن يكون فقيرا بل معدوما بل ممتنعا لذاته كما هو مقرر في موضعه فصل # ثم قال ابن سينا في تقرير نفي الإرادة والحكمة المقصودة تنبيه أتعرف ما الجود الجود هو إفادة ما ينبغي لا لغرض فلعل من يهب السكين لمن لا ينبغي له ليس بجواد ولعل من يهب ليستعيض معامل فليس بجواد وليس العوض كله عينا بل وغيره حتى الثناء والمدح والتخلص من المذمة والتوصل إلى أن يكون على الأحسن أو على ما ينبغي فمن جاد للشرف أو ليحمد أو ليحسن به ما يفعل فهو مستعيض غير جواد فالجواد الحق هو الذي يفيض منه الفوائد لا لشوق منه وطلب قصدي لشيء يعود إليه واعلم أن الذي يفعل شيئا لو لم يفعله لقبح به أو لم يحسن منه فهو بما يفيده من فعله متخلص # وقال أبو عبدالله الرازي في تفسير ذلك الغرض منه بيان ماهية الجود وحده أنه إفادة ما ينبغي لا لغرض وهذا فيه قيود ثلاثة # أحدها الإفادة فإن من لا يفيد شيئا لا يكون جوادا # وثانيها أن يكون المفاد مما ينبغي إفادته فإن من يهب السكين لمن لا ينبغي له ليس بجواد # قال واعلم أن لفظة ينبغي لفظة مجملة فإنه يراد بها تارة الحسن العقلي كما يقال العلم مما ينبغي والجهل مما لا ينبغي لكن الحكماء لا يقولون بالحسن والقبح العقليين وقد يراد بهما الإذن الشرعي كما يقال النكاح مما ينبغي والسفاح مما لا ينبغي أي النكاح مأذون فيه شرعا والسفاح ممنوع منه شرعا وهذا التفسير أيضا لا يليق بالحكماء وليس لهذه اللفظة معنى ملخص سوى هذين المعنيين فظهر الإجمال من هذه اللفظة # وثالثها أن لا تكون الإفادة لعوض فإن من يهب ليستعيض معامل سواء كان العوض عينا أو ثناءا أو مدحا أو تخلصا عن الذم أو أن يكون فاعلا للأليق والأحسن ثم أنه لما مهد هذه القاعدة قال فالجواد الحق إلى آخره ومعناه ظاهر # قال ولقائل أن يقول القصد إلى إيصال الفائدة إلى الغير لو لم يكن معتبرا في الجواد لوجب أن يقال الحجارة إذا سقطت من السقف ووقعت على رأس عدو إنسان ومات ذلك العدو أن تكون تلك الحجارة جوادا مطلقا لأنه حصل منها ما ينفي العوض فإن التزم كون الحجر جوادا مطلقا وقال هذا هو الجود وإن كان شنيعا في المشهور فنقول له الذي عولت عليه أيضا ليس حجة برهانية بل كلاما إقناعيا خطابيا فإن غاية كلامك أن كل ما غرضه في الإفادة أن كون فاعلا للأولى كان غرضه من الإفادة تخليص نفسه من الذم فهذا ضعيف لأنه يقال إن عنيت بقولك إنه يخلص نفسه من الذم لأن غرضه من فعله أن لا يصير مستحقا للذم مع علمه أنه لو لم يفعله لا يستحق الذم فلم قلت إن ذلك محال وهل هذا الا الزام للشيء على نفسه وإن عنيت به معنى آخر فبينه لنتكلم عليه فصح أن الحجة التي ذكروها لا تصير على السبك والنظر والحق لكنها حجة إقناعية وإذا كان كذلك كانت الحجة التي ذكرناها تصلح معارضة لها # قلت هذه الحجة من جنس التي قبلها في اسم الغني وأفسد منها ويظهر ذلك بوجوه # أحدها أن يقال هذه الحجة مبنية على مقدمتين # إحداهما أن الحق مسمى بأنه جواد # والثانية أن تفسير الجواد هو ما ذكرته ولم تذكر على واحدة من المقدمتين حجة أصلا لا بينة ولا شبهة فكان ما ذكرته مجرد دعوى لبست بها على الناس كما لبست بقولك انه غني وإن الغني هو من يكون كذا ولم تذكر على واحدة من المقدمتين حجة لكن هناك ادعيت أن ثبوت الإرادة مستلزم للفقر إلى غيره وقد ثبت أنه واجب الوجود فلا يكون مفتقرا إلى غيره وهذه الحجة وإن كان قد تبين فسادها فلم تذكر في اسم الجواد حجة نظيرها بل كان هذا دعوى مجردة إذ لا يمكن أن يقول واجب الوجود يجب أن يكون جوادا كمال قال يجب أن يكون غنيا # الثاني أن يقال لا ريب أن الله عند أهل الملل كريم جواد ماجد محسن عظيم المن قديم المعروف وأن له الأسماء الحسنى التي يثنى عليه فيها بإحسانه إلى خلقه لكن وإن كانت هذه الحجة مبنية على تسليمهم ذلك فليست حجة عقلية بل جدلية وهذا ليس بفلسفة # الثالث أن يقال هم إذا سموه بهذه الأسماء الحسنى سموه بها بالمعنى الذي يفسرونه به بالذي لا ينافي إرادته ورحمته بل عندهم نفس الرحمة التي نفيتها أنت لنفيك الإرادة أو إرادة الإحسان إلى عباده هي عندهم تدل على الإحسان والجود بلا نزاع بينهم لكن طائفة من نفاة الصفات يجعلون الرحمة هي نفس الإحسان وإن وافقهم على ذلك بعض الصفاتية حتى بعض أصحاب أحمد رحمه الله وطائفة كبيرة من الصفاتية يقولون الرحمة تعود إلى إرادة الإحسان وهذا قد يقوله بعض أصحاب أحمد والذي عليه أئمة الصفاتية وجمهورهم أن الرحمة صفة لله ليست هي الإرادة كما قال إن السمع والبصر ليس نفس العلم # والمقصود أنك احتججت بموافقتهم لك على إطلاق الاسم فإن كنت تحتج بالموافقة على معناه لم يكن لك حجة لأنهم متفقون على أن معنى هذا الاسم عندهم لا ينفي ما تنفيه أنت في إرادته وغير ذلك وإن كنت تحتج بمجرد الموافقة على اللفظ مع التنازع في معناه فهذه حجة فاسدة جدا لأنهم أطلقوا الاسم بمعان فادعيت أنت أنه كان ينبغي أن يريدوا بهذا الاسم معان أخر وهذا من جنس أن يقال كان ينبغي أن يعنوا بلفظ الإحسان كذا وبلفظ الحركة وبلفظ الفعل كذاونحوذلك من المعاني التي لم يريدوها بذلك اللفظ وحاصله أنه اعتراض على اللغة بأنه كان يجب أن يعنى بألفاظها من المعاني أمورا أخر ولا ريب أن هذا اعتراض فاسد على اللغة فضلا أن يكون حجة في المعاني العقلية الإلهية # الرابع أن يقال هب أنه سلم لك أن اللفظ كان ينبغي أن يستعمل في المعاني التي ذكرتها لكن هم إذا لم يستعملوها إلا في المعاني التي قصدوها لم يكونوا موافقين لك على ما ادعيته من المعنى وإن قصروا في العبارة فيكون ما أثبته من المعنى أثبته بلا حجة علمية ولا جدلية بل مجرد الدعوى وهذا بين واضح ولله تعالى الحمد # الخامس أنه لو احتج على هذا بدليل سمعي مثل أن يثبت بالنص أنه جواد لم يفسره بهذا المعنى لم يصح ذلك أيضا لهذين الوجهين أحدهما أن الأدلة التي يذكرها ليست سمعية شرعية وهو يعترف بذلك فلا يقبل منه أن يذكر دليلا سمعيا ويدعي أنه عقلي مع أن هذا الاسم ليس في القرآن وإن جاء في بعض الأحاديث الثاني أن المرجع في ثبوت هذه الأسماء عن الشارع وفي بيان معناها إلى من نقل عنه القرآن والحديث لفظه ومعناه وهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين تلقوا الإيمان والقرآن والحديث بعضهم عن بعض حتى يصل إليه أو أخذ ذلك هو بلغته التي كان يخاطب بها ولا ريب أن الفلاسفة من أبعد الناس عن ذلك ولو ادعوا نقلا عن المرسلين اللفظ ولمعناه من غير رجوع في ذلك إلى أهل العلم بأثارة المرسلين لم يكن ذلك مقبولا باتفاق العقلاء ثم كيف يصح أن يحتج محتج بمثل هذه الدلالة الضعيفة على نفي إرادة الله تعالى والقرآن مملوء من إثبات إرادته ومشيئته ورحمته وحكمته ولو قدر أنه يتناول ذلك كان من المعلوم بالاضطرار لكل أحد أن ما ذكره ليس فيه ظهور يحتاج إلى تأويل بل هو أبعد من ذلك فكيف يتأول النصوص والظواهر لأجل ذلك وإنما غاية المتأول أن يدعي معارضة المعقولات للسمعيات ونحن قد بينا أن هذه الحجة ليست من المعقول قبل بل هي مع كونها سمعية لفظية فهي دعوى مجردة بل كاذبة كما سنبينه |
# الوجه السادس أن يقال له هذا الحد الذي ذكرته في الجود حين قلت إن من جاد ليشرف وليحمد وليحسن به ما يفعل فهو مستعيض غير جواد فهذا التفسير عمن نقلته ومن ذكره من أهل التفسير للنصوص أو من أهل اللغة العربية بل من سائر لغات الأمم وإن كان ذلك لا ينفعه إن لم يبين معنى هذا اللفظ العربي في لغة العرب ومن المعلوم أن هذا لم يقله أحد من أهل العلم بالنصوص الشرعية واللغة العربية فصار ذلك افتراءا على النصوص واللغة # الوجه السابع أن يقال اسم الجواد يقال على كثير من المخلوقين مع انتفاء هذه المعاني عنهم فلو كان هذا المعنى داخلا في هذه الاسم لم يصح إطلاقه على مخلوق إلا مجازا أو بطريق الاشتراك وكلاهما مع كونه خلاف الأصل إنما يكون إذا ثبت استعمال اللفظ في المعنى مجردا فكيف وأصل الاستعمال منتف # الوجه الثامن أن يقال المعروف في الشرع واللغة والعقل أن الذي يفعل أو يفيد ما ينبغي لا لمقصود أصلا عابث وإن كان لا لمقصود يعود إلى نفسه فهو سفيه أو جاهل وكلاهما مذموم في الشرع والعقل بل يستحق في الشرع أن يحجر عليه وهو من أسو المبذرين حالا فإن من المبذرين من يبذل المال لأغراض محرمة وإن كان فيها ما هو مقصود له فأما من يبذل ما ينبغي لا لمقصود أصلا فهذا إن كان موجودا فهو مذموم واسم الجود في الشرع واللغة والعقل اسم مدح فيستحيل أن يفسر بما لا يكون عند الناس إلا مذموما # بل يقال في الوجه التاسع هذا المسمى لا يعرف وجوده أصلا فليس في الموجودات ما يفيد وينفع لا لمقصود أصلا حتى الحركات الطبيعية لحركتها منتهى ومستقر هو منتهى ميلها ويسمى ميلها إرادة وقد جعلوهم عشقا لذاك الكمال وإذا
كان هذا المسمى معدوما والاسم معروفا في الشرع واللغة لأعيان موجودة امتنع أن يكون مسماه ما ذكره # بل يقال في الوجه العاشر إن ما ذكره ممتنع لذاته ولهذا هم يسلمون أنه ليس في الموجودات ما هو كذلك إلا ما يذكرونه في واجب الوجود وهم متناقضون في ذلك فيصرحون تارة أنه يفعل لقصد منه للغاية ورحمة منه وتارة يقولون ليس له إرادة ولا قصد وإن كانوا متناقضين في ذلك تبين أن أحدا من العقلاء لم يستقر قوله على إثبات موجود بهذه الصفة التي سموها جودا # الوجه الحادي عشر أن يقال الجود إفادة ما ينبغي لا لغرض هو كلام مجمل يحتمل الحق والباطل بل الظاهر منه للناس هو الحق الذي لم يرده فإنه يقال لك العوض المعروف في الشرع واللغة والعرف والعقل هو ما يبذله أحد المتعاوضين للآخر في مقابلة ما بذله الآخر له كثمن المبيع وأجرة الأجير وثواب الهدية ومكافأة النعمة ونحو ذلك فلا ريب أن من أعطى غيره ليعطيه ذلك الغير عوضها فهذا مستعيض وليس بجواد ولهذا يفرق الفقهاء بين عقود المعاوضات والتبرعات بنحو هذا الفرق ولهذا قال المخلصون ^ إنما نطعمكم لوج الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ^ فأخبروا أنهم لا يريدون من المنعم عليهم لا جزاء ولا شكورا ولم يقولوا لا نريد ذلك من أحد لا من الله ولا من غيره فإن هذا إما ممتنع وإما سفاهة ولهذا كان المحققون للإخلاص لا يطلبون من المحسن إليه لا دعاءا ولا ثناءا ولا غير ذلك فإنه إرادة جزاء منه فإن الدعاء نوع من الجزاء على الإحسان والإساءة كما جاء في الحديث من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه وقال الشاعر % ارفع صغيرك لا يجزيك ضعفه % يوما فتدركه العواقب قد نمى % % يجزيك أو يثني عليك وإن من % ثنى عليك بما فعلت فقد جزى % # وأيضا كانوا إذا كافأهم المعطي بدعاء وغيره قابلوه بمثل ذلك ليبقى أجرهم على الله تعالى ولا يكونوا قد اعتاضوا عنه كما كانت عائشة رضي الله عنها إذا أرسلت إلى قوم بهدية تقول للمرسل اسمع ما يدعون به لنا حتى ندعو لهم مثل ما دعوا لنا ويبقى أجرنا على الله تعالى فهذا أو نحوه غاية ما يقدر من الجود المعروف فأما جود أهل الجاهلية ونحوهم ممن يقصد به الثناء عليه ولو بعد موته فذاك دون هذا # وأيضا فإن الإنسان قد يحب بنفسه فعل الخير والإحسان ويتلذذ بذلك لا لغرض بل يتلذذ بالإحسان إلى الغير كما يتلذذ الإنسان بلذاته المعروفة وأشد وإن لم يصل إليه نفع لذته بالإحسان كما أن النفوس الخبيثة قد تلتذ بالإساءة والعدوان وإن لم يحصل لها بذلك منفعة ولا دفع مضرة فهذا أيضا موجود وصاحبه من أهل الإحسان والجود فأما أن يكون في الوجود من يفعل فيه ولا لمعنى في غيره فهذا لا حقيقة له أصلا وقد علم أن أهل الشرع واللغة وسائر العقلاء الذين يقولون الجود إفادة ما ينبغي لا لعوض أصلا إنما يريدون به عوضا يكون في مقابلة العطية إما من المعطي أو ممن يقوم مقامه كمن يبذل لغيره مالا ليعتق عبده أو يخلع امرأته أو يفك أسيره # وبالجملة فالعوض الذي ينافي الجود يشترط فيه أمران أحدهما أن يقصده 4 المعطى والثاني أن يقصده من المعطى وممن يقوم مقامه فأما من طلب العوض من الله تعالى أو أحسن للتذاذه هو بالإحسان فهذا لا ينافي الجود باتفاق العقلاء بل لو طلب الثناء من عباده ونحوهم لم يمتنع أن يسميه الناس جوادا كما سموا حاتما جوادا وغيره من أهل الجاهلية بالجود وإن كانوا قد يقصدون البسمعة والثناء في الخلق # الوجه الثاني عشر قوله ولعل من وهب ليستعيض معامل وليس بجواد وهذا فيه من الإجمال ما تقدم فإن معنى العوض الذي يمنع الجود في الشرع واللغة والعرف وعقول جميع الآدميين أخص من العوض الذي ادعاه بقوله وليس العوض كله عينا بل وغيره من الثناء والمدح والتخلص من الذم والتوصل إلى أن يكون علىالأحسن وعلى ما ينبغي فيقال له لا نسلم أن من أعطى لينال حمد الله وثناءه عليه أو التخلص من ذم الله تعالى لا يكون جوادا بل هذا جواد باتفاق الأنبياء والمرسلين وجميع عباد الله المؤمنين وسائر أهل السموات وأهل الأرضين وكذلك من وهب ليكون ذلك أقرب إلى الله تعالى وأحسن له عنده وأعلا لدرجته أو ليكون عند الله على ما يبنغي فلا نسلم أن هذا ليس بجواد وكذلك أهل كل لغة سواء كانوا مسلمين أو كفارا بل من وهب لينال ما هو عندهم أحسن وأعلى ولينال الحمد والثناء من الجناب الأعلى لشيء يليق به عندهم أن يطلب منه الحمد والثناء فهو جواد عندهم فقوله من جاد ليشرف أو ليحمد أو ليحسن ما يفعل فهو مستعيض غير جواد ليس بمسلم ولا دليل عليه # بل يقال في الوجه الثالث عشر هذا جواد باتفاق العقلاء من جميع الأمم وهذا هو الجود قال تعالى ^ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ^ وقال ^ وما يفعلوا من خير فلن يكفروه ^ وقال ^ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا 5 يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ^ وقال ^ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ^ وقال ^ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل ^ وقال ^ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء ^ وقال ^ وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ^ ويروى عن علي أو غيره أنه قال ما أحسنت إلى أحد وما أسأت إلى أحد إنما أحسنت إلى نفسي وأسأت إلى نفسي وعمل ذلك لأجل الله تعالى نهاية المطلوب قال كل من الرسل ^ ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ^ وقال ^ وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ^ # الوجه الرابع عشر أن هذا الاسم بعينه لم يجئ في أسماء الله تعالى التي في القرآن ولا في الأحاديث المشهورة في الصحيحين وإن كان قد جاء بمعناه أسماء أخر كالكريم والاكرم والوهاب وما يستلزم هذا المعنى كالرحمن الرحيم والرب وغير ذلك لكن هذا الاسم جاء ذكره في الحديث حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله وقد رواه مسلم لكن هذا الاسم جاء في رواية الترمذي وابن ماجة فيه يقول الله تعالى يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر غمسة واحدة وذلك أني جواد ماجد عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري إذا أردت شيئا أن أقول له كن فيكون وروى هناد بن السري عن أبي معاوية عن حجاج عن سليمان 6 ابن سحيم عن طلحة بن عبدالله بن كريز قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله جواد يحب الجود وقال أهل العلم الجواد في كلام العرب معناه الكثير العطاء يقال منه جاد الرجل يجود جودا فهو جواد قال أبو عمرو بن العلاء الجواد الكريم تقول العرب فرس جواد إذا كان غزير الجري ومطر جواد إذا كان غزيرا قال عنترة % جادت عليها كل عين ثرة % فتركن كل حديقة كالدرهم % # وجاء في الحديث في وصفه المطر الذي استسقاه الرسول صلى الله عليه وسلم فما جاء أحد من جميع النواحي إلا أخبر بجود وفي حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم في الثلاثة الذين يقضى الله عليهم يوم القيامة أولا ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن أنفق فيها إلا أنفقت فيها قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه في النار فهذا الحديث الصحيح يدل على أن قولهم جواد مثل قولهم كريم كما قال أبو عمرو فقد ثبت فيه بالنص وقول أهل اللغة إن المخلوق يسمى جوادا وإن كان إنما يفعل لمصلحة له وإنما يفعل بإرادته # الوجه الخامس عشر أن تسمية الرب سبحانه وتعالى جوادا وإن كان قد قيل هو بمعنى كونه كريما فالاسم الكريم يتناول معاني الجود فإن فيه معنى الشرف والسؤدد ومعنى الحلم وفيه معنى الإحسان 7 # ومن تأمل مقالات أهل الفلسفة والكلام ومن يضاهيهم في هذا الأصل وجدهم عامتهم مضطربين فيه كل منهم وإن أثبت نوعا من الحق واعتصم به فقد كذب بنوع آخر من الحق فتناقض وأكثر عقول الناس تبحث دون تأمل هذا إذ أحدهم يرى نفسه إما أن يقول حقا ويقول ما ينقضه أو يقول حقا ويكذب بحق آخر وتناقض القولين باطل والتكذيب بالحق باطل والحق الصريح لا يرى قلبه يستطيع معرفته كما لا يستطيع أن يحدق بصر عينه في نور الشمس بل كما لا يستطيع الخفاش أن يرى ضوء الشمس وقد قال تعالى ^ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ^ # والمقصود هنا بيان تناقض الدهرية وفساد حجتهم فصل # المشهور بين أهل السنة والجماعة أنه لا يقال في صفات الله عز وجل كيف ولا في أفعاله لم وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن السلف والأئمة نفوا علمنا الآن بكيفيته كقول مالك رحمه الله الاستواء معلوم والكيف مجهول لم ينفوا أن يكون في نفس الأمر له حقيقة يعلمها هو وتكلمنا على إمكان العلم بها عند رؤيته في الآخرة أو غير ذلك لكن كثيرا من الجهمية من المعتزلة وغيرهم ينفون أن يكون له ماهية وحقيقة وراء ما علموه وكذلك إذا قلنا لا يقال في أفعاله لم فإنما نفينا السؤال بلم وذلك ينفي علم السؤال بالحكمة الغائية المقصودة بالفعل التي تصلح أن تكون جواب لم وهي المقرونة باللام في قول المجيب لكذا وهي التي تنصب على المفعول له إذا حذفت اللام بأن تكون العلة مصدرا فعلا لفاعل الفعل المعلل ومقارنة له في الزمان كما تقول فعلت هذا ابتغاء وجه الله ونحو ذلك لكن اللام تقرن بها نفس 8 الحكمة المقصودة قصدها فيقال فعلت هذا لله ولابتغاء وجه الله وأما مع حذف اللام فلا يكون المنصوب إلا ما يقوم بالفاعل من الباعث له كالإرادة والكراهة وما يستلزم ذلك كما يقال قعد عن الحرب جبنا لأن الجبن يتضمن البغض والكراهة وكما يقال % واغفر عوراء الكريم ادخاره % واعرض عن ذم اللئيم تكرما % # فإن ادخاره يتضمن قصد الانتفاع به والتكرم يتضمن صون النفس عن التأذي بشتمه # لكن قولهم لا يقال في أفعاله لم لا ينفي ثبوت الحكمة التي تكون مقصودة له في نفس الأمر ولا كونه مريدا لها قاصدا وإن كان ذلك ينفيه من ينفيه من نفاة التعليل ومثبتيه ولهذا قال بعض علماء السلف إن الله علم علما علمه العباد وعلم علما لم يعلمه العباد وإن القدر من العلم الذي لم يعلمه العباد ورووا في قصة سؤال موسى العرش وعيسى للرب أو تعظيم أنه لو أراد أن يطاع لأطيع وقد أمر أن يطاع وهو مع ذلك يعصى ومضمون السؤال لو أردت هذا لكان واقعا لأنك قادر عليه فما شئت كان وما لم تشأ لم يكن ثم قد أمرت به والأمر يستلزم محبته وطلبه فهلا كان المحبوب المطلوب قد أريد وقوعه فأوحى الله تعالى إليهم أن هذا سري فلا تسألوني عن سري وأن المسيح قال للحواريين القدر سر الله فلا تكلفوه # والمقصود التنبيه على أن العقول تعجز عن إدراك كنه الغاية المقصودة بالأفعال كما تعجز عن إدراك حقيقة الفاعل ولكن نفي الشيء غير نفي العلم به 9 ونفي هذه الحكمة المقصودة لظن أن ثبوتها يستلزم قيام الحوادث المستلزمة حدوثه به واستكماله بغيره المقتضي حاجته ونحو ذلك هو نظير صفاته الثابتة بالفطرة والشرع والعقل لظن أن ثبوتها يستلزم حدوثه أو يستلزم افتقاره إلى غيره فما توهمه النفاة المكذبون من المتفلسفة والمتكلمين من أن ثبوت الأفعال أو حكمها يستلزم حدوا وحاجة هو من جنس واحد وكل منهم يلزمه فيما أثبته أعظم مما فر منه هو لم يثبت إلا هذا الموجود المحسوس بلا صانع أصلا بل كلما كان أقل إثباتا كانت المحذورات فيما يثبته أعظم وأعظم لأن الإثبات إذا قل قلت صفات الكمال وكان ما يلزمه من النقائص وما يتوهم أنه مستلزم للحوادث والفقر أعظم وأعظم فيلزمه اجتماع هذه الأمور مع نقيضها من القدم والوجوب # فليتدبر المؤمن العلم بهذا الأصل الجامع العظيم فإنه من أعظم ما يهدي به الله تعالى إلى الصراط المستقيم # ثم قالوا في جواب ما ذكروه من إبطال الغرض قوله في الوجه الثاني في إبطال هذا القسم إن كل من فعل فعلا لغرض فهو أحسن من ذلك الغرض # قلنا القضايا المبنية على الشرف والخسة قضايا غير علمية بل خطابية فلا يمكن بناء القواعد العلمية عليها على أننا ننقض هذه القضية بالراعي فإنه ليس أخس من الغنم وبالنبي فلأن أمته ليسوا بأشرف منه فهكذا هنا # وهذا جواب ضعيف وقد تعلمه من ابن سينا فإنه هو القائل في الشفاء إن القضايا المبنية على الشرف والخسة قضايا خطابية وليس الأمر كذلك فإنه من المعلوم ببديهة العقول أن الشيء إذا لم يقصد به إلا أن يكون وسيلة 0 وطريقا إلى غيره فالذي هو المقصود بذاته يجب أن يكون أكمل في الوجود من الذي ليس يراد منه إلا أن يكون وسيلة إلى غيره والمعني بالشرف كمال الوجود وبالخسة نقص الوجود وهذا أمر معقول بل على مثل ذلك تبنى عامة البراهين الصحيحة بل معرفة الفطرة بمثل هذه القضية أبين عندها من كثير من القضايا البديهية لأنه يجتمع فيها العلم والحب فتبقى معلومة بالعقل موجودة مذوقة بوجد القلب وذوقه وإحساسه فتكون من القضايا العقلية المحسوسة بالحس الباطن وإلا فهل يقول عاقل إن الموجود الذي يكون وجوده أكمل من غيره لا يقصد به إلا أن يكون وسيلة إلى الموجود الذي هو دونه وأنقص منه # وأما ما ذكره من التمثيل بالنبي والراعي فيقال منشأ الغلط في مثل هذا هو اشتباه المقصود بالقصد الأول بالمقصود بالقصد الثاني وذلك أن الراعي ليس مقصوده الأول برعاية الغنم مجرد نفعها بدون غرض يحصل له هو من ذلك بل إنما يقصد أولا ما كان مصلحة له ونفعا وكمالا إما تحصيل الأجرة وهو المال الذي ينتفع به ويقضي به حاجاته أو يتشرف وإما رحمة للغنم وإحسانا إليها ليدفع عن نفسه الألم الحاصل لنفسه إذا كان الحيوان محتاجا متألما وهو لا يزيل ألمه أو لتحصل له العافية والرحمة من هذا الألم ويحصل له تنعم وفرح وسرور بالإحسان إليها أو أن تكون به أو لصديقه أو لقريبه فيقصد برعايته ما يحصل له له من المنفعة والفرح والسرور وزوال الضرر بمثل ذلك وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم فإنه بالإحسان إلى الأمة إنما يقصد ما يناله من التقرب إلى الله تعالى وعبادته والإحسان إلى عباده من أنواع المطالب والمقاصد التي هي أشرف وأعظم من فعله بهم فمطلوبه ومقصوده أعظم من العباد الذين ينفعهم فأما أن تكون الغاية المقصودة له بذاتها هي مجرد نفعهم من غير مقصود آخر يكون أشرف من هذا فهذا إنما يقوله جاهل شديد الجهل بالمقاصد والنيات 1 # وقد أجاب طائفة ثالثة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم كابن الهيصم في كتابه المسمى بجمل الكلام وكالقاضي أبي يعلى الصغير في كتابه المصنف في أصول الدين عن سؤال الحكمة بجواب خير من جواب هذين كما أن هؤلاء أيضا قالوا في سبب الحوادث خيرا من قول هذين وإن كان الجميع مقصرين في الأمرين جميعا وقالوا العلة فيه استدعاء الحمد والتعظيم من عبيده وذلك أن الحكمة تستحسن استدعاء الحمد من مستحقه واستدعاء التعظيم ممن هو أهله كما أنه يسحسن طلب المحامد من عدمها ألا ترى أنه من عدم المعاني التي يستحق عليها الحمد والتعظيم كيف يحسن في الحكمة أن يبذل الوسع في طلبها ولذلك حسن منا طلب العلوم ومكارم الأخلاق فأما الله تعالى فقد كان كامل العلم والقدرة والجود والكرم فخلق العالم وأسكنه أهل التمييز يستدعي بذلك حمدهم له وتعظيمهم إياهه وعلى ذلك يخلد من يخلده منهم في الجنة أبد الآبدين قال الله تعالى ^ له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون ^ # قالوا والدليل على أن وجه حكمة الله في خلق هذا العالم أن يدل على صفاته التي توجب تعظيمه وأن يستدعي الحمد له أن هذا الوجه من القصد حسن مقبول عند كل عاقل وليست المنافع كذلك من قبل أن المتقدمين والمتأخرين قد اختلفوا في المنافع هل هي حاصلة في أنفسها أم لا وذلك يدل على أن المنفعة ليست صريح الحكمة والحسن لاشتباه ذلك على من عرفها وثبت أن صريح الحكمة والحسن استدعاء الحمد والتعظيم من مستحقها إذ كان هذا الوجه في تشبيه على ذي عقل 2 # قالوا وقد قال الله تعالى جل جلاله فيما وصف أهل الجنة ^ وله الحمد في الأولى والآخرة ^ وقال ^ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ^ وإذ قد جعل حمدهم إياه آخر ما يحشرهم إليه بكلية هذا التدبير ثبت أنه الغرض من خلق الكل وقال الله تعالى ^ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ^ يعني ليعبده منهم البعض فتكون عبادتهم وتعظيمهم إياه عوضا عن جملة ما خلق ممن عبده وممن لم يعبده وذلك أن من لم يعبد صار سببا لعبادة من عبد ولذلك صح أن تكون عبادة من عبد غرضا من كلية هذا التدبير # قالوا وفي تكليف من علم أنه لا يطيع لم يكن غرضه من تكليفه إياه أن يتأدى إلى حسن حال يخصه في عاقبة أمره بل أخر تكليفه ذلك إلى غرض صحيح وليس يجب أن يكون غرضه في تكليف كل واحد من المكلفين ما يعود إلى حسن حال يخصه وما ينتفع به فيعاقبة أمره بل الذي يجب أن يكون غرضه من ذلك أمر هو صحيح في الحكمة كما أنه خلق الجماد ولم يكن غرضه من خلقه أن يتأدى به خلقه إلى منفعة تخصه في نفسه وإنما خلقه لغرض آخر وذلك أنه أظهر بتكليف من هلك ضربا من تدبيره واستدعى بذلك محامد من علم أنهم يعتبرون به ونفع بتكليفه غيره ممن علم أنهم ينتفعون بذلك وهو إنما هلك بسوء اختياره فكان تكليفه حسن إلا أن أمره له بالإيمان والطاعة والشيء الذي كلف فعله حسن لأنه كلفه أن يؤمن ويطيع والذي عرض له أيضا حسن لأنه عرض لنعيم الجنة فأما الغرض من تكليفه فلم يكن حسن حال يخصه في عاقبته إذ قد علم أنه يهلك بسوء اختياره وإنما كان الغرض منه صلاح ضرب من التدبير علمه فيه ولولا ذلك لم يكن ليكلفه # قلت وليس المقصود هنا بيان ما يجب أن يقال في حكمة الله تعالى ومشيئته ورحمته وما يستحقه من الصفات والأفعال إذ لكل مقام مقال |
3 # ولكن الغرض بيان ممانعة الجهمية والدهرية وعجز كل طائفة عن تصحيح قولها لاشتراك الطائفتين في جحد أصول فطرية ضرورية جاءت الرسل بكمالها وتمامها وشهدت بها الأقيسة الصحيحة وأن الجهمية عاجزون عن الجواب عن شبه الدهرية على أصولهم وأن الدهرية عن الجواب عن حجج الجهمية على أصول أنفسهم أعجز وأن حجة كل واحدة من الطائفتين باطلة على أصل نفسه كما هي باطلة على أصل خصمه فإذا كانت حججهم باطلة على الأصلين وجوابهم عن حجج خصومهم باطل على الأصلين كما أن ذلك أيضا باطل على الأصول الصحيحة ظهر مع بطلان أصولهم عظم تناقضهم من كل وجه # وقد تقدم أن هذه الحجة حجة الحكمة والغرض للفعل احتج بها الدهرية وذكرنا أنهم يعارضون بها على كل قول يقولونه فتبين أن الذي يلزمهم أعظم مما فروا منه # ونقول قد تبين أنهم معترفون بما هو مشهود معلوم من ظهور الحكمة التي في العالم التي يسمونها العناية والفلاسفة من أعلم الناس بهذا وأكثر الناس كلاما فيما يوجد في المخلوقات من المنافع والمقاصد والحكم الموافقة للإنسان وغيره وما يوجد من هذه الحكمة في بدن الإنسان وغيره سواء كانوا ناظرين في العلم الطبيعي وفروعه أو علم الهيئة ونحوه من الرياضي أو العلم الإلهي وأجل القوم الإلهيون وقد تقدم ما ذكر في اعترافهم بأن هذه الموافقة ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد ولا ريب أن الاعتراف بهذا ضروري كالاعتراف بأن المحدث لا بد له من محدث والممكن لا بد له من مرجح فكما أن هناك مقدمتين إحداهما أن هنا حوادث مشهودة والحادث لا بد له من محدث والأولى حسية والثانية عقلية بديهية ضرورية وكذلك أن ها هنا ممكنات والممكن لا بد له من مرجح واجب فكذلك ها هنا مقدمتان
4 إحداهما أن هنا حكما أو منافع مطلوبة والثانية أنه لا بد لذلك من فاعل قاصد مريد وهما مقدمتان ضروريتان الأولى حسية والثانية عقلية فإن الإحساس بالانتفاع كالإحساس بالحدوث وإن كان في تفاصيل ذلك ما يعلم بالقياس أو الخبر ثم هذه الحكم قد يعلم حدوثها وقد يعلم إمكانها كالأسباب # وأيضا فإنه يقال هذا الموجود المحسوس يستلزم الواجب القديم فإن كل موجود إما قديم واجب بنفسه وإما ممكن أو محدث والممكن والمحدث يستلزم القديم الواجب فثبت الموجود الواجب القديم فكذلك يقال هذه المقاصد المحسوسة تستلزم وجود موجود مقصود لنفسه لأن هذه المقصودات إما أن تكون مقصودة لنفسها أو لغيرها والمقصود لغيره يستلزم وجود المقصود لنفسه فثبت أنه لا بدمن مقصود لنفسه علىالتقديرين كما ثبت أنه لا بد من موجود لنفسه على التقديرين ثم هذا يدل على وجود المريد الفاعل لهذه الموجودات لغيرها ولنفسها # وإذا تقرر هذا تبين تناقض الفلاسفة وفساد مذهبهم في حجة الحكمة والغرض وحجة السبب الحادث وهما جماع الكلام وذلك أنهم لما قالوا في حجة الفرض إذا أحدثه كان فاعلا بالاختيار وذلك محال لما تقدم من الوجهين أحدهما أن ذلك يستلزم إما استكماله بغيره وإما العبث ولما في ذلك من المحذور على تقدير جواز القبائح عليه وعدم جوازها فيقال لهم أنتم معترفون بالاختيار كما تقدم التصريح عنكم بأن هذه الحكم ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد له وهذا موجود في عامة كتب الفلاسفة وأعظمهم قدرا هم الإلهيون المشاؤون وهم أعظم الناس تصريحا بذلك وكذلك الطبائعيون حتى محمد بن زكريا الرازي وأمثاله 5 # ثم يقال ثبوت القصد والاختيار كثبوت الواجب القديم كما تقدم بيانه فقد ثبت بالعلوم الضرورية وبالمقاييس البرهانية وبالاتفاق وجود الفاعل القاصد لهذه الحكم المريد لها كما يثبت ذلك وجود الموجود القديم الواجب بنفسه وحينئذ فالقدح في ثبوت الفاعل المختار كالقدح في ثبوت الموجود القديم الواجب بنفسه وهذا إنما يمكن بإنكار وجود هذه الموجودات المحسوسة وهذا في غاية البيان والإحكام والإتقان ويقال لهم حينئذ فهذا القصد والإرادة يستلزم ما ذكرتموه سواء بسواء فما كان جوابكم عن ذلك فهو جواب لمن قال بحدوث العالم سواء # وأما في مسألة السبب الحادث إذاثبت أنه فاعل بالقصد والإرادة وأن له عناية بالمفعولات لزمكم كلما ألزمتموه لغيركم فإن ابن رشد الحفيد قال في إلزامه للمتكلمين وأيضا فإن الإرادة التي تتقدم المراد وتتعلق به بوقت مخصوص لا بد أن يحدث فيها في وقت إيجاد المراد عزم علىالايجاد لم يكن قبل ذلك الوقت لأنه إن لم يكن في المريد في وقت الفعل حالة زائدة على ما كانت عليه في الوقت الذي اقتضت الإرادة عدم الفعل لم يكن وجود ذلك الفعل في ذلك الوقت أولى من عدمه فيما تقدم # فيقال لهم حينئذ يجب أن يتجدد له عزم في وقت حدوث هذه الحوادث وحكمها وحينئذ فالقول في حدوث ذلك العزم كالقول فيما طلبتموه من السبب الحادث للعالم # وأيضا فقد قلتم إذا كانت الإرادة قديمة لزم قدم المراد فلو كانت له إرادة قديمة لزم قدم الحوادث 6 # وفي الجملة فأنتم بين أمرين إما أن تنكروا القصد والإرادة وقد تبين أن ذلك كإنكار الموجود الواجب نقلا عنكم وإلزاما لكم وإما أن تقروا بالقصد والإرادة فيبطل جميع ما بنيتموه على إنكار ذلك وجميع ما يخالفون به أهل الملل إنما هو مبني على إنكار ذلك وإلا فمتى وقع الاعتراف بأن صانع العالم فاعل مختار انهارت هذه الفلسفة كما ينهار ما أسس ^ على شفا جرف هار ^ فلا ريب أن هذه الآية إشارة واعتبار لمثل حالهم فإنهم بنوا مذاهب تتخذها القلوب عقائد ومقاصد مقابلة لما جاء به المرسلون ^ كالذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ^ # ومما يوضح ذلك أن القاضي أبا الوليد الفيلسوف ابن رشد قال في كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصولية وأما الإرادة فظاهر اتصافه بها إذ كان من شرط صدور الشيء عن الفاعل العالم أن يكون مريدا له وكذلك من شرطه أن يكون قادرا فأما أن يقال إنه مريد للأمور المحدثة بإرادة قديمة فبدعة وشيء لا يعلمه العلماء ولا يقنع الجمهور أعني الذين بلغوا رتبة الجدل بل ينبغي أن يقال إنه مريد لكون الشيء في وقت كونه وغير مريد لكونه 7 في غير وقت كونه كما قال تعالى ^ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ^ فإنه ليس عند الجمهور كما قلنا شيء يضطرهم إلى أن يقولوا هو مريد للمحدثات بإرادة قديمة إلا ما توهمه المتكلمون من أن الذي تقوم به الحوادث حادث # قلت وهذا الكلام كالصريح في تجويز قيام الحوادث بالرب وبالجملة فهو لازم لهم وهو يبطل القول بقدم الأفلاك ويبين فساد كثير مما اعترض به هذا الفيلسوف على حجج المتكلمين فإنه إنما أطمعه فيمن رد عليهم نفيهم لهذا الأصل وقد تقدم أنه ما من طائفة من الطوائف وإن نفت هذا الأصل إلا وهي تلتزم به في مواضع أخر وإن القول به لازم لجميع الطوائف وذلك أن الفيلسوف قال بعد أن اعترض على حجة الأعراض الي للمتكلمين بما بعضه حق وبعضه باطل والحق منه لا يمنع من القول بحدوث هذه المخلوقات ثم قال وأما الطريقة الثانية فهي الطريقة التي استنبطها أبو المعالي في رسالته المعروفة بالنظامية ومبناها على مقدمتين إحداهما أن العالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل وما هو عليه حتى يكون من الجائز مثلا أن يكون أصغر مما هو وأكبر مما هو أو بشكل آخر غير الشكل الذي عليه أو عدد أجسامه غير العدد الذي هو عليه أو تكون حركة كل متحرك منها إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق وفي النار إلى أسفل وفي الحركة الشرقية أن تكون غربية وفي الغربية أن تكون شرقية # والمقدمة الثانية أن الجائز محدث وله محدث أي فاعل محدث صيره بأحد الجائزين أولى منه بالآخر فأما المقدمة الأولى فهي خطابية في بادئ الرأي وهي 8 إما في بعض أجزاء العالم فظاهر كذبها بنفسه مثل كون الإنسان موجودا على خلقة غير هذه الخلقة التي هو عليها وفي بعض الأمر فيه مشكوك مثل كون الحركة الشرقية غربية والغربية شرقية إذ كان ذلك ليس معروفا بنفسه إذ كان يمكن أن يكون لذلك علة غير بينة الوجود بنفسها أن تكون من العلل الخفية على الإنسان ويشبه أن يكون ما يعرض للإنسان في أول الأمر عند النظر في هذه الأشياء شبيها بما يعرض لمن ينظر في أجزاء المصنوعات من غير أن يكون من أهل تلك الصنائع وذلك أن الذي هذا شأنه قد يسبق إلى ظنه أن كل ما في تلك المصنوعات أو جلها ممكن أن يكون بخلاف ما هو عليه ويوجد عن ذلك المصنوع ذلك الفعل بعينه الذي صنع من أجله أعني غايته فلا يكون في ذلك المصنوع عند هذا موضع حكمة وأما الصانع والذي يشارك الصانع في شيء من علم ذلك فقد يرى أن الأمر بضد ذلك وأنه ليس في المصنوع إلا شيء واجب ضروري أو ليكون به المصنوع أتم وأفضل إن لم يكن ضروريا فيه وهذا هو معنى الصناعة والظاهر أن المخلوقات شبيهة في هذا المعنى بالمصنوع فسبحان الخلاق العظيم # فهذه المقدمة من جهة أنها خطابية قد تصلح لإقناع الجميع ومن جهة أنها كاذبة ومبطلة لحكمة الصانع فليست تصلح لهم وإنما صارت مبطلة للحكمة لأن الحكمة ليست شيئا أكبر من معرفة أسباب الشيء وإذ لم يكن للشيء أسباب ضرورية تقتضي وجوده على الصفة التي هو بها ذلك النوع موجود فليس ههنا معرفة يختص بها الحكيم الخالق دون غيره كما أنه لو لم يكن هنا أسباب ضرورية في وجود الأمور المصنوعة لم يكن هنالك صناعة أصلا ولا حكمة تنسب إلى الصانع دون من ليس بصانع وأي حكمة كانت تكون في الإنسان لو كانت جميع أفعاله وأعماله يمكن أن تتأتى بأي عضو اتفق أو بغير عضو حتى 9 يكون الإبصار مثلا يتأتى بالأذن كما يتأتى بالعين والشم يتأتى بالعين كما يتأتى بالأنف وهذا كله إبطال للحكمة وإبطال للمعنى الذي سمى به نفسه حكيما تعالى وتقدست أسماؤه عن ذلك # الوجه الثالث أن يقال له ما ذكرته من الأمور الضرورية في الأسباب إنما يجيء في حق من لم يخلقها دون من خلقها ومن هنا وقع الغلط حيث قسمتم أفعال الله بأفعالنا حتى عجزتموه عن غير ما خلقه وذلك أن الواحد منا إذا أراد أمرا من أكل وشرب ولباس وسفر وغير ذلك فإن لم يحصل الأسباب التي بها جعل الله وجود المطلوب لم يحصل والأسباب خارجة عن قدرته وإنما يمكنه تأليف ما يؤلفه أو نقله من موضع إلى موضع وأمثال ذلك من الأفعال دون إبداع الأعيان وأما الله سبحانه وتعالى وإن كان قد جعل بعض الاشياء سببا كما جعل الأكل مثلا سببا للشبع وخلق الطعام يغذي الإنسان فهو الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسنا ومما لا نعلم وإذا كان هو الخالق للجميع فيمتنع أن يكون مضطرا إلى شيء من دون ذلك فإنه إذا قيل البصر لا يمكن إلا بالعين والسمع لا يمكن إلا بالأذن ونحو ذلك من الأسباب فيقال هو الذي جعل هذه الماهيات وأبدعها وجعل لها هذه الصفات التي يتوصل بها إلى هذه المقاصد وقد كان من الممكن أنه إذا غير هذا التخليق أن يحصل إما فوق تلك الحكمة وإما ما هو دونها وإما ما يشاركها في الجنس دون النوع وإن كان نفس الحكمةالحاصلة فهذا لا يحصل إلا بمثله ألا ترى أن أهل الجنة يكونون في أبدانهم وقواهم أعظم مما هم في الدنيا مع كون هذه الحكم هناك أكمل وأبلغ وهب أن المنازع لا يصدق مثل ذلك فمن المشهود أن أبصار الناس وأسماعهم 0 وسائر قواهم تختلف في القوة والضعف فتكون المنافع الحاصلة لهم متفاوتة مع العلم الضروري بأن الذي له لو جعل لهذا والذي لهذا لو جعل لهذا لكان يفوت التعيين وذلك لا يبطل أصل الحكمة وهكذا البلاد تختلف فيما خلق فيها من الاقوات والأنهار والمساكن فيختلف لذلك وجه الانتفاع مع أن أصل المقصود حاصل في الجميع وقد يحول الله ما ببض البلاد إلى بعض مع أن نظام العالم قائم والتحويل من حال إلى حال موجود في العالم فلو كان ما يوجد من الصفات والمقادير لغاية بمعنى أن وجود تلك الغاية ضروري أي لا يمكن عدمه إلا لزم منه فساد عام لم يكن الأمر كذلك # الوجه الرابع أن يقال قولك هذا ضروري الوجود في الأسباب والحكم ماذا تعني به أتعني به أنه واجب بنفسه بمعنى أنه يمتنع عدمه أم تعني به أنه إذا عدم عدمت الحكمة التي وجد لأجلها أما الأول فباطل قطعا وهو لم يرده وأما الثاني فيقال لك هب أنه يلزم من عدمه تلك الحكمة المعينة فتلك الحكمة المعينة ليست واجبة بنفسها بل هي أيضا جائزة فالقول بكونها مخصوصة بالإرادة دون غيرها من الحكم لا بد له من تخصيص وهو الإرادة بل تلك الحكمة لا تكون حكمة إلا أن تكون مقصودة وأنت تقول ذلك وتحتج به فصار ما جعلته ضروريا يدل على الإرادة المخصصة بطريق الأولى # الوجه الخامس أن يقال هذه الامور المستحيلة من حال إلى حال فحركاتها واستحالاتها إما أن تكون واجبة لذاتها وإما أن لا تكون واجبة لذاتها بل إنما صارت كذلك بفاعل غيرها فإن قدر الأولى قيل فإن جاز فيما هو واجب بنفسه أن يتحرك حركة استحالة فيكون تارة عالما وتارة جاهلا 1 وتارة شبعان وتارة جائعا وتارة صحيحا وتارة مريضا كما يقول نحو ذلك القائلون بوحدة الوجود كصاحب الفصوص وأمثاله ويدعون أن الكمال المطلق أن يكون واجب الوجود منعوتا بكل نعت سواء كان محمودا شرعا وعرفا وعقلا أو مذموما شرعا وعرفا وعقلا وأنه هو المتلذذ بكل ما في الوجود من الألم وأنه هو الذي يتجدد له العلم بعد أن لم يكن عالما وينشدون % وكل كلام في الوجود كلامه % سواء علينا نثره ونظامه % # وينشدون % وما أنت غي الكون بل أنت عينه % ويفهم هذا السر من هو ذائق % # وأمثال ذلك من كلامهم المعروف نثرا ونظما ويدعون أن هذا هو التحقيق الذي آمن إليه هرامس الدهور الأولية والمعرفة التي رامت إفادتها الهداية النبوية وإن كان لهم في تفصيل هذا المذهب اضطراب قد بيناه في غير هذا الموضع # فيقال إذا قدرنا هذه الموجودات المشهودة واجبة الوجود بنفسها أو هي الموجود الواجب بنفسه أو وجودها عين وجود واجب الوجود لم يمكن حينئذ أن يقال في واجب الوجود إنه لا يفعل بعد أن لم يكن فعل لأن ذلك يقتضي تجدد أمر ما وحدوث أمر منه ممتنع ولا أن يقال ذلك يقتضي ثبوت الصفات له أو تجزيه أو حلول الحوادث به نحو ذلك وذلك ممتنع فإنه من يجوز أن يكون واجب الوجود هو الموجود المستحيل من حال إلى حال وأنه تارة يكون 2 نطفة ثم علقة ثم مضغة وتارة حبا ثم شجرا ثم تمرا وتارة حيا ثم ميتا لم يبق عنده شيء يمتنع على واجب الوجود إذ هو واصف له بكل صفات واقعة في الموجودات التي هي عند الناس مخلوقة ممكنة ومن جوز أن يوصف بكل ما يوصف به كل مخلوق وممكن بطل حينئذ أن يكون علة قديمة لا يجوز عليها التغير والاستحالة ونحو ذلك مما يصف به المشاؤون واجب الوجود # وهذا القول وإن كان فاسدا من وجوه كثيرة فالمقصود هنا أن ندرجه في ضمن التقسيم وذلك أن الموجود الواجب بذاته أدنى خصائصه امتناع العدم عليه وهؤلاء يجعلون ما وجد وعدم من واجب الوجود لذاته وأصل كلامهم ظنهم أن الوجود المطلق له وجود في الخارج فقالوا بوحدة الوجود أي الوجود الواحد ولم يعلموا أن الوجود المطلق لا وجود له في الخارج وإنما الموجود في الخارج موجودات أو موجودان كل منهما متعين متميز عن الآخر وليس أحدهما هو الآخر بعينه ولا نفس وجود هذا هو نفس وجود هذا بل الذهن يأخذ وجودا مطلقا مشتركا فيه فإذا قال بوحدة هذا الوجود فإنما قال بوحدة هذا الوجود الذهني المطلق ومن قال الوجود زائد على الماهية قد يقول بأن وجود الماهيات من جنس واحد وهو قول فاسد لكنه لا يقول نفس وجود هذا هو نفس وجود هذا بعينه فإن هذا مخالف للحس ولصريح العقل ولهذا يقول كبير هؤلاء الاتحادية في وقته التلمساني ثبت عندنا بالكشف ما يناقض صريح العقل وذلك أن الذي ينكشف لهم أنهم متوجهون بقلوبهم توجها لا يعرفون به الرب البائن عن خلقه حتى يقصدوه فيشهدون الوجود المطلق المشترك بين الموجودات وإن لم يوجد في الخارج لكن القلوب تجده وتأخذه مطلقا وفي كل معين منه حصة وهذا الوجود المطلق 3 الساري في الكائنات وإن كان موجودا فيها على وجه التعيين والتخصيص وهو الذي يقال له الكلي الطبيعي فذاك من أثر وجود الله تعالى ومن مخلوقاته ومصنوعاته فيظنون الوجود المخلوق هو الوجود الخالق # وهم يشبهون من بعض الوجوه من رأى شعاع الشمس الذي على الأرض والحيطان والجبال فظنه نفس الشمس التي في السماء مع أن هذا الشعاع منفصل عن الشمس ومع أنه قائم بأجسام غيرها والمخلوقات وإن كان لها وجود وتحقق فهو مخلوق لله بائن منه وغايته إذا قدر أن الوجود زائد على الماهيات أن يكون الوجود في الموجودات كالشعاع في الأجسام المقابلة للشمس فصار هذا الضلال ناشئا من نقص العلم والإيمان بالرب المباين للمخلوقات ومن شهود القلب لما وجد عنه من الوجود الساري في الكائنات فظن هذا هذا # وقوي ضلالهم ما سمعوه من كلام المتفلسفة ومن وافقهم أن واجب الوجود هو الوجود المطلق وأنه لا داخل العالم ولا خارجه ونحو ذلك من مقالات الجهمية فلم يشهدوا ما يكون كذلك إلا وجود الكائنات بعينه ولهذا يقولون بقول الباطنية القرامطة وغالية الفلاسفة فيقولون هو من حيث ذاته لا اسم له ولا صفة ولا يتميز ويقولون شهود الذات ما فيه خطاب ولا لذة فيه ونحو ذلك لأنهم إنما يتكلمون على ما شهدوه من الموجود المطلق الذي لا يوجد في الخارج مطلقا وليس له حقيقة تميزه حتى يكون لها اسم أو صفة أو خطاب # والمقصود هنا أنه لا بد من الاعتراف بوجود قديم واجب فمن جعل ذلك هذه الموجودات المحسوسة لم يكن عنده وصف يجب تنزيه الرب عنه أصلا من الأمور الممكنة في الوجود وحينئذ فلا يمكن هذا أن ينكر مذهبا من المذاهب فلا يقول حدوث العالم عن واجب الوجود ممتنع لأنه يستلزم تغيره ويفتقر إلى سبب حادث فإن قوله فيه من الإحالة أعظم من هذا 4 # وأما إذا قيل بأن هنا موجودا قديما واجبا غير هذه الأمور الحادثة المستحيلة في الجملة فمن المعلوم أن ما سوى الوجود الواجب بنفسه ليس هو موجود واجب الوجود بنفسه فثبت بهذا أن في الوجود شيئين أحدهما موجود واجب الوجود بنفسه والثاني موجود لا يجب وجوده بل يكون موجودا تارة ومعدوما أخرى فهذا الموجود إذا وجد لم يكن أن يقال إنه واجب الوجود بنفسه بل هو واجب الوجود بغيره وهب أن الشاك يشك في بعض الأمور التي لم يعلم عدمها واستحالتها هل هي واجبة بنفسها أم لا أما التي لم يعلم أنها تعدم وتستحيل فلا يشكفي أنها ليس بواجبة بنفسها بل بغيرها ما دامت موجودة وهي واجبة العدم إذا عدمت أيضا وليس لها من ذاتها لا وجوب الوجود ولا وجوب العدم لكن ليس لها من ذاتها إلا العدم وفرق بين أن تكون معدومة وعدنها من ذاتها وبين أن تكون واجبة العدم بذاتها فإن هذه صفة الممتنع إذ العدم ليس بشيء وإذا ثبت أن في الموجودات ما هو ممكن وجائز حصل المقصود فإن تخصيص هذا بالوجود دون العدم لا بد له من موجب فاعل ثم إذا كانت ذاته قابلة للعدم فصفاته ومقاديره بطريق الأولى فتخصيصه بصفة وقدر وزمان ومكان لا بد له من مخصص بإرادته ومشيئته وهذا هو مطلوب أبي المعالي وغيره من أهل النظر واعلم في هذا المقام # وأما الذي جرأه عليهم فإن هؤلاء المتكلمين الذين لا يقولون برعاية الحكمة في أفعال الله تعالى كأبي الحسن الأشعري وأصحابه ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب أحمد رحمه الله وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء ابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني ونحوهم ممن يوافقهم على هذا وعلى نفي التحسين والتقبيح العقليين نطلقا مع أن أكثر الذين يوافقونهم من هؤلاء وغيرهم يتناقضون فيثبتون الحكمة في أكثر ما يتكلمون فيه من مسائل الخلق والأمر وجمهور الفقهاء يقولون بذلك ويصرح بالتحسين والتقبيح العقليين طوائف |
5 من الفقهاء كأكثر أصحاب أبي حنيفة وقد ينقلونه عنه وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كأبي الحسن التميم وأبي الخطاب وكأبي نصر السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وطوائف كثيرة من أهل الحديث والفقه والكلام # والمقصود هنا أن أبا المعالي وهؤلاء يقولون إن القديم خلق العالم بعد أن لم يكن خالقا لا لعلة وغرض ولا لداعوباعث وخاطر يعتريه لأن ذلك زعموا مقصور على اجتلاب المنافع ودفع المضار وذلك مستحيل في صفته ومناظرتهم في هذا الباب مع الدهرية الطبيعية ومع القدرية الإرادية وقول كلا الفريقين فيه من الباطل أكثر مما يلزم هؤلاء نفاة الحكمة وإن الذي في قول الدهرية الطبيعية أكثر # وقال أبو المعالي وهؤلاء نفاة التعليل معنى قولنا إنه حكيم في أفعاله أنه مصيب في ذلك ومحكم لها لأنه مالك الأعيان فيتصرف تصرف مالك الأعيان في ملكه من غير اعتراض وقد يراد بالحكمة العلم في المعنى بكونه حكيما في فعله أنه خلقه على الوجه الذي أراده وعلمه وحكم به ثم لم يكن علمه وإرادته علة لفعله ولا موجبا له لقدم هذه الصفات وحدوث متعلقها ففسروا حكمته بمعنى أنه يفعل ما يشاء بلا ذمأو بمعنى أنه عالم ولا ريب أن هذا خلاف ما عليه الناس في معنى الحكمة والحكيم فإنهم لا يجعلون الحكمة كون الحكيم له أن يفعل ما يشاء وإن كان الله تعالى له أن يفعل ما يشاء لكن الحكمة فعله بعض الأشياء دون بعض لاشتمال المفعول على ما يصلح أن يكون مرادا للحكيم
6 وتفسيرها بمعنى العلم بالمفعولات أبعد ومع هذا فقول أبي المعالي وأمثاله في الفقه وأصوله يخالف هذا الأصل بخلاف غيره من المتكلمين الذين لم يبرعوا في الفقه كبراعة أبي المعالي فإنه يقول بالعلل المناسبة للأحكام التي تفسر بالباعث والداعي وإثباتها ينافي هذا الأصل # ثم قال أبو المعالي ونحن لا ننكر أن يكون الله تعالى خلق من نفعه بخلقه ومن ضره بخلقه والذي ننكره من الغرض وننفيه عن القديم سبحانه قيام حادث بذاته كالإرادة والداعية والحاجة والمعتزلة يوافقونا على استحالة قيام الحوادث بذاته غير أنهم أثبتوا للقديم سبحانه أوصافا متجددة وأحوالا من الإرادات التي يحدثها لا في محل والمحذور من قيام الحوادث بذات الباري تعالى تجدد الأوصاف عليه وقد التزموه # قال أبو المعالي فإن قال قائل القديم إنما خلق العالم إظهارا لقدرته وإظهارا لحجج وآيات يستدل بها على الهيتة ويعرف سبحانه وتعالى بنعوته وجلاله وصفاته ويعبد ويعظم ويستحق على عبادته وتعظيمه الثواب الجزيل ويستوجب المعرض عنها العذاب الأليم وهذا منصوص عليه في الكتاب العزيز في آي كثيرة لا تحصى من ذلك قوله تعالى ^ وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت ^ وقال تعالى ^ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ^ وقوله تعالى عن المؤمنين القائلين ^ ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ^ وقال تعالى ^ الله الذي خلق سبع السموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ^ قال وهذا نص صريح في أنه إنما خلق هذه الأشياء ليعرف بها ويعبد فقال في الجواب اللام في قوله ^ خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا ^ ليست اللام لام علة وإنما هي لام صيرورة وتكون غاية أي ليعلم من في المعلوم أنه يعلم وليجزى على ذلك ويعرض ويعاند من في المعلوم أنه يعاند و ^ ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ^ # قلت لام الصيرورة إما أن تكون لمن لا يريد الغاية وذلك إنما يكون لجهل الفاعل بالغاية كقوله ^ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا ^ وإما لعجزه عن دفعها وإن كان كارها لها كقول القائل لدوا للموت وابنوا للخراب وللموت ما تلد الوالدة فأما العالم بالعاقبة القادر على وجودها ومنعها فلا يتصور أن تكون العاقبة إلا وهو عالم بها قادر عليها والموجود الذي يحدثه الله وهو عالم به قادر عليه لا يكون إلا وهو مريد له بل أبو المعالي وسائر المسلمين يسلمون أنه لا يكون شيء إلا بمشيئته فيكون مريدا للغاية ومريد الغاية التي للفعل لا يكون اللام في حقه لام صيرورة إذ لام الصيرورة إنما يكون في حق من لا يريد فلو قال إرادته لهذه الغايات كإرادته للأفعال التي هي سببها لكان أمثل مع أن هذا الكلام لا يدفع الحجة من الآية فإن القرآن يشهد بأن الله خلق المخلوقات لحكمة لكن ليس هذا موضع تحقيق ذلك وإزالة الشبهة العارضة فيه # قال الحفيد وأما القضية الثانية وهي قول القائل إن الجائز محدث فهي مقدمة غير بينة بنفسها وقد اختلف فيها العلماء فأجاز أفلاطون أن يكون شيء جائزا أزليا ومنعه أرسطا طاليس وهو مطلب عويص ولن تتبين حقيقته إلا لأهل صناعة البرهان وهم العلماء الذين خصهم الله تعالى بعلمه وقرن شهادتهم في الكتاب العزيز بشهادته وشهادة ملائكته # قلت قد قدم فيما مضى أن أفلاطون وشيعته يقولون إن الزمان متناه وأنهم يقولون العالم محدث أزلي لكون الزمان متناهيا عندهم في الماضي وأن أرسطو وفرقته يقولون الزمان غير متناه في الماضي كما لا يتناهى في المستقبل ولا يسمون العالم محدثا وهذا يقتضي أن الأزلي في هذا الكلام المراد به الأبدي الذي لا آخر له وإلا تناقض الكلام وأفلاطون شيعته يقولون هو محدث جائز لكنه يكون مع ذلك أبديا والجائز يمكن أن يكون أبديا وأما آرسطو فيقول ما كان محدثا عن عدم فلا بد له من آخر فالجائز لا يكون أبديا وهذا الذي قاله آرسطو هو الذي تقدم قول الحفيد له إن كل محدث فهو فاسد ضرورة فهذا قول معلم طائفته آرسطو وهو أيضا قول طائفة ممن يقول بحدوث العالم كالجهم بن صفوان ومن يقول بوجوب فناء الحوادث وأما الذي حكاه عن أفلاطون فهو قول أهل الملل إن الله يخلق شيئا للبقاء ويخلق شيئا للفناء كما يشاء وهو ومع هذا فالذي ينقلونه عن آرسطو أن النفوس الناطقة عنده محدثة فتكون جائزة وهي مع هذا أبدية باقية فهذا يناقض ما أصله # فهذا القدر الذي تبين يدل على أن ما حكاه عن هذين الفيلسوفين أو أصحابهما اتفاق منهم على أن ما كان جائزا فهو محدث فإذا كان قد ثبت أن العالم جائز ثبت أنه محدث ولهذا منع هو كونه جائزا وغلط ابن سينا في قوله إنه جائز بنفسه مع موافقته له على قدمه # فأما الذي فهمه من كلامهم في هذا المقام واعترض به وهو أن يقول عن أفلاطون إن الجائز يكون أزليا وأن آرسطو يقول الجائز لا يكون أزليا فهذا لا يناسب ما تقدم فإنه إذا كان قول أفلاطون إن العالم لم يتقدمه زمان وعنده أن الزمان متناه في الماضي ثبت أنه ليس بأزلي فأي حقيقة لقوله الجائز لا يكون أزليا وكذلك آرسطو لو كان يقول إن الجائز لا يكون أزليا أي قديما لامتنع أن يكون عنده شيء من الممكن بذاته عنده أزليا وهو خلاف قوله فهذا النقل وقع فيه غلط إما لفظ الجائز وإما لفظ الأزلي # ثم يقال له يا سبحان الله من الذي جعل هذه الطائفة من اليونان وأتباعهم هم العلماء دون سائر الأمم وأتباع الأنبياء الذي لا يختلف من له عقل ودين أنهم أعلم منهم وأي برهان عندهم يتبين بها هذه الحقيقة وقد ذكرت أن نفس أهل صناعة البرهان تنازعوا فيها فلو كان ذلك منكشفا بصناعتهم لم يتنازع أئمة الصناعة فيها # ثم يقال ومن الذي خص هؤلاء بكونهم أهل البرهان مع أن غاية ما يقولونه في العلم الإلهي لا يصلح أن يكون من الأقيسة الخطابية والجدلية فضلا عن البرهانية # ثم يقال وكيف يستحسن عاقل أن يجعل المتكلمين على عجزهم وبجرهم أهل جدل وهؤلاء أهل برهان مع أن بين تحقيق المتكلمين للعلم الإلهي بالأقيسة العقلية وبين تحقيقهم تفاوت يعرفه كل عاقل منصف والقوم لم يتميزوا بالعلم الإلهي ولا نبل أحد باتباعهم فيه بل الأمم متفقة على ضلالهم فيه إلا من قلدهم # ولكن يؤثر عنهم من الكلام في الأمور الطبيعية والرياضية ما شاع ذكرهم بسببه ولولا ذلك لما كان لهم ذكر عند الأمم كيف يستجيز مسلم أن يقول إن العلماء الذين أثنى الله عليهم في كتابه هم أهل المنطق مع علمه بأن أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم كانوا مرادين من هذا الخطاب قطعا بل هم أفضل من أريد به بعد الأنبياء وقد ماتوا قبل أن تعرب كتب اليونان بالكلية وإن أراد بذلك البرهان العقلي الذي لا يختص بإصلاح اليونان فلا اختصاص لهؤلاء بل الصحابة والتابعون أحذق منهم في المعقولات التي ينتفع بها في الإلهية بما لا نسبة بينهما # ثم العلماء الذين أثنى الله عليهم هم الذين شهدوا أنه لا إله إلا هو ومن المعلوم لكل من عرف أحوال الأمم أن أهل الملل أحق بهذا التوحيد من الصابئة الذين هم أجل من الفلاسفة ومن المشركين الذين منهم فلاسفة كثيرون بل كانت اليونان منهم والمسلمون وعلماؤهم بهذه الشهادة من الأولين والآخرين بل يقال لك نحن لا نعلم أن هؤلاء القوم كانوا يشهدون بهذه الوحدانية فإن الذي في الكتب المنقولة عنهم من التوحيد إنما مضمونه نفي الصفات كما تقوله الجهمية ومعلوم أن هذا ليس الشهادة بأنه لا إله إلا الله بل قد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته هذا التوحيد والقرآن مملوء منه ولم يقل لهم كلمة واحدة تتضمن نفي الصفات ولا قال ذلك أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الدين مع العلم الضروري بأنهم كانوا أعلم بمعاني القرآن منا وإن ادعى مدع تقدمه في الفلسفة عليهم فلا يمكنه أن يدعى تقدمه في معرفة ما أريد به القرآن عليهم وهم الذين تعلموا من الرسول لفظه ومعناه وهم الذين أدوا ذلك إلى من يعدهم قال أبو عبدالرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا القرآن عثمان بن عفان و عبدالله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل # وليس معه ما يعتمد عليه أن هؤلاء كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله بل لو قيل كانوا مشركين لكان أقرب فإنه من المشهور في أخبار اليونان أهل مقدونية وغيرها أنهم كانوا مشركين كانوا يعبدون الأصنام والكواكب وهؤلاء الفلاسفة يسمون الكواكب الآلهة الصغرى والأرباب وفي كتاب سقراط والنواميس لأفلاطون وغيرهما من ذلك أمور كثيرة وقد ذكر هذا الرجل عنهم أن أكثرهم انتهى نظرهم إلى الفلك فلم يثبتوا وراءه موجودا ومعلوم أن الذي أثبتوه من واجب الوجود هو أدعى شيء إلى عبادة الكواكب والأصنام فكيف يكون هؤلاء هم أهل العلم بشهادة أن لا إله إلا الله بل إذا قيل إن هؤلاء وأمثالهم أصل كل شرك وأنهم سوس الملل وأعداء الرسل لكان هذا الكلام أقرب إلى الحق من شهادته لهم بما ذكره # قلت ومقتضى ما ذكره هو وذكره عن هؤلاء الفلاسفة أن ما ثبت فيه أنه ممكن جائز وجب أن يكون محدثا وأن القديم لا يكون إلا واجبا فمتى ثبت أنه جائز ثبت أنه محدث وقد تقدم التنبيه على ذلك # قال الحفيد وأما أبو المعالي فإنه رام أن يبين هذه المقدمة بمقدمات أحدها أن الجائز لا بد له من مخصص يجعله بأحد الوصفين الجائزين أولى منه بالثاني والثاني أن هذا المخصص لا يكون إلا مريدا والثالث أن الموجود عن الإرادة هو حادث # قلت وكذلك قررها الرازي أيضا فهذه المقدمات الثلاث مع أن نزاع الحفيد والفلاسف في تينك المقدمتين لا يضر فإنا قد بينا أنهم موافقون على أن الخالق مريد قاصد كما تبين في إثباتهم العناية وإن تناقضوا بنفي الإرادة هنا لم يفدهم لإقرارهم بذلك ولأنا قد بيننا أن الأدلة الدالة على ذلك يقينية ضرورية وأن نفي ذلك كنفي واجب الوجود ولكن أبو المعالي والرازي ونحوهما إنما احتاجوا إلى هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون الحكمة الغائية وإنما يثبتون الإرادة المخصصة وقد قدمنا أن كونه مختارا يبين بما دل على الإرادة المخصصة لمفعول دون مفعول وبما دل على ما في المفعولات من الحكمة المقصودة وبالأمرين جميعا لكن هؤلاء الفلاسفة سلكوا إحدى الطريقتين وتناقضوا في منازعتهم في الأخرى والأشعرية سلكوا إحدى الطريقتين ونازعوا في الأخرى والتناقض لازم لهم أيضا والمقصود من الطريقتين واحد وهو كونه قاصدا مريدا مختارا وهذه الطريقة التي سلكها أبو المعالي والرازي وغيرهما صحيحة أيضا توجب العلم اليقني بكونه مريدا مختارا # قال الحفيد ثم بين يعني أبو المعالي أن الجائز يكون عن الإرادة أي عن فاعل مريد من قبل أن كل فعل فإما أن كون عن الطبيعة وإما عن الإرادة والطبيعة ليس يكون عنها أحد هذين الجائزين المتماثلين أعني لا تفعل المماثل دون مماثله بل تفعلهما مثال ذلك السقمونيا ليست تجذب الصفراء التي في الجانب الأيمن في البدن دون التي في الأيسر فأما الإرادة فهي التي تختص بالشيء دون مماثله ثم أضاف هذه إلى أن العالم مماثل كونه في الموضع الذي خلق فيه في الجو الذي خلق فيه يريد الخلاء لكونه في غير ذلك الموضع من ذلك الخلاء فأنتج عن ذلك أن العالم خلق عن الإرادة والمقدمة القائلة إن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة والقائلة إن العالم في خلاء يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها ويلزم أيضا عن وضعه هذا الخلاء أمر شنيع عندهم وهو أن يكون قديما لأنه إذا كان محدثا احتاج إلى خلاء # قلت قد سلم المقصود بهذه المقدمة وهو أن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة وأما اعتراضه على العالم فذاك متعلق بالمقدمة الأولى # وينبغي أن يعلم أن الذي سلط هؤلاء الدهرية على الجهمية شيئان أحدهما ابتداعهم لدلائل ومسائل في أصول الدين تخالف الكتاب والسنة ويخالفون بها المعقولات الصحيحة التي ينسر بها خصومهم أو غيرهم والثاني مشاركتهم لهم في العقليات الفاسدة من المذاهب والأقيسة ومشاركتهم لهم في تحريف الكلم عن مواضعه فإنهم لما شاركوهم فيه بعد تأويل نصوص الصفات بالتأويلات المخالفة لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها كان هذا حجة لهم في تأويل نصوص المعاد وغيرها كما احتج به هذا الفيلسوف وكما يذكره أبو عبدالله الرازي ومن قبله حتى أن الدهرية قالوا لهم القول في آيات المعاد كالقول في آيات الصفات فكان من حجتهم عليهم وضموا ذلك إلى ما قد يطلقونه من أن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين فقالوا له أنت تقول الظواهر لا تفيد القطع أيضا والآيات المتشابهات في القرآن الدالة على المشيئة والقدر ليست أقل ولا أضعف دلالة من الآيات الدالة على المعاد الجسماني ثم إنكم تجوزون تأويل تلك الآيات فلم لا تجوزون تأويل الآيات الواردة ها هنا فقال نحن لم نتمسك بآية معينة ولا بحديث معين ولكن نعلم باضطرار إجماع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم على إثبات المعاد البدني ولم يقل أحد إنه علم من دينهم بالضرورة التشبيه والقدر فظهر الفرق # فالينظر العاقل في هذا الجواب حيث قال لهم هؤلاء المتكلمون نحن نعلم الأخبار بمعاد الأبدان أن الرسل أخبرت به بالضرورة فلم يجعلوا مستند العلم بذلك دلالة القرآن والحديث والإجماع عليه لأنهم عارضوهم بمثل ذلك وبأبلغ منه في أمر الصفات والقدر فعدلوا إلى ما ذكروه من أنا نعلم بالاضطرار أخبارهم بالمعاد الجسماني فإن هذا الذي قالوه صحيح وحجة صحيحة على إثبات المعاد البدني لكن قصروا في عدم الاحتجاج على ذلك في القرآن وبالأخبار وإجماع السلف # وأيضا فأهل الإثبات من سلف الأمة وأئمتها يقولون للطائفتين نحن نعلم أيضا إخبارهم بما أخبروا به من الصفات والقدر بالضرورة وقول بعضهم إنه لم يقل أحد أن هذا معلوم بالضرورة في دينهم ليس كذلك بل أهل الحديث وغيرهم يعلمون ذلك من دينهم ضرورة وكلا الطائفتين مخالف للفطرة العقلية ومخالف لما نعلم نحن بالضرورة من دين الرسول ومخالف للأقيسة العقلية البرهانية والنصوص الإلهية القرآنية والإيمانية # فإن قال المتكلمون من الجهمية وغيرهم فمن خالف ما علم بالضرورة من الدين فهو كافر قيل لهم لهذا السلف والأئمة مطبقون على تكفير الجهمية حين كان ظهور مخالفتهم للرسول مشهورا معلوما بالاضطرار لعموم المسلمين حتى قيل العلم بالإيمان فيما بعد وصار يشتبه بعض ذلك على كثير ممن ليس بزنديق # ويقال لهم قول أهل الأثبات لكم هو لكم أنتم للدهرية في معاد الأبدان ودعواكم تعارض الأدلة في ذلك أو خفاء ذلك كدعوى الدهرية ذلك فإن أبا عبدالله الرازي قال في كتابه الكبير نهاية العقول في مسألة التكفير لما حد الكفر بحد أبي حامد الغزالي وهو تكذيب الرسول في شيء مما جاء به قال ونعني بالتكذيب إما نفس التكذيب أو ما علم من الدين ضرورة دلالته على التكذيب فلو ورد على هذا أن صاحب التأويل إما أن لا يجعل من المكذبين بل يجعل المكذوب من يرد قوله صلى الله عليه وسلم من غير تأويل وأما أن يجعل من المكذبين فإن كان الأول لزمنا أن لا يكون الفلاسفة في قولهم بقدم العالم وإنكارهم علمه تعالى بالجزئيات وإنكار الحشر والنشر كفارا لأنهم يجعلون للنصوص الواردة في هذه المسألة تأويلات ليست بأبعد من تأويلاتكم للنصوص في التشبيه لأنهم يحملون النصوص الواردة في خلقه تعالى العالم على تأثيره في العالم واحتياج العالم في وجوده إليه ويحملون النصوص الواردة في علمه بالجزئيات على أنه تعالى يعلم كل الكليات على وجه كلي ويحملون النصوص الواردة في الحشر والنشر على أحوال النفس الناطقة في سعادتها وشقاوتها بعد المفارقة قالوا إذا جاز لكم حمل الآيات والأخبار المحتملة للتشبيه فلم لا يجوز مثلها في الحشر والنشر على أمور روحانية بصرفها عن ظواهرها 2 التي هي أمور حسمانية فثبت أن لو أردنا بالتكذيب رد النصوص لا على وجه التأويل لزمنا أن لا نجعل الفلاسفة من المكذبين وإن لم يكونوا من المكذبين وجب أن لا يكونوا كفرة لأن العكس واجب في الحد فإما أن جعلنا كصاحب التأويل من المكذبين فمعلوم أنه ليس كل متأول مكذب وإلا لزم إجراء كل الأخبار والآيات على ظواهرها وذلك يوجب التشبيه والقدر والمذاهب المتناقضة وكل ذلك باطل بل يجب أن تجعل التأويلات غير موجبة للتكذيب وبعضها موجب وعند ذلك لا نعلم حقيقة التكذيب إلا عند الضابط الذي به يصير التأويل تكذيبا وما لم يذكروا ذلك كان التأويل غير مقيد # وقال في الجواب عن هذا إنا نعلم بالضرورة إجماع الأمة على أن دينه عليه السلام هو القول بحدوث العالم وإثبات العلم بالجزئيات وإثبات الحشر والنشر وإن إنكار هذه الأشياء مخالف لدينه ثم علمنا بالضرورة أنه عليه السلام كان يحكم أن كل ما خالف دينه فهو كفر فعلمنا بهاتين المقدمتين حكمه عليه السلام بكون هذه الأشياء كفرا فمن اعتقدها كان مكذبا له عليه السلام فكان كافرا ومثل هذه الطريقة لم توجد في التشبيه والقدر لأن الأمة غير مجمعة على أن القول بهما مخالف لدينه عليه السلام فالحاصل أنا لا نكفرهم لأجل مخالفتهم للظواهر بل للإجماع على الوجه المذكور ومثله غير حاصل في الاختلاف الحاصل بين الأمة فلا يلزمنا تكفير الداخلين في الأمة هذا كلام أبي عبدالله الرازي # وقد ادعى طائفة من الفلاسفة في مسألة المبدأ والمعاد نظير ما ادعاه هو في مسائل الصفات والقدر كما ذكر ذلك هذا الحفيد الذي تقدم نقل كلامه لما ذكر هذا أيضا في كتابه الذي زعم أنه جمع فيه بين الشريعة والفلسفة لما ذكر ما سيأتي حكايته عنه حيث بين تقارب الطائفتين ومخالفتهما جميعا لظاهر الشرع إلى قوله قلت يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع انعقد عليه والظاهر الذي قلناه من الشرع في وجود العالم قد قال به فرقة من الحكماء قال ويشبه أن يكون المختلفون في تأويل هذه المسائل العويصة إما مصيون مأجورون وإما مخطئون معذورون فإن التصديق بالشيء من قبيل التوليد القائم بالنفس هو شيء اضطراري لا اختياري أعني أنه ليس لنا أن نقوم أو لا نقوم وإذا كان من شرط التكليف الاختيار فالمصدق بالخطأ من قبل شبهة عرضت إذا كان من أهل العلم معذور ولذلك قال عليه السلام إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر وأي حاكم أعظم من الذي حكم على الوجود أنه كذا وليس بكذا وهؤلاء الحكام هم العلماء الذين خصهم الله تعالى بالتأويل وهذا الخطأ المصفوح عنه في الشرع إنما هو الخطأ الذي يقع من العلماء إذا نظروا في الأشياء العويصة الذي كلفهم الشرع النظر فيها وأما الخطأ الذي يقع من غير هذا الصنف في الناس فهو آثم مخطئ وسواء كان الخطأ في الأمور النظرية أو العملية فكما أن الحاكم الجاهل بالسنة إذا أخطأ في الحكم لم يكن معذورا كذلك الحاكم على الموجودات إذا لم توجد فيه شروط الحكم فليس بمعذور بل هو إما آثم وإما كافر وإذا كان يشترط في الحاكم في الحلال والحرام أن يجتمع له أسباب الاجتهاد وهو معرفة الأصول ومعرفة الاستنباط من تلك الأصول بالقياس بالحري أن يشترط ذلك في الحاكم على الموجودات أعني أن يعرف الأوائل العقلية ووجه استنباطه منها # وبالجملة فالخطأ في الشرع على ضربين إما خطأ يعذر فيه من هو من أهل النظر في ذلك الشيء الذي وقع فيه الخطأ كما يعذر الطبيب الماهر إذا أخطأ في الحكم ولا يعذر فيه من ليس من أهل ذلك الشأن وإما خطأ ليس يعذر فيه أحد من الناس بل إن وقع في مبادئ الشريعة فهو كفر وإن وقع في ما بعد المبادئ فهو بدعة وهذا الخطأ يكون في الأشياء التي يفضي جميع أصناف طرق الدلائل إلى معرفتها فتكون معرفة ذلك الشيء بهذه الجهة ممكنة للجميع وهذا هو مثل الإقرار بالله تبارك وتعالى وبالنبوات والسعادة الأخروية والشقاء الأخروي وذلك أن هذه الأصول الثلاثة تؤدي إليها أصناف الأدلة الثلاثة التي لا يعرى أحد من الناس من وقوع التصديق له من قبلها بالذي كلف معرفته أعني الدلائل الخطابية والجدلية والبرهانية فالجاحد لأمثال هذه الأشياء إذا كانت أصلا من أصول الشرع كافر معاند بلسانه دون قلبه أو بغفلته عن التعرض إلى معرفة دليلها لأنه إن كان من أهل البرهان فقد جعل له سبيل إلى التصديق بها بالبرهان وإن كان من أهل الجدل فبالجدل وإن كان من أهل الموعظة فبالموعظة ولهذا قال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي يريد بأي طريق اتفق لهم الإيمان من الطرق # قلت وهذا الكلام فيه أشياء جيدة وفيه تفاصيل غير صحيحة لكن هذا ليس موضع الكلام عليه # ثم قال وأما الأشياء التي لخفائها لا تعلم عندهم إلا بالبرهان فقد يعف الله فيها لعباده والذين لا سبيل لهم إلى البرهان إما من قبل فطرهم وإما قبل عادتهم وإما من قبل عدمهم أسباب التعلم فإنه ضرب لهم أمثالها وأشباهها ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال إذا كانت تلك الأمثال ممكن أن يقع التصديق بها بالأدلة المشتركة للجميع أعني الجدلية والخطابية وهذا هو السبب في أن يقسم الشرع إلى ظاهر وباطن فإن الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة لتلك المعاني والباطن هو تلك المعاني التي لا تتجلى إلا لأهل البرهان وهذه هي أصناف تلك الموجودات الأربعة والخمسة التي ذكرها أبو حامد في كتاب الثغرية # قلت هذا الكلام من أصول النفاق نفاق الدهرية ويظهر بطلانه من وجوه # أحدها قوله وأما الأشياء التي لخفائها لا تعلم إلا بالبرهان إلى آخره يقال له قولك لا تعلم إلا بالبرهان أي لا يمكن تصورها إلا بالبرهان أو لا يمكن التصديق بها عقلا إلا بالبرهان أما الأول فباطل فإن التصور سابق على التصديق فلو كان لا يمكن تصورها إلا بعد قيام البرهان على ثبوتها والبرهان لا يمكن أن يقوم على التصديق إلا بعد التصور لزم الدور وهو قد ذكر في غير هذا الموضع أن تصور الشيء يكون إما بنفسه وإما بمثاله وليس هذا من البرهان وإذا كان تصورها ممكن بدون البرهان فالرسول خبره يوجب التصديق وليس هو ملزم لأن يقوم برهان خاص على كل ما يخبر به فإذا كان تصورها ممكن بلا برهان وخبره وحده كاف في التصديق لم يحتج إلى ما سماه برهانا # الثاني أن يقال له إذا قدر أن التصديق بها لا يمكن إلا بالبرهان فإما أن يكون الرسول أخبر بها للخاصة مقرونا بالبرهان أو بلا برهان أو لم يخبر بها ومعلوم أن هذه البراهين التي تثبت بها الفلاسفة تجرد النفس ونعيمها وعذابها والعقول والنفوس لم تأت بها الرسل فإما أن كونوا تركوا الإخبار بها أو أخبروا بها بدون ما ادعاه من البرهان وعلى التقديرين يظهر أن الرسول لم يسلك ما ادعاه فإنه يزعم أن الرسول علمها الخاصة دون العامة # الثالث أن يقال ليس فيما يذكره الفلاسفة ما يبعد فهمه على عامة الناس بأكثر من فهم ما دل عليه ظاهر الشرع وإن كانوا مقصرين عن فهم الأدلة ألا ترى أن المتكلمين يصرحون بما يقولونه للعامة وإن كانت أدلتهم كثيرة أما أن تكون أغمض من أدلة الفلاسفة وإنما هي مسائل معدودة مسألة واجب الوجود وفعله والنفس وسعادتها وشقاوتها والعقول والنفوس وما يتبع ذلك فأي شيء في هذا مما لا يمكن التصريح منه به للعامة لو كان حقا فعلم أن ترك التصريح به إنما هو لما اشتمل عليه من الباطل المخالف للفطرة والشرعة والحق الذي صرحت به الشريعة # الرابع أن يقال إن الله قد أجمل في كتابه وعلى لسان رسوله ما لا يمكن النفوس معرفة تفصيله مثل قوله تعالى ^ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ^ ومثله قوله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر # الخامس أن يقال النقص الذي ذكرته هو إما من قبل نقص الفطرة وأما من قبل سوء العادة وإما من قبل عدم أسباب التعلم فيقال لك أما النقص فنقص بني آدم ليس له حد فمن الناس من ينقص عن فهم ما يفهمه جمهور الناس ومن المعلوم أن نهاية ما عند الفلاسفة يفهمه أوسط المتفقهة في مدة قريبة والشريعة قد جاءت بما هو أبعد عن الفطر الناقصة من هذا وأما العادة والتعليم فالرسول هو المعلم الأعظم الذي علمهم الكتاب والحكمة وقد نقلهم عن كل عادة سيئة إلى أحسن العادات والسير والشرائع فإن كان التصريح بهذه الأمور مشروطا بالعلم التام والعادة الصالحة فلا أكمل من هذا المعلم ولا في السير التي عودها فهل لاعلمها وبينها إذا كان الأمر كذلك # السادس أن يقال هب أن العامة لا يمكنهم فهمها فهل لا بينها للخاصة ومن المعلوم بالاضطرار أن الشريعة ليس فيها دلالة على ما يقوله الدهرية والجهمية من الأمور السلبية في الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب # السابع أن يقال فإذا صرح فيها بنقيض ما هو الحق وإن قلت إنه أمثال والحق المطلوب لم يبينه لا للعامة ولا للخاصة ألا يكون هذا تلبيسا وإضلالا # الثامن أن يقال قولكم الأشياء التي لخفائها لا تعلم إلا بالبرهان وأن الباطن هو تلك المعاني التي لا تتجلى إلا لأهل البرهان كلام من أبطل القول وذلك أن هذه الأمور قد فسرتها بما تتأول من صفات الله وصفات المعاد حتى |
ذكرت آية الاستواء والنزول ونعيم الجنة والنار وغيرهما من ذلك فيقال لهم التأويلات التي يدعون أنها باطن هذه الألفاظ معان ظاهرة معلومة للخاص والعام مثل تأويلات الاستواء بالقدرة أو بالرتبة فكل أحد من الناس يتصور أن الله قادر على المخلوقات قاهر لها أعظم مما يتصور استواءه عليها فلأي ضرورة يعبر عن المعنى الظاهر الواضح بلفظ يكون تصور ظاهره أخفى من تصور ذلك المعنى وهذا بين قاطع لمن تدبره وإن كانت الوجوه كلها كذلك # ثم قال الحفيد وإذا اتفق كما قلنا أن يعلم الشيء بنفسه بالطرق الثلاث لم يحتج أن يضرب له مثال وكان على ظاهره لا يتطرق إليه تأويل وهذا النحو من الظاهر إن كان في الأصول فالمتأول له كافر مثل من يعتقد ألا سعادة أخروية ها هنا ولا شقاء وأنه إنما قصد بهذا القول أن يسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم وأنها خيلة وأنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط وإذا تقرر لك هذا فقد ظهر لك في قولنا إن ها هنا ظاهرا من الشرع لا يجوز تأويله فإن كان تأويله في المبادئ فهو كفر وإن كان فيما بعد المبادئ فهو بدعة وها هنا أيضا ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله وحملهم إياه على ظاهره كفر وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم أو بدعة ومن هذا الصنف آية الاستواء وحديث النزول ولذلك قال عليه السلام في السوداء إذ أخبرته أن الله تعالى في السماء أعتقها فإنها مؤمنة إذ كانت ليست من أهل البرهان والسبب في ذلك أن هذا الصنف من الناس الذين لا يقع لهم التصديق إلا من قبل التخيل أعني أنهم لا يصدقون بالشيء إلا من جهة ما يتخيلونه يعسر وقوع التصديق لهم بموجود ليس منسوبا إلى شيء متخيل ويدخل أيضا على من لا يفهم من هذه النسبة إلا المكان وهم الذين شذوا عن
رتبة الصنف الأول قليلا في النظر اعتقاد الجسمية ولذلك كان الجواب لهؤلاء في أمثال هذه أنها من المتشابهات وأن الوقف في قوله تعالى ^ وما يعلم تأويله إلا الله ^ وأهل البرهان مع أنهم مجمعون في هذا الصنف أنه من المتأول فإنهم يختلفون في تأويله # قلت الذين سماهم أهل البرهان هنا هم من عناه من الجهمية والدهرية وقد تناقض في هذا الكلام فإنه قد تقدم ما ذكره في كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصولية ولفظه وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله تعالى والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك وما ذكره من أن ذلك من الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة أن العلو مسكن للروحانيين يريدون الله والملائكة وقوله قد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وقد تقدم حكاية قوله فإذا كان هذا هكذا فكيف يكون أهل البرهان متفقين على تأويل ذلك وأن يكون قول الجارية أنه في السماء مما يجب على أهل البرهان تأويله # ثم يقال له هل كان الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين من أهل البرهان الحق أم لا فإن قلت لم يكونوا من أهله ولكن المتأخرين وفي الصابئين قبلنا من كان من أهله فهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن السابقين الأولين كانوا أعظم علما وإيمانا من هؤلاء وإن قلت كانوا من أهل البرهان فمن المعلوم بالاضطرار أنهم لم يئولوه كما تأوله هؤلاء المتأخرون بل هم متفقون على أن الله تعالى فوق العرش كما ذكرت أنت إجماع الأنبياء والحكماء على ذلك وكلهم في تحريم تأويل ذلك أعظم من أن يذكر هنا فكيف يكون واجبا وأيضا فالمتأولون لهذا ليس فيهم من تحمده أنت فإن تأويل ذلك أما أن يكون عن معتزلي أو أشعري أخذ عنه أو من يجري مجراهم وهؤلاء عندك أهل جدل لا أهل برهان وأنت دائما تصفهم بمخالفة الشرع والعقل # وإن قلت نحن أهل برهان وهم المتفلسفة المنتسبون إلى الإسلام فهذا أكذب الدعاوي وذلك أنه لا ريب عند من عرف المقالات وأربابها أن الذي صار به المتكلمون مذمومين هو ما شاركوا به هؤلاء المتفلسفة من القياس الفاسد والتأويل الحائد وأن أحسن حال المتفلسف أن يكون مثل هؤلاء فإذا كان هؤلاء قد اتفقت الأئمة والأمة وعقلاؤهم متفقون أيضا على أنهم فيما قالوه من خلاف مذهب السلف ليسوا أهل برهان بل أهل هذيان كيف بأصحابك الذين اعترف أساطينهم بأنه ليس لهم في العلم الإلهي يقين والمتكلمون لا يقرون على أنفسهم بمثل هذا بل يقولون إن مطالبهم تأولوها بالأدلة العقلية وبسط هذا الكلام له موضع آخر ليس هذا موضعه وليس يلزم من كون الرجل ذا برهان في الهندسة والحساب أن يكون ذا برهان في الطب مع أن كلاهما صناعة حسية وكثيرا ما يحذق الرجل فيهما ومن المعلوم أن العلم بهذه الأمور أبعد عن الطب والحساب من بعد أحدهما عن الآخر # ثم يقال له هب أن تلك الجارية ليست من أهل البرهان فما الموجب لأن يخاطبها الرسول بخطاب الظاهر من غير حاجة إليه فقد كان يمكنه تعرف إيمانها بأن يقول من ربك ومن إلهك ومن تعبدين فتقول الله تعالى فلما يعدل عن لفظ ظاهره وباطنه حق إلى لفظ ظاهره باطل ثم يكلفها مع ذلك تصديق الباطل ويحرم عليها وعلى غيرها اعتقاد نقيض الباطل فهل فهذا فعل عاقل فضلا عن أن يكون هذا فعل الرسل أم من فعل الكاذبين في خبرهم الموجبين للتصديق بالكذب ثم الله ورسوله يخاطب الخلق بخطاب واحد يخبر به عن نفسه وقد فرض على طوائف أن يعتقدوا ظاهره وإن لم يعتقدوه كفروا وعلى آخرين أن يعتقدوا نقيض ما اعتقده هؤلاء وإن اعتقدوه كفروا ثم مع هذا كله لا يبين من هؤلاء ولا من هؤلاء ولا يبين ما هو مرده به الذي خالف ظاهره بل يدع الناس في الاختلاف والاضطراب وهذا الفيلسوف ادعى أن الاختلاف نما نشأ من جهة كون العلماء فتحوا التأويلات للعامة فأضلوا العامة بذلك حيث فرقوهم ثم هو قد جعل الرسول نفسه أضل الخاصة وأوقع بينهم التفرق والاختلاف حيث عنى بهذا الخطاب باطنا فرضه عليهم ولم يبينه لهم فإن الذنب الذي شنعه على أهل الكلام نسب الأنبياء إلى أعظم منه وقد قال تعالى للرسل ^ أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ^ وقال ^ وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ^ وقال ^ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ^ وقال ^ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم ^ إلى قوله تعالى ^ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ^ وقال ^ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ^ وعلى ما زعمه هؤلاء يكونون قد تفرقوا واختلفوا من قبل أن يأتيهم العلم أو تأتيهم البينة لأنهم زعموا أن في الكتاب ظاهرا يجب على أهل البرهان تأويله وأن الذي يعلمونه هو التأويل الذي قال الله تعالى فيه ^ وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ^ ثم يقول وأهل البرهان مع أنهم مجمعون في هذا الصنف أنه من المتأول فقد يختلفون في تأويله وذلك بحسب مرتبة كل واحد في معرفة البرهان فإذا لم يبين لهم الرسول مراده فما جاءهم العلم ولا البينة فيكونون معذورين في التفرق والاختلاف كما زعم هؤلاء المنافقون # ثم يقال له البرهان يفضي إلى إحالة الظاهر مثلا أم إلى تعيين المراد أما الأول فهم متفقون عليه وأما تعيين المراد فليس مستفادا من مجرد القياس الذي تسميه البرهان إنما يعرف من حيث مراد المتكلم فكيف يكون اختلافهم في التأويل بحسب مرتبة كل واحد في معرفة البرهان والبرهان إنما ينفي الظاهر فقط لا يبين ما هو المراد والرد على هؤلاء يطول فليس هذا موضع استقصائه # وإنما الغرض التنبيه على أن هؤلاء الدهرية سلطوا على الجهمية بمثل هذا حتى آل الأمر إلى الكفر بحقيقة الإيمان بالله وباليوم الآخر وجعلوا ذلك هو البرهان والتحقيق الذي يكون للخاصة الراسخين في العلم حتى حرفوا الكلم عن مواضعه وألحدوا في أسماء الله تعالى وآياته وجعلوا أئمة الكفر والنفاق هم أئمة الهدى ورؤوس العلماء وورثة الأنبياء مع أنهم في القياس الذي سموه البرهان إنما أتوا فيه بمقاييس سوفسطائية من شر المقاييس السوفسطائية فآل أمرهم إلى السفسطة في العقليات والقرمطة في الشرعيات وهذه حال القرامطة الباطنية الذين عظمهم وسلك سبيلهم هذا الفيلسوف ولهذا كان ابن سينا وأمثاله منهم وكان أبوه من دعاة القرامطة المصريين ولذلك اشتغلت بالفلسفة # ثم قال وها هنا صنف ثالث من الشرع متردد بين هذين الصنفين يقع فيه شك فيلحقه قوم ممن يتعاطى النظر بالظاهر الذي لا يجوز تأويله ويلحقه آخرون بالباطن الذي لا يجوز حمله على الظاهر للعلماء لغرابة هذا الصنف واشتباهه والمخطئ في هذ معذور أعني من العلماء # فإن قيل فإذا تردد أن الشرع في هذا على ثلاث مراتب فمن أي هذه الثلاث مراتب هو عندكم ما جاء في صفات المعاد وأحواله فنقول إن هذه المسألة الأمر فيها أنها من الصنف المختلف فيه وذلك أننا نرى قوما ممن ينسبون أنفسهم إلى البرهان يقولون إن الواجب حملها على ظاهرها إذ كان ليس فيها برهان يؤدي إلى استحالة الظاهر فيها وهذه طريقة الأشعرية وقوم آخرون أيضا ممن يتعاطى البرهان يتأولونها وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافا كثيرا وفي هذا الصنف أبو حامد معدود وكثير من المتصوفة ومنهم من يجمع فيها تأويلين كما يفعل ذلك أبو حامد في بعض كتبه ويشبه أن يكون المخطئ في هذه المسألة من العلماء معذور والمصيب مشكور أو مأجور وذلك إذا اعترف بالوجود وتأول فيها نحوا من أنحاء التأويل أعني في صفة المعاد لا في وجوده إذا كان التأويل لا يؤدي إلى نفي الوجود وإنما كان جحد الوجود في هذه كفرا لأنه في أصل من أصول الشريعة وهو مما يقع التصديق به بالطرق الثلاث المشتركة للأحمر والأسود وأما من كان من غير أهل العلم فالواجب عليه حملها على الظاهر وتأويلها في حقه كفر لأنه يؤدي إلى الكفر وكذلك ما نرى أن من كان من الناس فرضه الإيمان بالظاهر فالتأويل في حقه كفر لأنه يؤدي للكفر والداعي إلى الكفر كافر ولهذا يجب أن لا تثبت هذه التأويلات إلا في كتب البراهين لأنها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلا من هو من أهل البرهان أما إذا أثبت في غير كتب البرهان واستعمل فيها الطرق الشعرية والخطبية والجدلية كما يصنعه أبو حامد فخطأ على الشرع وعلى الحكمة وإن كان الرجل إنما قصد خيرا وذلك أنه رأى أن يكثر أهل العلم بذلك ولكن كثر بذلك أهل الفساد ليس بدون كثرة أهل العلم وتطرق بذلك قوم إلى ثلب الحكمة وقوم إلى ثلب الشريعة وقوم إلى الجمع بينهما ويشبه أن يكون هذا هو أحد مقاصده بكتبه والدليل على أنه رام بذلك تنبيه الفكر أنه لم يلتزم مذهبا من المذاهب في كتبه هو مع الأشعرية أشعري ومع الصوفية صوفي ومع الفلاسفة فيلسوف كما قيل % يوم يمان إذا لاقيت ذا يمن % وإن لقيت معديا فعدناني % # والذي يجب على أئمة المسلمين أن ينهوا عن كتبه التي تتضمن العلم إلا لمن كان من أهل العلم كما يجب عليهم أن ينهوا عن كتب البرهان من كان ليس أهلا لها # قلت أما عده أبو حامد ممن لا يقر بمعاد الأبدان فهو وإن كان قد قال في بعض كتبه ما نسبه لأجله إلى ذلك فالذي لا ريب فيه أنه لم يستمر على ذلك بل رجع عنه قطعا وجزم بما عليه المسلمون في القيامة العامة كما أخبر به الكتاب # وأما ذكره أن هذا قول كثير من المتصوفة فلا ريب أن في المتصوفة والمتفقهة وغيرهما من هو صديق ومن هو زنديق فإن انتحال الخيلة والقول ظاهرا ليس بأعظم من انتحال الإسلام وإن كان في نفس ادعاء الإسلام على عهد النبي وفي سائر الأعصار منافقون كثيرون فهؤلاء موجودون في جميع الأصناف من المنتسبين إلى العلم وإلى العبادة وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها # فأما شيوخ الصوفية المشهورون عند الأمة الذين لهم في الأمة لسان صدق مثل أبي القاسم الجنيد وسهل بن عبدالله التستري وعمرو بن عثمان المكي وأبي العباس ابن عطاء بل مثل أبي طالب المكي وأبي عبدالرحمن السلمي وأمثال هؤلاء فحاشا لله أن يكونوا من أهل هذا المذهب بل هم من أبعد الطوائف عن مذهب الجهمية في سلب الصفات فكيف يكونون في مذهب الدهرية المنكرين لانفطار السموات والأرض وانشقاقهما نعم يوجد مثل ذلك في المتكلمين بكلام الفقهاء من أهل الفلسفة والكلام وغيرهم وهذا الرجل قد ذكر أصناف الأمة في الأمور الهية الذين سماهم حشوية والأشعرية والمعتزلة والباطنية وذكر الصنف الرابع الباطنية ولم يتعقبهم بكلام إلا ما ذكره من مذهب الصوفية أنهم يلتمسون العلم بطريقة إماتة الشهوات فإن كان قد جعل هؤلاء هم الباطنية فهذا خطأ عظيم وإن كان يوجد فيهم من يقول بقول الباطنية كما يوجد مثل ذلك في المتكلمين والفقهاء ولعل شبههم في ذلك مع ما حكاه عنهم في أمر المعاد أنهم يقولون علم الباطن وينتسبون إلى علم الباطن ولكن هذا اللفظ فيه إجمال وإيهام فالصوفية العارفون الذين لهم في الأمة لسان صدق إذا قالوا علم الباطن وعلوم الباطن ونحو ذلك فهم لا يريدون بذلك ما يناقض الظاهر بل هم متفقون على أن من ادعا باطنا من الحقيقة يناقض ظاهر الشريعة فهو زنديق وإنما يقصدون بذلك عمل باطن الإنسان الذي هو قلبه بالأعمال الباطنة كالمعرفة والمحبة والصبر والشكر والتوكل والرضا ونحو ذلك ما هو كله تحقيق كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى # ومما يبين تناقض الفريقين لاشتراكهما في النفي والتعطيل أن كل حجة يحتج بها أحدهما على الآخر تنقض مذهبه أيضا كما تنقض مذهب خصمه ولهذا عمدة كلامهم بيان كل طائفة تناقض الأخرى وإن كانت هي أيضا متناقضة كما نبهنا عليه غير مرة # ويوضح ذلك ما ذكره هذا القاضي أبو الوليد ابن رشد الحفيد في كتابه الذي سماه مناهج الأدلة في الرد على لأصولية هذا بعد أن قال في خطبته أما بعد فإن كنا قد بينا في أول هذا الكتاب مطابقة الحكمة للشرع وأمر الشريعة بها وقلنا هناك إن الشريعة ظاهر ومئول وأن الظاهر فيها هو فرض الجمهور وأن المئول هو فرض العلماء وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله # قلت قد جعل فرض الجمهور اعتقاد الباطل الذي هو خلاف الحق إذا كان الحق خلاف ظاهره وقد فرض عليهم حمله على ظاهره قال وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله وأنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور كما قال علي رضي الله عنه حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله قلت حرف لفظ حديث علي ومعناه فإن عليا قال كما ذكره البخاري في صحيحه من رواية معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن علي قال حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وهذا يدل على نقيض مطلوبه لأنه قال أتحبون أن يكذب الله ورسوله فعلم أن الأحاديث التي قالها الله ورسوله أحاديث لا يطيق كل أحد حملها فإذا سمعها من لا يطيق ذلك كذب الله ورسوله وهذا إنما يكون في ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وتكلم به لا في خلاف ما قاله ولا في تأويل ما قال خلاف ظاهره فإن ذكر ذلك لا يوجب أن المستمع يكذب الله ورسوله بل يكذب المتأول المخالف لما قال الله ورسوله نعم نفس ذلك التأويل المخالف لقوله يكون تكذيبا لله ورسوله إما في الظاهر وإما في الباطن والظاهر فلو أريد ذلك لكان يقول أتريدون أن تكذبوا الله ورسوله أو أن تظهروا تكذيب الله ورسوله فإن المكذب من قال ما يخالف قول الله ورسوله إما ظاهرا واما ظاهرا وباطنا وعلي إنما خاف تكذيب المستمع لله ورسوله وهذا لا يكون لمجرد تأويل المتأولين فإن المؤمن لا يكذب الله ورسوله لقول مخالف لتأويل يخالف ذلك بل يرد ذلك عليه # فإن قال هذه التأويلات الباطنة قد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للخاصة # قيل هذا من الإفك المفترى الذي اتفق أهل العلم بالإسلام على أنه كذب وقد ثبت عن علي رضي الله عنه في الصحيح من غير وجه لما سأله من ظن أن عنده من الرسول علما اختص به فبين لهم علي رضي الله عنه أنه لم يخصه بشيء # قال الحفيد فقد رأيت أن أفحص في هذا الكتاب عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها ونتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم بحسب الجهد والاستطاعة فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل الاضطراب في هذه الشريعة حتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى وأن من خالفه إما مبتدع وإما كافر مباح الدم والمال وهذا كله عدول عن مقصد الشارع وسببه ما عرض لهم من الضلال عن فهم مقصد الشريعة وأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربعة الطائفة التي تسمى الأشعرية وهم الذين يرى أكثر الناس اليوم أنهم أهل السنة والتي تسمى المعتزلة والطائفة التي تسمى بالباطنية والطائفة التي تسمى بالحشوية وكل هذه الطوائف قد اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة وحرفت كثيرا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها على تلك الاعتقادات وزعموا أنها الشريعة الأولى الذي قصد بالحمل عليها جميع الناس وأن من زاغ عنها فهو إما كافر وإما مبتدع وإذا تؤمل جميعها وتؤمل مقصد الشارع ظهر أنها كلها أقاويل محدثة وتأويلات مبتدعة وأنا أذكر من ذلك ما يجري مجرى العقائد الواجبة في الشرع التي لا يتم الإيمان إلا بها وأتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم دون ما جعل أصلا في الشرع وعقيدة من عقائده من قبل التأويل الذي ليس بصحيح وأبدأ من ذلك بتعريف ما قصد في الشرع أن يعتقد الجمهور في الله تبارك وتعالى والطرق التي سلك بهم في ذلك وذلك في الكتاب العزيز ونبتدي من ذلك معرفة الطريق التي تفضي إلى وجود الصانع إذ كانت أول معرفة يجب أن يعلمها المكلف وقبل ذلك فينبغي أن نذكر إذا تلك الفرق المشهورة في ذلك فنقول # أما الفرقة التي تدعى بالحشوية فإنهم قالوا إن طريق معرفة وجود الله تعالى هو السمع لا العقل أعني أن الإيمان بوجود الذي كلف الناس التصديق به يكفي فيه السمع أن يتلقى من صاحب الشرع كما يتلقى منه أحوال العبادة وغير ذلك مما لا مدخل للعقل فيه وهذه الفرقة الظاهر من أمرها أنها مقصرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نصبها للجميع مفضية إلى معرفة وجود الله تعالى وتقدس ودعاهم من قبلها إلى الإقرار به وذلك أنه يظهر من غير ما آية من كتاب الله تعالى أنه دعا الناس فيها إلى التصديق بوجود الباري سبحانه وتعالى بأدلة عقلية منصوص عليها فيها مثل قوله تعالى ^ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ^ الآية ومثل قوله تعالى ^ أفي الله شك فاطر السموات والأرض ^ إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى وليس لقائل أن يقول إنه لو كان ذلك واجبا على كل من آمن بالله تعالى أعني أن لا يصح إيمانه من قبل وقوعه عن هذه الأدلة لكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو أحدا إلى الإسلام إلا عرض عليه هذه الأدلة فإن العرب كلها كانت تعترف بوجود الباري سبحانه وتعالى وذلك قال تعالى ^ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ^ ولا يمتنع أن يوجد من الناس من يبلغ به فدامة الطبع وبلادة القريحة ألا يفهم شيئا من الأدلة الشرعية التي نصبها الشارع صلى الله عليه وسلم للجمهور وهذا فهو أقل الوجود وإذا وجد ففرضه الإيمان بالله من جهة السماع فهذه حال الحشوية مع ظاهر الشرع # ثم قال وأما الأشعرية فرأوا أن التصديق بوجود الله تعالى لا يكون إلا بالعقل لكن سلكوا في ذلك طرقا ليست هي الطرق الشرعية وساق الكلام كما ذكرنا عنه أولا # قلت مسمى الحشوية في لغة الناطقين به ليس اسما لطائفة معينة لها رئيس قال مقالة فاتبعته كالجهمية والكلابية والأشعرية ولا اسما لقول معين من قاله كان كذلك والطائفة إنما تتميز بذكر قولها أو بذكر رئيسها ولهذا كان المؤمنون متميزون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فالقول الذي يدعون إليه هو كتاب الله والإمام الذي يوجبون اتباعه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا بني الإيمان وبذلك وجب الموالاة والمعاداة كما قال تعالى ^ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا إلى قوله فإن حزب الله هم الغالبون ^ وقال تعالى ^ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ^ وأمثال ذلك وقال تعالى ^ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ^ وكذلك ذكر ذلك في البقرة والمائدة ولقمان فذكر أن الكفار لا يستجيبون لذلك وكذلك ذكر عن المنافقين فقال ^ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ^ فأخبر عن الكافرين والمنافقين أنهم يعرضون عن الاستجابة للكتاب والرسول فعلم أن المؤمنين ليسوا كذلك بل هم كما قال الله تعالى ^ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا ^ وقال ^ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ^ وبذلك أمرهم حيث قال ^ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإذا تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ^ وبذلك حكم بين أهل الأرض كما قال تعالى ^ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ^ وشواهد هذا الأصل كثيرة والناس منذ بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف إما كافر معلن وإما منافق مستتر وإما مؤمن موافق ظاهرا و باطنا كما ذكر الله تعالى هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة وحينئذ فالواجب أن يكون الرجل مع المؤمنين باطنا وظاهرا وكل قول أو عمل تنازع الناس فيه رده إلى الكتاب والسنة ولا يجوز وضع طائفة بعينها يوالي من والته ويعادي من عادته لا أخص من المؤمنين لو كانت أسماؤهم للتعريف المحض كالمالكية والشافعية والحنبلية أو غير ذلك ولا أعم من ذلك مما يدخل فيه المسلم والكافر كجنس النظر والعقل أو العبادة المطلقة ونحو ذلك ولا يجوز تعليق الحب والبغض والموالاة والمعاداة إلا بالأسماء الشرعية وأما أسماء التعريف كالأنساب والقبائل فيجوز أن يعرف بها ما دلت عليه ثم ينظر في موافقته للشرع ومخالفته له # وإذا كان كذلك فأول من عرف أنه تكلم في الإسلام بهذا اللفظ عمرو ابن عبيد رئيس المعتزلة فقيههم وعابدهم فإنه ذكر له عن ابن عمر شيء يخالف قوله فقال كان ابن عمر حشويا نسبه إلى الحشو وهم العامة والجمهور وكذلك تسميهم الفلاسفة كما سماهم بذلك صاحب هذا الكتاب والمعتزلة ونحوهم يسمونهم الحشوية والمعتزلة تعني بذلك كل من قال بالصفات وأثبت القدر وأخذ ذلك عنها متأخروا الرافضة فسموهم الجمهور بهذا الاسم وأخذ ذلك عنهم القرامطة الباطنية فسموا بذلك كل من اعتقد صحة ظاهر الشريعة فمن قال عندهم بوجوب الصلوات الخمس والزكاة المفروضة وصوم رمضان وحج البيت وتحريم الفواحش والمظالم والشرك ونحو ذلك سموه حشويا كما رأينا ذلك مذكورا في مصنفاتهم والفلاسفة تسمي من أقر بالمعاد الجسمي والنعيم الحسي حشويا وأخذوا ذلك عن المعتزلة تلامذتهم من الأشعرية فسموا من أقر بما ينكرونه من الصفات ومن يذم ما دخلوا فيه من بدع أهل الكلام والجهمية والإرجاء حشويا ومنهم أخذ ذلك هذا المصنف # ومما يبين ذلك أن القول الذي حكاه عنهم لا يعرف في الإسلام عالم معروف قال به ولا طائفة معروفة قالت به ولكن قد يقول بعض العوام قولا لا يفصح بمعناه وحجته يظن به مستمعه أنه يعتقد ذلك والتحقيق أن هذا النقل إنما نقلته المعتزلة ومن وافقهم عليه كهذا الرجل بطريق اللزوم لا أنهم سمعوه منهم أو وجدوه مأثورا عنهم وذلك أنهم يسمعون أهل الإيمان من أهل الحديث والسنة والجماعة والفقهاء والصوفية يقولون الكتاب والسنة وإذا تنازعوا في مسألة من موارد النزاع بين الأمة في مسائل الصفات أو القدر أو نحو ذلك قالوا بيننا وبينكم الكتاب والسنة فإذا قال لهم ذلك المنازع بيننا وبينكم العقل قالوا نحن ما نحكم إلا الكتاب والسنة ونحو هذا الكلام الذي هو حقيقة أهل الإيمان وشعار أهل السنة والجماعة وحلية أهل الحديث والفقه والتصوف الشرعي قالوا بموجب رأيهم يلزم من هذا أن تكون معرفة الله تعالى لا تحصل إلا بخبر الشارع إذا لم يكن للعقل مجال في إثبات المعرفة وهذا جهل منهم وقول بلا علم فإن أحدا من هؤلاء لم يقل إن الله تعالى لا يعرف إلا بمجرد خبر الشارع الخبر المجرد فإن هذا لا يقوله عاقل فإن تصديق المخبر قبل المعرفة بصدقه في قوله إنه رسول الله بدون المعرفة بأنه رسول ممتنع ومعرفة أنه رسول الله ممن لا يعرف أن الله موجود ممتنع فنقل مثل هذا القول عن طائفة توجد في الأمة أو عن عالم معروف في الأمة من الكذب البين وهو من جنس وضع الملاحدة للأحاديث المتناقضة على المحدثين ليشنوهم بذلك عند الجهال لكن من عموم المؤمنين أهل الحديث وغيرهم من لا يحسن أن يجيب عما يورد عليه من الشبه ومن لا يحسن البيان عما انعقد في نفسه من البرهان واستقر عنده من الإيمان ولكن هذا لا يبيح أن ينقل عنه البهتان كيف وشعارهم الدعاء إلى الكتاب والسنة والقرآن مملوء من طريق تعريف الله تعالى لعباده بالأدلة الواضحة المعقول والأمثال المضروبة التي هي القياسات العقلية # ونحن قد بينا في غير هذا الموضع أن القرآن بين فيه أصول الدين في المسائل والدلائل على غاية الأحكام ونهاية التمام وأن خلاصة ما يذكره أهل الكلام والفلسفة إنما هو بعض ما بينه القرآن والحديث مع سلامة ذلك عما في كلامهم من التناقض والاختلاف واشتماله على ما تقصر عنه نهاية عقولهم ومالا يطمعون أن يكون من مدلولهم وبينا أن تعريف الشارع ودلالة الشرع ليس بمجرد الإخبار كما يظنه من يظن ذلك من أهل الكلام والفلسفة فإن مثل هذا الظن بالشارع هو الذي أوجب أن يلمزوا المؤمنين بما هم به أولى وأحرى ^ والذين يلمزون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ^ وهذا حال الكفار والمنافقين الذين قال الله تعالى فيهم ^ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن ^ وقال ^ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ^ فإن الله سبحانه وتعالى ضمن كتابه العزيز فيما أخبر به عن نفسه وأسمائه وصفاته من الأدلة والآيات والأقيسة التي هي الأمثال المضروبات ما بين ثبوت المخبر بالعقل الصريح كما يخاطب أولي الألباب والنهى والحجر ومن يعقل ويسمع بل قد ضمن كتابه من الأدلة العقلية في أمر المعاد ما هو بين لعامة العباد بل ضمن كتابه العزيز من الأدلة العقلية على ثبوت الأمر والنهي والوعد والوعيد ما نبه عليه في غير هذا الموضع كقوله تعالى ^ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط ^ فكيف يكون أهل الكتاب والسنة والإيمان يقولون إن الله تعالى إنما يعرف وجوده بمجرد خبر الشارع المجرد # وأما ما قد يقولونه من أن العقل لا مجال له في ذلك أو ينهون عن الكلام أو عن ما سمي معقولات ونظرا ونحو ذلك فهذا له وجوه صحيحة ثابتة بالكتاب والسنة بل وبالعقل أيضا وبعضهم قد لا يفرق بين ما يدخل في ذلك من حق وباطل وبعضهم قد يقصر عن الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة كما ذكره هذا الرجل ولا ريب أن التقصير ظاهر على أكثر المنتسبين إلى الكتاب والسنة من جهة عدم معرفتهم بما دل عليه الكتاب والسنة ولوازم ذلك # فيقال من الوجوه الصحيحة إنما نطق به الكتاب وبينه أو ثبت بالسنة الصحيحة أو اتفق عليه السلف الصالح فليس لأحد أن يعارضه معقولا ونظرا أو كلاما وبرهانا وقياسا عقليا أصلا بل كل ما يعارض ذلك فقد علم أنه باطل علما كليا عاما وأما تفصيل العلم ببطلان ذلك فلا يجب على كل أحد بل يعلمه بعض الناس دون بعض وأهل السنة الذين هم أهلها يردون ما عارض النص والإجماع من هذه وأن زخرفت بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان قال تعالى ^ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ^ فأعداء النبيين دائما يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا # وكذلك من الوجوه الصحيحة أن موارد النزاع لا تفصل بين المؤمنين إلا بالكتاب والسنة وأن كان أحد المتنازعين يعرف ما يقوله بعقله وذلك أن قوى العقول متفاوتة مختلفة وكثيرا ما يشتبه المجهول بالمعقول فلا يمكن أن يفصل بين المتنازعين قول شخص معين ولا معقوله وإنما يفصل بينهم الكتاب المنزل من السماء والرسول المبعوث المعصوم فيما بلغه عن الله تعالى ولهذا يوجد من خرج عن الاعتصام بالكتاب والسنة من الطوائف فإنهم يفترقون ويختلفون ^ ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ^ وأهل الرحمة هم أهل الإيمان والقرآن # ومن الوجوه الصحيحة أن معرفة الله بأسمائه وصفاته على وجه التفصيل لا تعلم إلا من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام إما بخبره واما بخبره وتنبيهه ودلالته على الأدلة العقلية ولهذا يقولون لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى ^ سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ^ # ثم ذكر ابن رشد الكلام على الطريق التي عزاها إلى الأشعرية وأبو الحسن الأشعري قد بين في رسالته إلى أهل الثغر بيان الأبواب أن هذه الطريق مبتدعة وأنها ليست هي طريقة الأنبياء وأتباعهم بل هي محرمة عندهم |
كما سنذكر ذلك عنه وكذلك ذكر غير واحد عن متقدمي أصحابه ومتأخريهم حتى أبو عبدالله الرازي بين أن معرفة الله تعالى ليست منحصرة في هذه الطريق التي حكاها عن الأشعرية وبين غلط أبي المعالي في قوله اعلم أن أول ما يجب على البالغ العاقل القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم وبين أن العلم بحدوث العالم يمكن أن يعلم بالسمع فضلا عن أن لا يكون طريقا إلى إثبات الصانع إلا العلم بحدوثه بالطريق الذي ذكره وأن يكون القصد إلى النظر في هذه الطريق وكذلك الغزالي قبله بين حصول المعرفة بدون هذه الطريق # وبالجملة فإنه وإن كان أبو المعالي ونحوه يوجبون هذه الطريقة فكثير من أئمة الأشعرية أو أكثرهم يخالفونه في ذلك ولا يوجبونها بل إما أن يحرموها أو يكرهوها أو يبيحوها وغيرها ويصرحون بأن معرفة الله تعالى لا تتوقف على هذه الطريقة ولا يجب سلوكها # ثم هم قسمان قسم يوسقها ويسوق غيرها ويعدها طريقا من الطرق فعلى هذا إذا فسدت لم يضرهم والقسم الثاني يذمونها ويعيبونها ويعيبون سلوكها وينهون عنها إما نهي تنزيه وإما نهي تحريم كما ذكره أبو الحسن الأشعري في رسالته كما سنذكره عنه كما ذكر ذلك طوائف ممن لا يبطل تلك الطريقة كأبي سليمان الخطابي ونحوه # قال الشيخ أبو سليمان الخطابي في كتاب شعار الدين أما بعد فإن أخا من إخواني سألني بيان ما يجب على المسلمين علمه ولا يسعهم جهله من أمر الدين وشرح أصوله في التوحيد وصفات الباري تعالى والكلام في القضاء والقدر والمشيئة والدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبيان إعجاز القرآن والقول في ترتيب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وما يتصل به من الكلام
وطلب إلي أن أورد في كل شيء منها أوضح ما أعرفه من الدلالة وأقربها من الفهم ينتفع به من لا يرضى بالتقليد في ما يعتقده من أصول الدين وكان مع ذلك ممن لا يحب النظر في الكلام ولا يجرد القول على مذهب المتكلمين وذكر تمام الكلام وذكر عدة أصول من الاستدلال بخلق الإنسان والاستدلال بتركيب المتضادات وتأليفها والاستدلال بما في الوجود من الحكمة الغائية الذي يسميه ابن رشد دليل العناية الدال على الإرادة والرحمة والعناية الدالة على الصانع إلى أن قال # وطرق الاستدلال كثيرة إلا أنا أخترنا منها في الكتاب ما هو أقرب إلى الأفهام وأشبه بمذاهب السلف والعلماء وقد أنزل الله تعالى كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم وحاج به قومه وهم عرب ليسوا بفلاسفة ولا متكلمين وإنما خاصمهم بما يفهمه ألوا العقول الصحيحة ويستدركه ذووا الطباع السليمة وتشهد له المعارف وتجري به العادات القائمة فما قامت الحجة عليهم كان من الاستدلال على إثبات الصانع وحدوث العالم قال وقد أبى متكلمو زماننا هذا إلا الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها وزعموا أنه لا دلالة أقوى من ذلك ولا أصح منه ونحن إن كنا لا ننكر الاستدلال بهذا النوع من الدلالة فإن الذي أختاره ونؤثره هو ما قدمنا ذكره لأنه أدلة اعتبار وطريق السلف من علماء أمتنا وإنما سلك المتكلمون في الاستدلال بالأعراض مذهب الفلاسفة وأخذوه عنهم وفي الأعراض اختلاف كثير فمن الناس من ينكرها ولا يثبتها رأسا ومنهم من لا يفرق بينها وبين الجواهر في أنها قائمة بأنفسها كالجواهر والاستدلال لا يصح بها إلا بعد استبراء هذه الشبهة وطريقنا الذي سلكناه بريء من هذه الآفات سليم من هذه الريب # قال ولقد سلك بعض مشائخنا في هذا طريقة الاستدلال بمقدمات النبوة ومعجزات الرسالة لأن دلائلها مأخوذة من طريق الحس لمن شاهدها ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها فلما ثبتت النبوة صارت أصلا في وجوب قبول ما دعا إليه صلى الله عليه وسلم وهذا النوع مقنع في الاستدلال لمن لا يتسع فهمه لاستدراك وجوه سائر الأدلة ولم يتبين تعلق الأدلة بمدلولاتها ولن يكلف الله نفسا إلا وسعها # قلت هذه الطريق يستدل صاحبها بالنبوة على حدوث العالم لأن معرفة الصانع تعلم بدون ذلك إما بالأدلة الأخر وإما بالفطرة وصدق الرسول مبني على مقدمات ضرورية أو نظرية قريبة من الضرورية ثم يستدل بقوله على حدوث العالم فالخطابي في هذه الطريق ذكرأن طريقة الأعراض غير منكرة عنده ولكنه كرهها ورغب عنها إلى ما ذكر أنه طريق السلف لأنها بدعة ولأن فيها آفات # وقد قال في رسالته في الغنية عن الكلام وأهله كلاما أسد من هذا وبين أنها محرمة كما ذكره الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر فقال الخطابي في هذه الرسالة عصمنا الله تعالى وإياك من الأهواء المضلة والآراء المغوية والفتن المحيرة ورزقنا وإياك الثبات على السنة والتمسك بها ولزوم الطريقة المستقيمة التي درج عليها السلف وانتهجها بعدهم صالح الخلف وجنبنا وإياك مداحض البدع وبنيات طرقها العادلة عن نهج الحق وسوى الواضحة وأعاذنا وإياك من حيرة الجهل وتعاطي الباطل والقول بما ليس لنا به علم والدخول فيما لا يعنينا والتكلف لما قد كفينا الخوض فيه ونهينا عنه ونفعنا وإياك بما علمنا وجعله سببا لنجاتنا ولا جعله وبالا علينا برحمته وقفت على مقالتك وما وصفته من أمر ناحيتك وظهور ما ظهر بها من مقالات أهل الكلام وخوض الخائضين فيها وميل بعض منتحلي السنة إليها واغترارهم بها واعتذارهم في ذلك بأن للكلام وقاية السنة وجنة لها يذب به عنها ويذاد بسلاحه عن حريمها وفهمت ما ذكرت من ضيق صدرك بمجالستهم وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم لأن توقفك بين أن تسلم لهم ما يدعونه من ذلك فتقبله وبين أن تقابلهم على ما يزعمونه فترده وتنكره وكلا الأمرين يصعب عليك أما القبول فلأن الدين يمنعك منه ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه وأما الرد والمقابلة فلأنهم يطلبونك بأدلة العقول ويأخذونك بقوانين الجدل ولا يقنعون منك بظواهر الأمور وسألتني أن أمدك بما يحضرني في نصرة الحق من علم وبيان وفي رد مقالة أولئك من حجة وبرهان وأن أسلك في ذلك طريقة لا يمكنهم ردها ولا يسوغ لهم من جهة المعقول إنكارها فرأيت إسعافك به لازما في حق الدين وواجب النصيحة لجماعة المسلمين وأنا أسأل الله تعالى أن يوفق لما ضمنت لك وأن يعصم من الزلل فيه # اعلم يا أخي أن هذه الفتنة قد عمت اليوم وشملت فشاعت في البلاد واستفاضت ولا يكاد يسلم من وهج غبارها إلا من عصمه الله وذلك مصداق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم إن الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء فنحن اليوم في ذلك الزمان وبين أهله فلا تنكر ما تشاهده منه وسل الله العافية من البلاء واحمده على ما وهبه لك من السلامة # ثم إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار بلطيف حيلته سول لكل من أحس من نفسه بفضل ذكاء وذهن بوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة واقتصر على واضح بيان فيها كان أسوة العامة وعد واحدا من الجمهور والكافة فجرهم بذلك إلى التنطع في النظر والتبدع في مخالفة السنة والأثر ليبينوا عن طريق الدهماء ويتميزوا في الرتبة عن من هو دونهم في الفهم والذكاء واختدعهم بهذه المقدمة حتى أزلهم عن واضح المحجة وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها وتاهوا في حقائقها ولم يخلصوا فيها إلى شفاء نفس ولا قبلوها بيقين ولما رأوا كتاب الله تعالى ينطق بخلاف ما انتحلوه ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه ضربوا بعض آياته ببعض فتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولغته المأثورة عنه وردوها على وجوهها وأساؤا في نقلها القالة فوجهوا إليهم الظنون ورموهم بالفرية ونسبوهم إلى ضعف السنة وسوء المعرفة بمعاني ما يروونه من الحديث والجهل بتأويله ولو سلكوا سبيل القصد ووقفوا عندما انتهى بهم التوقيف لوجدوا برد اليقين وروح القلوب ولكثرت البركة وتضاعف النماء وانشرحت الصدور ولأضاءت فيها مصباح النور ^ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ^ # واعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزا عنه ولا انقطاعا دونه وقد كانوا ذوا عقول وافرة وأفهام ثاقبة وكان في زمانهم هذه الشبهة والآراء وهذه النحل والأهواء وإنما تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها لما تخفوه من فتنتها وحذروه من سوء مغبتها وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم لما هداهم الله به من توفيقهم وشرح به صدورهم من نور معرفته ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته وتوقيف السنة وبيانها غنى ومندوحة عما سواهما وأن الحجة قد وقعت بهما والعلة أزيحت بمكانهما فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة وقلت عنايتهم بها واعترضهم الملحدون بشبههم والمتحذلقون بجدلهم حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام ويدافعوهم بهذا النوع من الجدل لم يقووا ولم يظهروا في الحجاج عليهم فكان ذلك ضلة في الرأي وعيبا فيه وخدعة من الشيطان والله المستعان # فإن قال هؤلاء فإنكم قد أنكرتم الكلام ومنعتم استعمال أدلة العقول فما الذي تعتمدون في صحة أصول دينكم ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول وأنتم قد نفيتموها # قلنا إنا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف ولكن لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم واتباع الصانع ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بيانا وابين برهانا وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء فأما مثبتو النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المتعوجة التي لا يؤمن الغيب على راكبها والابتداع والانقطاع على سالكها # وبيان ما ذهب إليه السلف من أئمة المسلمين رحمة الله عليهم أجمعين والاستدلال على معرفة الصانع سبحانه وتعالى وإثبات توحيده وصفاته وسائر ما ادعى أهل الكلام أنه لا يتوصل إليه إلا من الوجه الذي يزعمونه هو أن الله سبحانه وتعالى لما أراد إكرام من هداه لمعرفته بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وقال له ^ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ^ وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع وفي مقامات له شتى وبحضرته عامة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ألا هل بلغت فكان ما أنزل الله تعالى وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه لقوله ^ اليوم أكملت لكم دينكم ^ فلم يترك صلى الله عليه وسلم شيئا من أمور الدين وقواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه إذ لا خلاف بين فرق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال فمعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تبرح فيهما الحاجة داعية أبدا في كل وقت وزمان ولو أخر فيها البيان لكان قد كلفهم مالا سبيل لهم إليه وإذا كان على ما قلت وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم من هذه الأمور إلى الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها إذ لا يمكن أحدا من الناس أن يروي في ذلك عنه ولا عن أحد من الصحابة من هذا النمط حرف واحد فما فوقه لا من طريق تواتر ولا آحاد علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذاهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم # قلت وهذا الكلام يشبه ما ذكره أبو الحسن الأشعري في رسالته ومضمون ذلك أن هذه الطريقة محدثة مبتدعة مستغنى عنها منهي عن سلوكها لذلك وليس فيه بيان أنها باطلة ولكون أمثال هؤلاء لا يعتقدون بطلانها في الباطن وإن نهوا عن سلوكها وقع منهم أقوال مبنية على بعض مقدماتها وإن خالفت النصوص والمعقول والذي عليه حذاق الأئمة والعلماء أنها طريقة باطلة كما يقول ذلك طوائف من أهل الكلام والفلاسفة وهذا الحفيد وإن بين بطلانها لكن طريقته في الباطن أبطل من هذه وإن سماها طريقة البرهان ولهذا لما فرغ من الرد على الأشعرية في هذه الطريقة وذكر طريقة ثانية لأبي المعالي وهي أن العالم جائز والجائز لا بد له من مخصص تكلم عليها بما ليس هذا موضعه # إلى أن قال فقد تبين لك من هذا كله أن الطرق المشهورة للأشعرية في السلوك إلى معرفة وجود الباري ليست طرقا نظرية يقينية ولا طرقا شرعية يقينية وذلك ظاهر لمن تأمل أجناس الأدلة المنبهة في الكتاب العزيز على هذا المعنى أعني معرفة وجود الصانع وذلك أن الطرق الشرعية إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين أحدهما أن تكون يقينية والثانية أن تكون بسيطة غير مركبة أعني قليلة المقدمات فتكون نتائجها قريبة من المقدمات الأول # قال وأما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طرقا نظرية أعني مركبة من مقدمات وأقيسة وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجردها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة على المطلوب ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كثيرة مثل قوله تعالى ^ واتقوا الله ويعلمكم الله ^ ومثل قوله تعالى ^ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ^ ومثل قوله تعالى ^ إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ^ إلى أشباه ذلك كثيرة يظن أنها عاضدة لهذا المعنى ونحن نقول إن هذه الطريقة وان سلمنا وجودها ليست عامة للناس بما هم ناس ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر ولكان وجودها بالناس عبثا والقرآن كله إنما هو دعاء إلى النظر والاعتبار وتنبيه على طرق النظر نعم لسنا ننكر أن تكون إماتة الشهوات شرطا في صحة النظر مثل ما تكون الصحة شرطا في ذلك لاأن إماتة الشهوات هي التي تفيد بذاتها وإن كانت شرطا فيها كما أن الصحة شرط في التعلم وإن كانت ليست مفيدة له ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملتها حثا أعني على العمل لا أنها كافية بنفسها كما ظن القوم بل أن كانت نافعة في النظرية فعلى الوجه الذي قلنا وهذا بين عند من أنصف واعتبر الأمر بنفسه # قال وأما المعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى ويشبه أن تكون طرقهم من جنس طرق الأشعرية # قال فإن قيل فإذا قد تبين أن هذه الطرق كلها ليست واحدة منها هي الطريقة الشرعية التي دعا الشرع منها جميع الناس على اختلاف فطرهم إلى الإقرار بوجود الباري سبحانه وتعلى فما هي الطريقة الشرعية التي نبه الكتاب العزيز عليها واعتمدتها الصحابة رضوان الله عليهم قلنا الطريق التي نبه الكتاب العزيز عليها ودعا الكل من بابها إذا استقرىء الكتاب العزيز وجدت تنحصر في جنسين أحدهما طريق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجلها ولنسم هذا دليل العناية والطريقة الثانية ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات مثل اختراع الحياة في الجماد والإدراكات الحسية والعقل والنسم هذا دليل الاختراع ثم تكلم على شرح كل واحد من الطريقين # قلت أما المعتزلة فطريقتهم هي طريقة الأعراض هم أهل هذه الطريقة وأشهر الطوائف بها وعنهم تلقاها من المعتزلة وبمثل هذه الطريقة ولوازمها كثر ذم السلف والأئمة في ما ذموه من الكلام ومن الجهمية فإنهم من أشهر الطوائف بهذا الكلام المبني على هذه الطريقة طريقة الأعراض والجواهر ومذهب الجهمية الذي هو نفي الصفات إذ البدع المضافة إلى الأشعرية هي تعلما من أصولهم وبذلك نعتهم من نعتهم من أهل الحديث والفقهاء والصوفية والفلاسفة أيضا كما ذكره أبو نصر في رسالته إلى أهل زبيد قال ولقد حكى لي محمد بن عبدالله المالكي المغربي وكان فقيها صالحا عن الشيخ أبي سعيد البيرقي وهو من شيوخ فقهاء المالكيين ببرقة عن أستاذه خلف المعلم وكان من فقهاء المالكية أنه قال الأشعري أقام أربعين سنة على الاعتزال ثم أظهر التوبة فرجع عن الفروع وثبت على الأصول قال أبو نصر وهذا كلام خبير بمذهب الأشعري وعودته # قلت وسبب هذا مقدمات هذه الحجة ونحوها حيث لم يبطلها وأبو الحسن الأشعري يذكر أن المعتزلة مع الفلاسفة كذلك كما ذكره في كتاب المقالات فقال الحمد لله الذي نظرنا خطأ المخطئين وعمى العمين وحيرة الحائرين الذين نفوا صفات رب العالمين وقالوا إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لا صفات له وأنه لا علم له ولا قدرة ولا حياة له ولا سمع له ولا بصر له عزة له ولا جلالة له ولا عظمة له ولا كبرياء له وكذلك قالوا في سائر صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه قال وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعا لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا قديم وعبروا عنه بأن قالوا عين لم تزل ولم يزيدوا على ذلك غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره فأظهروا معناه بنفيهم أن يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهره من ذلك ولأفصحوا به غير أن خوف السيف يمنعهم من إظهار ذلك وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الأيادي كان ينتحل قولهم فزعم أن الباري تعالى عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة ومنهم رجل يعرف بعباد بن سليمان يزعم أن الباري ليس بعالم قادر سميع بصير حليم خليل في حقيقة القياس وكذلك ذكره في الإبانة # وأما الفرقة الرابعة وهي الباطنية فلم يذكر لهم مقالة بعضها يرد وذلك لأنه منهم فإنه يرى أن ظواهر الشريعة في وصف الله تعالى واليوم الآخر له باطن يخالف ظاهره وأن فرض الجمهور اعتقاد ظاهره ومن تأوله فقد كفر وفرض الذين سماهم أهل البرهان اعتقاد باطنه ووجوب تأويله ومن لم يتأوله فقد كفر لكن قد ذكر عن الصوفية أنهم يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجردها عن العوارض الشهوانية ولم يرض هذه الطريقة بل ذكر أن إماتة الشهوات شرط في صحة النظر لا أنها تفيد المعرفة بذاتها وقد ذكر مثل هذا عن طائفة من الصوفية أنهم يرون في المعاد رأي الفلاسفة المشائين فتكون الصوفية معدودين عنده من الباطنية وإن كان اسم الباطنية يتناولهم عنده ويتناول الفلاسفة المشائين # وحقيقة الأمر أن اسم الباطنية قد يقال في كلام الناس على صنفين أحدهما من يقول إن للكتاب والسنة باطنا يخالف ظاهرها فهؤلاء هم المشهورون عند الناس باسم الباطنية من القرامطة وسائر أنواع الملاحدة وهم الذين عناهم هذا الفيلسوف # وهؤلاء في الأصل قسمان قسم يرون ذلك في الأعمال الظاهرة حتى في الصلاة والصوم والحج والزكاة وتحريم المحرمات من الفواحش والظلم والشرك ونحو ذلك فيرون أن الخطاب المبين لوجوب هذه الواجبات وتحريم المحرمات ليس هو على ظاهره المعروف عند الجمهور ولكن لذلك أسرار وبواطن يعرفونها كما يقولون الصلاة معرفة أسرارنا والصوم كتمان أسرارنا والحج الزيارة إلى شيوخنا المقدسين فهؤلاء زنادقة منافقون باتفاق سلف أئمة الإسلام ولا يخفى نفاقهم على من له بالإسلام أدنى معرفة ثم خواصهم لا يقولون برفع هذه الظواهر عن الجمهور بل يقولون برفعها عن الخاصة كما يقولون في الأمور العملية فإن من دفع أن يكون الخطاب العلمي مرادا به هذه الأعمال فهو للخطاب العملي أعظم دفعا وهذا الصنف يقع في القرامطة المظهرين للرفض ويقع في زنادقة الصوفية من الاتحادية الحلولية ويقع في غالية المتكلمة لكن هؤلاء قد يدعون تخصيص الخطاب العام الموجب للصلاة والزكاة والصيام والحج وإن كان ذلك كذبا معلوما بالاضطرار من دين الإسلام أنه باطل لا يدعون رفع حكم الخطاب مطلقا وأما عقلاء هذه الطائفة الباطنية مثل ابن رشد هذا وأمثاله فإنهم يقولون بالباطن المخالف للظاهر في العلميات وأما العمليات فيقرونها على ظاهرها وهذا قول عقلاء الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام مع أنهم في التزام الأعمال الشرعية مضطربون لما في قلوبهم من المرض والنفاق وتارة يرون سقوطها عنهم أو عن بعضهم دون العامة وابن سينا كان مضطربا في ذلك لكن له عهد قد التزم فيه موافقة الشريعة وهم في الجملة يرون موافقة الشريعة العملية أولى من مخالفتها وليس هذا موضع تفصيل مقالات الناس ولا يكاد تفصيل الباطل ينضبط # وأما القسم الثاني فالذين يتكلمون في الأمور الباطنة من الأعمال والعلوم لكن مع قولهم إنها توافق الظاهر ومع اتفاقهم على أن من ادعى باطنا يخالف الظاهر فهو منافق زنديق فهؤلاء هم المشهورون بالتصوف عند الأمة وهم في ما يتكلمون فيه من الأعمال الباطنة وعلم الباطن يستدلون على ذلك بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة كما يستدل بذلك على الأعمال الظاهرة وذلك في علم الدين والإسلام كما للإنسان بدن وقلب وهؤلاء من أعظم الناس إنكارا على من يخالف الظاهر ممن فيه نوع تجهم دع الباطنية الدهرية وهم أشد إيمانا بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا من غيرهم وأشد تعظيما للأعمال الظاهرة مع الباطنة من غيرهم # ولكن يوجد فيهم من جنس ما يوجد في بقية الطوائف من البدعة والنفاق مثل من قد يرى الاستغناء بالعمل الباطن عن الظاهر ومن يدعي أن للقرآن باطنا يخالف ظاهره ونحو ذلك من صنوف المنافقين والزنادقة فهؤلاء بالنسبة إلى الصوفية الذين هم مشائخ الطريقة الذين لهم في الأمة لسان صدق بالنسبة إلى المنافقين الزنلدقة ومن متكلمي الفلسفة ونحوهم موجودين في الفقهاء بالنسبة إلى الفقهاء الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدق فكما أن أولئك الأئمة الفقهاء برءاء من بدع أهل الكلام فضلا عن بدع الفلاسفة من الباطنية ونحوهم فكذلك المشائخ الصوفية برآء من بدع أهل التصوف فضلا عن من دخل فيهم من المتفلسفة وغيرهم فهذا أصل عظيم ينبغي معرفته # واعتبر ذلك بما ثبت مقبولا من أئمة المشائخ كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرحي والسري السقطي والجنيد بن محمد وسهل ابن عبدالله التستري وعمرة وبن عثمان المكي وخلائق قبل هؤلاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الذين ذكرهم أبو نعيم الأصبهاني في كتاب حلية الأولياء وذكرهم أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه صفوة الصفوة من المتقدمين والمتأخرين # فإن المصنفات في أخبار الزهاد ثلاثة أقسام # قسم جرد النقل لأخبار القرون المفضلة من الصحابة والتابعين ونحوهم كما ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله في كتابه المشهور في الزهد فإنه صنفه على الأسماء وذكر فيه زهد الأنبياء والصحابة والتابعين وإن كان آخرون من المصنفين في الزهد كعبدالله بن المبارك وهناد بن السري صنفوا ذلك على الأبواب # وقسم ذكروا أخبار الزهاد المتأخرين من حين حدث اسم التصوف كما فعل أبو عبدالرحمن السلمي في كتابه في طبقات الصوفية وكما فعل أبو القاسم القشيري في رسالته وابن خميس في مناقب الأبرار ونحو هؤلاء |
# وقسم ذكروا المتقدمين والمتأخرين كما فعل الحافظ أبو نعيم الأصبهاني وأبو الفرج ابن الجوزي وغيرهما # وهؤلاء المشائخ الموجودون في هذه الكتب ليس فيهم من هو معروف بإعتقاد مذهب الباطنية المخالف للظاهر بل لهم من الكلام في نقيض ذلك بل في رد البدع الصغار وحفظ الشريعة باطنا وظاهرا من الكلام والقوة في ذلك والموالاة عليه والمعاداة عليه مالا يوجد كثير منه للكثير من أئمة الفقهاء وحذاق الشيوخ أكثر عناية بالرد على الجهمية من كثير من حذاق الفقهاء لا سيما الكاملين في التصوف منهم وهم أهل الحديث كما كانوا يوصون الإنسان أن يكتب الحديث وإن تصوف فإن هؤلاء من أعظم الناس رعاية لما جاءت به الشريعة من الأقوال والأعمال ومحافظة على ما دل عليه ظاهرها مع تحقيق باطنها فيجمعون بين الظاهر والباطن # وأما ما حكاه عنهم حيث قال وأما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طريقة نظرية أعني من مقدمات وأقيسة وإنما يزعمون المعرفة بالله وبغيره من الموجودات بشيء يلقي في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالقلوب على المطلوب # فيقال هذه الأشياء إنما أخذها هذا من كلام أبي حامد فإنه كثيرا ما يذكر في كتبه أن الطريق إلى المعرفة هي هذا وهو يذكر ذلك في الكتب التي يذكر فيها المشائخ الصوفية كالإحياء وغيره ويذكر بعض ما في
النصوص والآثار وكلام المشائخ الصوفية من الدلالة على تأثير العمل الصالح في حصول العلم فظن هذا وأمثاله أن هذا مذهب الصوفية كما حكاه وليس الأمر على ما قالوه بل مشائخ الصوفية الذين لهم في الأمة لسان صدق متفقون على وجوب تعلم العلم الشرعي وتدبر كتاب الله والنظر فيما ذكره فيه من الآيات والأمثال المضروبة ومتفقون أيضا على النظر والاعتبار بما في المخلوقات من الآيات بل هم أعظم تجردا لكثير من النظر والاعتبار في الآيات المسموعة والآيات المشهودة من كثير من أهل الكلام والفقه وحالهم في ذلك أشهر عند من يعرفه من أن يحتاج إلى بسط # وأما أنهم يقولون إن مجرد ترك الشهوات والتجرد المحض يوجب معرفة ما جاءت به الرسل من غير نظر في ذلك وتدبر فهذا ليس طريق القوم الذين لهم في الأمة لسان صدق ولهذا وصيتهم بالعلم الشرعي والمحافظة عليه في الأصول الخبرية وفي الأعمال أعظم من أن يذكر هنا نعم فيهم ممن قد تجرد لبعض العبادات كالذكر ويوصون بذلك في الابتداء ليصفى به القلب ويثبت على الإسمان وينقطع عن الالتفاف إلى غير الله فليس ذلك مجرد ترك الشهوات بل نفس الذكر لله تعالى والاستحضار هو الذي يرقي النفس ويصلح القلب وينوره ويقويه ويثبته وإنما ترك الشهوات معين على ذلك أو شرط فيه لا أنها هي كل الطريق إذ الأمور العدمية لا تحصل بنفسها أمورا وجودية ولكن قد تكون شرطا في الأمور الوجودية # وأيضا فهم وغيرهم من أهل الكلام والفقه والحديث يقولون إن المعارف التي يزعم النظار أنها لا تحصل إلا بالقياس قد تحصل بالفطرة البديهية الضرورية عند ترك النفس هواها وتوجهها إلى طلب الحق وهذا والله أعلم هو أصل المعنى الذي قال عنهم لأجله ما قال ولكن هذا ليس كلام الصوفية وحدهم بل حذاق المتكلمين يوافقونهم على هذا حتى أبو عبدالله الرازي ونحوه فإنه قال في مسألة وجوب النظر لما ذكر أن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر فطالب المعارض بالدليل فقال من جهة نفسه الطريق إلى تحصيل العلم بالأشياء إما الحس أو الخبر أو النظر والأولان لا يكونان طريقين فتعين النظر وقال من جهة المعترض لا نسلم أن طريق تحصيل هذه المعارف هذه الطرق الثلاث فما الدليل عليه ثم إنا نبين ها هنا طريقا آخر وهو تصفية النفس عن العلائق الجسدانية والهيئات البدنية فإنها متى خلت عن هذه الأمور حصلت لها عقائد يقينية وهذا هو طريق الصوفية وأصحاب الرياضة فإنهم جازمون بما هم عليه من العقائد في المعارف الإلهية وأما أصحاب النظر فقل ما يحصل لهم مثل هذا الجزم وإذا كان كذلك فالرياضة إن لم تتعين طريقا إلى معرفة الله تعالى فلا أقل من أن تكون من جملة الطرق المفيدة لمعرفة الله فإذا كان كذلك بطل ما ذكرتموه من الحجة وقال في جواب هذا قوله لم لا يجوز أن تكون التصفية طريقا إلى اكتساب المعارف قلنا العقائد الحاصلة عن التصفية إما أن تكون ضرورية فلا يخلو إما أن تكون تلك العقائد بحال يلزم من زوالها شيء من العلوم النظرية أو لا يلزم فان لزم فتلك العلوم إنما حصلت مرتبة على تلك العلوم الضرورية ولا معنى للعلم النظري إلا ذلك وإن لم يلزم فتلك العقائد ليست إلا عقائد تقليدية ولا عبرة حينئذ بذلك فإن أمثال تلك العقائد قد تحصل لأصحاب الرياضة من المبطلين نحو اليهود والنصارى والدهرية # قلت وقد رأيت بخط القاضي أبي البيان أحمد بن محمد بن خلف المقدسي حكاية مضمونها أن الشيخ أحمد الخيوقي المعروف بالكبدي أخبره أنه دخل عليه إمامان من أئمة الكلام أحدهما أبو عبدالله الرازي والآخر من شيوخ المعتزلة الذين بتلك البلاد بلاد خراسان وخوارزم فقالا لي قال يا شيخ بلغنا أنك تعلم علم اليقين فقلت لهم نعم فقالا كيف تعلم علم اليقين ونحن نتناظر من وقت كذا إلى كذا كلما أقام دليلا أظنه قال على صحة الإسلام أفسدته وكلما أقمت دليلا أفسده وقمنا ولم يقدر واحد منا يقيم دليلا على الآخر فقال فقلت ما أدري ما تقولان أنا أعلم علم اليقين فقالا فصف لنا علم اليقين قال فقلت هو واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها وهذا الجواب مناسب لما يعلمانه من حد العلم الضروري فإن العلم الضروري هو الذي يلزم نفس المخلوق لزوما لا يمكنه الانفكاك عنه فبين أن اليقين الذي يحصل لنا أمر نضطر إليه يرد على قلوبنا لا نقدر على دفعه قال فقالا له كيف الطريق إلى هذه الواردات فدلهما على طريقة وهي الإعراض عن الشواغل الدنيوية والإقبال على ما يؤمر به من العبادات والزهد قال فقال الرازي أنا لا يمكنني هذا فإن لي تعلقات كثيرة وأما المعتزلي فقال أنا محتاج إلى هذه الواردات فقد أحرقت الشبهات قلبي فأخبره الشيخ بما يعمله من الذكر والخلوة فتعبد مدة فلما خرج من الخلوة قال يا سيدي والله ما الحق إلا ما يقوله هؤلاء المشبهة هذا معنى الحكاية أو نحو ذلك وذلك أن المعتزلة يسمون من أثبت الصفات مشبها وكان يعتقد النفي لا يرى أن الخالق يتوجه إليه القلب إلى جهة فوق ولا نحو ذلك فلما خلا قلبه من تلك العقائد والأهواء التي هي ^ الظن وما تهوى الأنفس ^ حصل له بالفطرة علوم ضرورية توافق قول المثبتة # ومع هذا فالمشائخ الصوفية العارفون متفقون على أن ما يحصل بالزهد والعبادة والرياضة والتصفية والخلوة وغير ذلك من المعارف متى خالف الكتاب والسنة أو خالف العقل الصريح فهو باطل ومن زعم من المنتسبين إليهم أنهم يجدون في الكشف ما يناقض صريح العقل أو أن أحدهم يرد عليه أمر يخالف الكتاب والسنة بحيث يكون خارجا عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره أو أنه يحصل له علم مفصل بجميع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به فهو عندهم ضال مبطل بل زنديق منافق لا يجوزون قط طريقا يستغنى به عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به الرسول ويأمر به فضلا عن أن يسوغ له مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره وخبره وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع ولو جاز ذلك لأحد لكان مثل الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكن محتاجا إلى متابعته في خبره وأمره وهذه حال الذين ^ إذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ^ وقال تعالى ^ أيطمع كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ^ # ولكن هؤلاء الضالون المنافقون منهم المسوغون للاستغناء عن الرسول بكشفهم أو مشاهدتهم أو لمخالفته بخاصة انفردوا بها عن جميع المؤمنين هم في ذلك بمنزلة كثير من أهل الكلام الظانين أنهم يصلون بالأدلة العقلية إلى ما يستغنون به عن الرسول وأنهم يدركون بمقاييسهم العقلية نقيض ما أخبر به الرسول وهذه الزندقة والنفاق في الطائفتين هي من حال المتفلسفة والباطنية ونحو هذه الأصناف المعروفين بالنفاق # وأما قوله ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملة ما حث أعني على العمل لا أنها كافية بنفسها كما ظن القوم بل إن كانت نافعة في النظرية فعلى الوجه الذي قلنا # فيقال الشارع لم يأمر بالأعمال لمجرد كونها معينة للنظر على حصول العلم بل هذا إنما يظنه هؤلاء المتفلسفة ونحوهم من المبطلين الذين يظنون أن غاية الكمال الإنساني المطلوب هو أن يكون الإنسان عالما وهذا في الجهل كما قد بسطناه في غير هذا الموضع بل مقدمهم الجهم بن صفوان لما ادعى أن المعرفة في القلوب تنفع وإن لم يكن معها عمل أطلق غير واحد من الأئمة كوكيع بن الجراح وغيره تكفير من يقول ذلك فكيف بمن يقول إنها المقصودة فقط وما سواها وسيلة هذا لعمري لو كان مقصودهم المعرفة التي دلت عليها الرسل فكيف وهم يعنون بالمعرفة عقائد أكثرها باطلة مناقضة للشرع والعقل بل كل واحد من علم القلب وعمله الذي أصله محبة القلب هو أمر مأمور به مقصود للشارع فالعلم بمنزلة السبب والأصل يوجب المحبة والإرادة وطلب المحبوب المعبود ثم كلما ازداد العبد معرفة ازداد محبة وكلما ازداد محبة ازداد عبادة والمطلوب المقصود الذي هو الغاية هو الله سبحانه وأن يكون العبد عابدا له قال تعالى ^ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ^ وليست عبادته مجرد الأعمال البدنية بل أصل العبادة معرفته وكمال محبته وكمال تعظيمه وهذه الأمور تصحبه في الدار الآخرة فكل من النظر والعمل مأمور به مقصود للشارع وكل منهما معين للآخر وشرط في حصول المقصود بالآخر فإن الناظر مع سوء قصده وهواه لا يحصل له المطلوب لا من العلم ولا من العمل والعابد مع فساد نظره لا يحصل له المقصود لا من العلم ولا من العمل بل كلاهما واجب لنفسه وشرط للآخر فلا بد من سلوك الطريقين معا ليس ذلك في وقت واحد ولا بد أن يكون ذلك جميعه موافقا لما أخبر به الرسول ولما أمر به فإذا حصل هذا وهذا كان العبد من الذين هم على هدى من ربهم الذين هم المفلحون وإلا كان من المغضوب عليهم أو الضالين مثل من اقتصر على النظر دون العمل أو على العمل دون النظر أو جمعهما وأعرض عن كون نظره وعمله على الوجه المشروع المأمور به فكيف بمن كان له نظر مجرد غير شرعي كحال كثير من المتفلسفة والمتصوفة فهذا هذا والله أعلم # ولا ريب أن من أشهر مشائخ الصوفية وأعظمهم عندهم وعند العامة في عصر أبي المعالي الجويني هو شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري وأحوالهم سعد بن علي الزنجاني وأمثالهما فالينظر ما ذكر هؤلاء في مصنفاتهم ولهذا كانت هذه الحجة التي جعلها المتكلمون الجهمية الدين وهي حجة الأعراض مستلزمة في الحقيقة لحدوث الرب وتعطيله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وكان في المعتزلة أخذها من أخذها من الأشعرية وكان بينها وبين مذهب الدهرية من الملازمة ما تؤل إليه كما نبهنا عليه تكلم الناس بذلك حتى قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبدالله بن محمد الأنصاري في كتابه المشهور في ذم الكلام وأهله ولما نظر المبرزون من علماء الأمة وأهل الفهم من أهل السنة طوايا كلام الجهمية وما ادعته من أمور الفلاسفة ولم يقف فيها إلا على التعطيل البحت وإن قطب مذهبهم ومنتهى عقدتهم ما صرحت به رؤوس الزنادقة قبلهم إن الفلك دوار والسماء خالية وأن قولهم إنه تعالى في كل موضع وفي كل شيء ما استثنوا جوف كلب ولا جوف خنزير ولا حشا فرارا من الإثبات وذهابا عن التحقيق فإن قولهم سميع بلا سمع بصير بلا بصر عليم بلا علم قادر بلا قدرة إله بلا نفس ولا شخص ولا صورة ثم قالوا لا صورة له ثم قالوا لا شيء فإنه لو كان شيئا لا أشبه الأشياء حاولوا حول مقال رؤوس الزنادقة القدماء إذ قالوا الباري لا صفة ولا لا صفة خفوا على قلوب ضعفى المسلمين وأهل الغفلة وقلة الفهم منهم إذ كان ظاهر تعلقهم القرآن وإن كان اعتصاما به من السيف واجتنابا به منهم وإذ هم يوردون التوحيد ويخادعون المسلمين ويحملون الطيالسة فافتضحوا بمعايبهم وصاحوا بسوء ضمائرهم ونادوا على خبايا نكتهم فيا طول ما لقوا في أيامهم من سيوف الخلفاء وألسن العلماء وهجران الدهماء فقد شحنت كتاب تكفير الجهمية من مقالات علماء المسلمين فيهم ودأب الخلفاء فيهم ودق عامة أهل السنة عليهم وإجماع المسلمين على إخراجهم من الملة فعلت عليهم الوحشة وطالت عليهم الذلة وأعيتهم الحيلة إلا أن يظهروا الخلاف لأوليهم والرد عليهم ويصبغوا كلامهم صبغا تكون ألوح للأفهام وأنجع في العوام من أساس أوليهم تحدوا بذلك المساغ ليتخلصوا من خزي الشناعة فجاءت بمخاريق ترائا للعين بغير ما في الحشايا ينظر الناظر الفهم في جذرها فيرى مخ الفلسفة يكسى لحاء السنة وعقد الجهمية تنحل ألقاب الحكمة يردون على اليهود قولهم ^ يد الله مغلولة ^ فينكرون الغل وينكرون اليد فيكونون أسوء حالا من اليهود لأن الله تعالى أثبت الصفة ونفى النعت واليهود أثبتت الصفة والنعت وهؤلاء نفوا الصفة كما نفوا النعت # ويردون على النصارى في مقالهم في عيسى وأمه فيقولون لا يكون في المخلوق إلا المخلوق فيبطلون القرآن فلا يخفى على ذوي الألباب أن كلام أولهم وكلام آخرهم كخيط السبحانة فاسمعوا الآن يا ذوي الألباب وانظروا ما فضل هؤلاء على أولئك قالوا قبح الله مقالتهم أن الله موجود بكل مكان وهؤلاء يقولون ليس هو في مكان ولا يوصف بأين وقد قال المبلغ عن الله لجارية معاوية ابن الحكم رضي الله عنه أين الله وقالوا هو من فوق كما هو من تحت لا يدرى أين هو ولا يوصف بمكان وليس هو في السماء وليس هو في الأرض وأنكروا الجهة والحيز وقال أولئك ليس له كلام إنما خلق كلاما وهؤلاء يقولون تكلم مرة فهو متكلم به منذ تكلم لم ينقطع الكلام ولا يوجد كلامه في موضع ليس هو به ثم يقولون ليس هو في مكان # ثم قالوا ليس له صوت ولا حرف وقالوا هذا ثاج وورق وهذا صوف وخشب وهذا إنما قصد به النفس وأريد به النفس وهذا صوت القاري أما ترى منه حسا وغير حس وهذا لفظه أو ما نراه مجازا به حتى قال رأس رؤوسهم أو يكون قرانا من لبد وقال آخر من خشب فراوغوا فقالوا هذا حكاية عبر بها عن القرآن والله تعالى تكلم مرة ولا يتكلم بعد ذلك ثم قالوا غير مخلوق |
ومن قال مخلوق كافر وهذا من فخوخهم يصطادون به قلوب عوام أهل السنة وإنما اعتقادهم القرآن غير موجود لفظية الجهمية الذكور بمرة والأشعرية الإناث بعشرة مرات # وأولئك قالوا لا صفة وهؤلاء يقولون وجه يقال وجه النهار ووجه الأمر ووجه الحديث وعين لعين المتاع وسمع كأذن الجدار وبصر كما يقال جداراهما يتراءيان ويد ليد المنة والعطية والأصابع كما يقال خراسان هي أصبعي الأمير والقدمين كقولهم جعلت الخصومة تحت قدمي والقبضة كما قيل فلان في قبضتي أنا مالك أمره وقال الكرسي القلم والعرش الملك والضحك الرضا والاستواء الاستيلاء والنزول القرب والهرولة مثله فشبهوا من وجه وأنكروا من وجه وخالفوا السلف وتعدوا الظاهر وردوا الأصل ولم يثبتوا شيئا ولم يبقوا موجودا # ولم يفرقوا بين التفسير والعبارة بالألسنة فقالوا لا نفسرها نجريها عربية كما وردت وقد تأولوا تلك التأويلات الخبيثة أرادوا بهذه المخرقة أن يكون عوام المسلمين أبعد عيابا عنها وأعيا ذهابا منها ليكونوا أوحش عند ذكرها وأشمش عند سماعها وكذبوا بل التفسير أن يقال وجه ثم لا يقال كيف وليس كيف في هذا الباب من مقال المسلمين فأما العبارة فقد قال الله ^ وقالت اليهود يد الله مغلولة ^ وإنما قالوها بالعبرانية وكان يكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبا بالعربية فيها أسماء الله وصفاته فيعبر بالألسنة عنها ويكتب إليه بالسريانية فيعبره له زيد بن ثابت رضي الله عنه بالعربية والله تعالى يدعي بكل لسان باسمه فيجيب ويحلف بها فيلزم وينشد فيجاز ويوصف فيعرف
# ثم قالوا ليس ذات الرسول بحجة وقالوا ما هو بعد ما مات بمبلغ فلا تلزم به الحجة فسقط من أقاويلهم على ثلاثة أشياء أنه ليس في السماء رب ولا في الروضة رسول ولا في الأرض كتاب كما سمعت يحيى بن عمار رحمه الله يحكم به عليهم وإن كانوا موهوها ووروا عنها أو استوحشوا من تصريحها فإن حقائقها لازمة لهم وأبطلوا التقليد فكفروا آباءهم وأمهاتهم وأزواجهم وعوام المسلمين وأوجبوا النظر في الكلام واضطروا إليه الدين بزعمهم فكفروا السلف وسموا الأثبات تشبيها فعابوا القرآن وضللوا الرسول صلى الله عليه وسلم فلا تكاد ترى منهم رجلا ورعا ولا للشريعة معظما ولا للقرآن محترما ولا للحديث موقرا سلبوا التقوى ورقة القلب وبركة التعبد ووقار الخشوع واستفضلوا الرسول بالنظر فلا هو طالب ثاره ولا متتبع أخباره ولا متأصل عن سنته ولا هو راغب في أسوته يتقلد مرتبة العلم وما عرف حديثا واحدا تراه يهزأ بالدين ويضرب له الأمثال ويلعب بأهل السنة ويخرجهم أصلا من العلم لا تنفذلهم عن بطانة إلا خانتك ولا عن عقيدة إلا رابتك لبسوا ظلة الهوى وسلبوا هيبة الهدى فتنبو عنهم الأعين وتشمئز منهم القلوب # وقد ذكر قبل ذلك باب تعظيم من سن سنة سيئة أو دعا إليها وذكر الأحاديث في هذا الباب ثم ذكر حديثا رواه من حديث عثمان بن سعيد حدثنا يحيى بن الحماني حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح حدثني أبو صخر حميد بن زياد أن نافعا أخبره عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سيكون في أمتى مسخ وذلك في قدرية وزندقية قال فلم يكن بد أن يكون ما قال هو كائن كائنا فلم يظهر شيء من ذلك حتى قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ظلما وهي إحدى مصيبتي هذه الأمة اللتين لا ثالث لهما توازنهما التي ثانيتها فتنة الدجال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي في الحديث أنه من نجا من ثلاث موتي وقتل خليفة مضطهد بغير حق والدجال فلما قتل ذو النورين كرم الله وجهه ورضي عنه بين ظهراني المسلمين في الشهر الحرام وفي حرم الرسول عليه السلام بأعين المسلمين وانشقت العصا وتفرقت الجماعة تشامست الأعين وتجادلت الأنفس واختلفت الآراء وتباعدت القلوب وساءت الظنون واشتعلت الريب واستقرت التهم وجدت كل فتنة فرصتها فلفضت غصتها واشتغل الرعآء وأسلم النشا وتزاحف أئمة الهدى رغبة في زهرة الدنيا فأخذت الغواة أزمة الضلالة فتهوشت لها قلوب أهل الغفلة ممن أظهر في المسلمين من زيغ الدين الكلام في التوحيد تكلفا وهي الزندقة الأولى وهي ثلاث قواعد نجم بعضها على إثر بعض الأولى منها القول بالقدر وهي فتنة البصرة ثم نصب السلف وهي فتنة الكوفة ثم إنكار الكلام لله وهي فتنة المشرق # وأما فتنة القدر فأول من تكلم بها معبد الجهني رجل من البصرة وكان عنده حظ من العلم يقال له معبد بن خالد ويقال معبد بن عبدالله ابن عويمر مات بعد الهزيمة وكان يومئذ مع الأشعث وأصابته جراحة وهو أول من تكلم بالقدر وهو الذي تبرأ منه عبدالله بن عمر بن الخطاب فتكلم عليه عمرو بن عبيد وجادل به غيلان وغيلان هو ابن أبي غيلان أبو مروان من موالي عثمان بن عفان وكان عنده حظ من العلم تكلم به أمام عبدالملك بن مروان واستتابه عمر بن عبدالعزيز ثم ظهر منه تكذيب التوبة وصلب على باب الشام بأخزى حالة لقيها بشر قصته قد تقصيتها في كتاب تكفير الجهمية # وأما عمرو بن عبيد وهو عمرو بن عبيد بن كيسان بن ثابت مولى بني تيم البصري مات سنة ثلاث وأربعين ومائة ومات في طريق مكة فإنه أول من بسط لسانه وأصبح رأسه ونظم له كلاما ونصبه إماما ودعا إليه ودل عليه فصار مذهبا يسلك وهو امام الكلام وداعية الزندقة الأول ورأس المعتزلة سمي به لاعتزال حلقة الحسن البصري وهو الذي لعنه إمام أهل الأثر مالك بن أنس الأصبحي وإمام أهل الرأي النعمان بن ثابت الكوفي أبو حنيفة وحذر منه إمام أهل المشرق عبدالله بن المبارك الحنظلي وقد قدمنا أسانيد تلك الأقوال فسلط الله عليه وعلى من استتبع واخترع سيفا من سيوف الإسلام وهو أبو بكر أيوب بن أبي تميمة السختياني واسم أبيه كيسان من أهل البصرة فهتك أستاره وأظهر عواره ووسمه باللعنة وألحق به بلاء تلك الفتنة وهو الذي يقول قتيبة بن سعيد إذا رأيت الرجل من أهل البصرة يحب أيوب فاعلم أنه على الطريق وقال رجل لأحمد بن حنبل من السني قال من أين أنت قال من أهل البصرة قال أتحب أيوب السختياني قال نعم قال سني قلت هذه قصة أهل البصرة # وأما قصة غيلان فظهرت بليته بالشام وافتتن بها ثور بن يزيد ومكحول الفقيه وجماعة من أهل العلم بتلك الناحية فسلط الله عز وجل عليهم ريحانة أهل الشام أبا عمرو عبدالرحمن بن عمر بن محمد الأوزاعي فلحظهم بالصغار ووضعهم من المقدار وبسط عليهم لسانا أعطي بيانا وظن عليهم ببشارة الوجه وطلاقة اللقاء حتى ذل به الأعزة في سبيل الضلالة وعز به الأذلة في سبيل السنة بحمد الله رب العالمين ومنه # وأما فتنة نصب السلف فإن الكوفة دارها التي خرجتها ثم طار في الآفاق شررها واستطار فيها ضررها وإنما هاجتها أحلام فيها ضيق وأشربتها قلوب فيها حمق ولها عروق خفية السلامة للقلوب في ترك إظهار بعضها وأربابها أحمق خلق الله تعالى عرضت تساوي بين علي بن أبي طالب وبين أبي بكر وعمر ثم أخذت تفضله عليهما ثم جعلت توليه عليهما وتخاصمهما له وتظلمهما وتوليه حقهما بالقياس العقلي ترفعه ببنت الرسول صلى الله عليه وسلم وسبت الكهول رضي الله عنهما ثم جاءت تعذله بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وتشركه في وحي السماء ثم خطاب جبريل في نزوله فخلت الأمة من النبوة وأحوجتها إلى علي رضي الله عنه ثم ادعت الألوهية ثم ادعتها لولده قال الإمام الشعبي لو كانوا دوابا لكانوا حمرا ولو كانوا طيرا لكانوا رخما فاستظهرت بهؤلاء الغالية أرباب القلوب المريضة فتظاهرت على نصب السلف الصالح الذين هم الناقلون وفيهم قانون الدين وديوان الملة فترى أمثلهم طريقة وأصوبهم وثيقة من يتستر بفضائل علي رضي الله عنه ويربأ به عن منزله الذي أنزله الله تعالى من الشرف ثم روى من طريق أبي العباس بن عقدة حدثني عبدالله بن أحمد بن حنبل قال قرأت على أبي حدثنا أبو الحباب عن عبدالأعلى هو ابن عامر الثعلبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا تصلح الصلاة إلا على النبي صلى الله عليه وسلم فلما تعاون أولئك الغواة بتك الضلالة وتعاونت عليها قيض الله لها إماما جعله حساما وهو أبو محمد عبدالله بن إدريس الأودي فصرح بقدحهم ودفع في نحرهم فنادى على خباياهم وأودى عن خفاياهم فلم تكابد الأمة من شؤم شيء ما كابدت من شؤم تلك الفتنة لم يكد قلب مسلم يسلم شوب منها إلا من رحم ربك فعصم # وأما فتنة إنكار الكلام لله عز وجل فأول من بدعها جعد بن درهم فلما ظهر جعد قال الزهري وهو أستاذ أئمة الإسلام حينئذ ليس الجعدي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورواه بإسناده من طريق ابن أبي حاتم فأخذ منه جهم بن صفوان هذا الكلام فبسطه وطراه ودعا إليه فصار به مذهبا لم يزل هو يدعو إليه الرجال وامرأته زهرة تدعو إليه النساء حتى استهويا خلقا من خلق الله كثيرا فأما الجعد فكان جذري الأصل فيما أخبرنا وأسنده عن قتيبة بن سعيد ولكن جهم بسط ذلك المذهب وتكلم فيه وهو صاحب ذلك المذهب الخبيث وكانوا حذروه فيما أخبرناه وأسند ذلك من طريق ابن أبي حاتم إلى مقاتل بن حيان قال دخلت على عمر بن عبدالعزيز فقال من أين أنت قلت من أهل بلخ قال كم بينك وبين النهر قلت كذا فرسخا قال هل ظهر من وراء النهر رجل يقال له جهم قلت لا قال سيظهر من وراء النهر رجل يقال له جهم يهلك خلقا من هذه الأمة يدخله الله وإياهم النار مع الداخلين فأما الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبدالله القسري على رؤوس الخلائق وماله يومئذ نكير وذلك سنة نيف وعشرين ومائة وأما الجهم وكان بمرو فكتب هشام بن عبدالملك إلى واليه على خراسان نصر بن سيار يأمره بقتله فكتب إلى سلم بن أحوز وكان على مرو فضرب عنقه بين نظارة أهل العلم وهم يحمدون ذلك فهذه قصة فتنة أهل المشرق بها بسطت ومهدت ثم سارت في البلاد فقام لها ابن أبي داود وبشر بن غياث فملآ الدنيا محنة والقلوب فتنة دهرا طويلا فسلط الله تعالى عليهم علما من أعلام الدين أوتي صبرا في قوة اليقين أبا عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني فشد المئزر وأبى الفتنة وجاد بالدنيا وظن بالدين وأعرض عن الغضاضة على طيب العيش ولم يبال في الله حقه الأقران ونسي قلة الأعوان حتى هد ما شدوا وقد ما مدوا # فأما قول الطائفة التي قالت بالقدر فأرادت منازعته في الربوبية أو وقعت فيها فضاهت المجوس الأولى فهم الزنادقة التي كانت تشوش على الأولين دينهم ولعنهم الله تعالى على لسان سبعين نبيا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا آخرهم # وأما الذين قالوا في السلف الصالح بالقول السيء فأرادت القدح في الناقل لأن القدح في الناقل إبطال للمنقول فأرادوا إبطال الشرع الذي نقلوا وإنما تعلقوا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه تسلحا وروى عن أبي ربيع الزهراني قال كان من هؤلاء الجهمية عندنا رجل كان يظهر من ذاته الترفض وانتحال حب علي رضي الله عنه فقال له رجل ممن يخالطه ويعرف مذهبه قد علمت أنكم لا ترجعون إلى دين الإسلام ولا تعتقدونه فما الذي حدا بكم على الترفض وحب علي قال إذا أصدقك إن أظهرنا الذي نعتقده رمينا بالكفر والزندقة وقد وجدنا أقواما ينتحلون حب علي ويظهرونه ويقعون بمن شاوا فنسبوا بذلك إلى الرفض والتشيع ويقعون ما شاوا ويقولون ما شاوا وقد حبس الخليفة رجلا في الزندقة فدخل عليه رجل فقال له قد كنا نعرفك بسبب الصحابة والرفض فما خرج بك إلى الزندقة فقال ما بلغماي أو ما جنى علي أبو بكر وعمر لولا بغض صاحبهما قال وقد صدق ما رأيت من رجل يزن بشيء من الرفض إلا كانت تخرج من فيه أشياء لا تشبه كلام المسلمين # وأما الذين قالوا بإنكار كلام الله عز وجل فأرادوا إبطال الكل لأن الله تعالى إذا لم يكن على زعمهم الكاذب متكلما بطل الوحي وارتفع مر والنهي وذهبت الملة عن أن تكون سمعت فلا يكون جبريل عليه السلام سمع ما بلغ ولا الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها بعد فيبطل التكلم والسمع والتقليد وتبقى العقول الذي به قاموا وهذا قول عثمان بن سعيد أن جهما إنما بنى زندقته على نفي الكلام لله عز وجل فهذه القواعد الثلاث أبنية الزندقة الأولى وهم الزنادقة الذكور كما سمعت يحيى بن عمار يقوله وروى بإسناده عن زر بن صالح السدوسي قال قلت لجهم بن صفوان هل نطق الرب قال لا قلت فينطق قال لا قلت فمن يقول ^ لمن الملك اليوم ^ ومن يرد عليه ^ لله الواحد القهار ^ فقال لا أدري زادوا في القرآن ونقصوا # ثم قال باب في كلام الأشعري وذكر ما قدمناه عنه وذكر قبل هذا قال سمعت عدنان بن عبدة النميري يقول سمعت أبا عمر البسطامي كان أبو الحسن الأشعري أولا ينتحل الاعتزال ثم رجع فتكلم عليهم وإنما مذهبه التعطيل إلا أنه رجع من التصريح إلى التمويه وقال سمعت أحمد بن أبي نصر يقول رأينا محمد بن الحسين السلمي يلعن الكلابية قال وسمعت عبدالرحمن بن محمد بن الحسن يقول وجدت أبا حامد الإسفرائيني وأبا الطيب الصعلوكي وأبا بكر القفال المروزي وأبا منصور الحاكم على الإنكار على الكلام وأهله قال وسمعت عبدالواحد بن ياسين المؤدب أبا جعفر يقول رأيت بابين قلعا من مدرسة أبي الطيب بأمره في شيء شائن حضر أبا بكر بن فورك فصل # وأصل هؤلاء المتكلمين من الجهمية المعتزلة ومن وافقهم الذي بنوا عليه هذا هو مسألة الجوهر الفرد فإنهم ظنوا أن القول بإثبات الصانع وبأنه خلق السموات والأرض وبأنه يقيم القيامة ويبعث الناس من القبور لا يتم إلا بإثبات الجوهر الفرد فجعلوه أصلا للإيمان بالله واليوم الآخر أما جمهور المعتزلة ومن وافقهم كأبي المعالي وذويه فيجعلون الإيمان بالله تعالى لا يحصل إلا بذلك وكذلك الإيمان باليوم الآخر إذ كانوا يقولون لا يعرف ذلك إلا بمعرفة حدوث العالم ولا يعرف حدوثه إلا بطريقة الأعراض وطريقة الأعراض مبنية على أن الأجسام لا تخلو منها وهذا لم يمكنهم أن يثبتوه إلا بالأكوان التي هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون فعلى هذه الطريقة اعتمد أولوهم وآخروهم حتى القائلين بأن الجواهر لا تخلو عن كل جنس من أجناس الأعراض وعن جميع أضداده إن كان له أضداد وإن كان له ضد واحد لم يخل الجوهر عن أحد الضدين وإن قدر عرض لا جنس له لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه إذا لم يمنع مانع من قبوله فإن هذا أبلغ الأقوال وهو قول الأشعري ومن وافقه كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم فإنه لم يمكنهم أن يثبتوا أن الجسم لا يخلو من الأعراض إلا بالأكوان ثم عند التحقيق لم يمكنهم أن يثبتوا ذلك إلا بالاجتماع والافتراق فإن منهم من يقول السكون أمر عدمي ومنهم من يقول الكون الذي هو الحركة والسكون إنما يلزم إذا كان الجسم في مكان فأما إذا لم يكن في مكان فيجوز خلوه عن الحركة والسكون كما يقوله طوائف كالذين قالوا ذلك من الكرامية فآل الأمر بهذه الطريقة إلى الاجتماع والافتراق وعلى ذلك اعتمد أبو المعالي ومعلوم أن قبول الاجتماع والافتراق لم يمكنهم حتى يثبتوا أن الجسم يقبل الاجتماع والافتراق وذلك مبني على أنه مركب من الأجزاء التي هي الجواهر المنفردة فصار الإقرار بالصانع مبنيا عند هؤلاء المتكلمين على إثبات الجوهر الفرد # ثم الذين ذكروا أن لهم طريقا إلى إثبات الصانع غير هذه كأبي عبدالله الرازي وغيره وهو الذي عليه أبو الحسن الأشعري وغيره من الحذاق قال من قال من هؤلاء إن إثبات المعاد موقوف على ثبوت الجوهر الفرد وهذا قول أبي عبدالله الرازي وغيره وهو مخلص من جعله الأصل في الإيمان بالله فجعله هو الأصل في الإيمان بالمعاد مع كونه يجعله أصلا في نفي الصفات التي ينكرها كما سيأتي بيانه قال في أكبر كتبه الكلامية الذي سماه نهاية العقول في الأصل السابع عشر # اعلم أن معظم الكلام في المعاد إنما يكون مع الفلاسفة |
ولهم أصول يفرعون شبههم عليها فيجب علينا إيراد تلك الأصول أولا ثم الخوض بعدها في المقصود فلا جرم رتبنا الكلام في هذا الأصل على أقسام ثلاثة القسم الأول في المقدمات وفيه ثمان مسائل المسألة الأولى في الجزء الذي لا يتجزأ لا شك في أن الأجسام التي شاهدناها قابلة للانقسامات والانقسامات التي يمكن
حصولها فيها إما أن تكون متناهية أولا تكون فيخرج من هذا القسم أقسام أربعة أولها أن تكون الانقسامات حاصلة وتكون متناهية وثانيها أن تكون حاصلة وتكون غير متناهية وثالثها ألا تكون حاصلة ولكن ما يمكن حصوله منها تكون متناهية ورابعها أن تكون حاصلة ولكن ما يمكن حصوله منها تكون غير متناهية والأول مذهب جمهور المتكلمين والثاني هو مذهب النظام والثالث هو مذهب بعض المتأخرين والرابع هو مذهب الفلاسفة فتخلص من هذا أن الخلاف بيننا وبين الفلاسفة في هذه المسألة يقع في مقامين أحدهما أن الجسم مع كونه قابلا للانقسام هل يعقل أن يكون واحدا ثانيهما أنه بتقدير أن يكون واحدا هل يعقل أن يكون قابلا للانقسامات غير المتناهية # وأعجب من هذا أنهم يجعلون إثبات الجوهر الفرد دين المسلمين حتى يعد منكره خارجا عن الدين كما قال أبو المعالي وذووه اتفق المسلمون على أن الأجسام تتناهى في تجزيها وانقسامها حتى تصير أفرادا وكل جزء لا يتجزأ ولا ينقسم وليس له طرف واحد وجزء شائع ولا يتميز وإلى هذا صار المتعمقون في الهندسة وعبروا عن الجزء النقطة فقالوا النقطة شيء لا ينقسم وصار الأكثرون من الفلاسفة إلى أن الأجسام لا تتناهى في تجزيها وانقسامها وإلى هذا صار النظام من أهل الملة ثم اعترفوا بأنه تنتهي قسمتها بالفعل ولا تنتهي قسمتها بالقوة ويعنون بالقوة صلاحية الجزء للانقسام # والعجب أنهم اتفقوا على أن الأجرام متناهية الحدود والأقطار منقطعة الأطراف والأكتاف وكذلك على كل جملة ذات مساحة فإن لها غايات ومنقطعات بالجهات ثم قضوا بأنها تنقسم أجزاء بلا نهاية والجملة المحدودة كيف تنقسم أجزاءا لا تتناهى ولا يحاط بها # قلت والكلام في ذلك من وجهين # أحدهما أنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين لم يبنوا شيئا من أمر الدين على ثبوت الجوهر الفرد ولا انتفائه وليس المراد بذلك أنهم لم ينطقوا بهذا اللفظ فإنه قد تجدد بعدهم ألفاظ اصطلاحية يعبر بها عما دل عليه كلامهم في الجملة وذلك بمنزلة تنوع اللغات وتركيب الألفاظ المفردات وإنما المقصود أن المعنى الذي يقصده المثبتة والنفاة بلفظ الجوهر الفرد لم يبن عليها أحد من سلف الأمة وأئمتها مسألة واحدة من مسائل الدين ولا ربطوا بذلك حكما علميا ولا عمليا فدعوى المدعى انبناء أصل الإيمان بالله واليوم الآخر على ذلك يضاهي دعوى المدعي أنما بينوه من الإيمان بالله واليوم الآخر ليس هو على ما بينوه بل إما أنهم ما كانوا يعلمون الحق أو يجوزوا الكذب في هذا الباب لمصلحة الجمهور كما يقول نحو ذلك من يقوله من المنافقين من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم من الباطنية فإنهم إذا أثبتوا من أصول الدين ما يعلم بالاضطرار أنه ليس من أصول الدين لزم قطعا تغيير الدين وتبديله وبهذا زاد أهل هذا الفن في الدين ونقصوا منه علما وعملا وإذا كان كذلك لم يكن الخوض في هذه المسألة مما يبنى الدين عليه بل مسألة من مسائل الأمور الطبيعية كالقول في غيرها من أحكام الأجسام الكلية # وأيضا فإنه أطبق أئمة الإسلام على ذم من بنى دينه على الكلام في الجواهر والأعراض ثم هؤلاء الذين ادعوا توقف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر على ثبوته قد شكوا فيه وقد نفوه في آخر عمرهم كإمام المتأخرين من المعتزلة أبي الحسين البصري وإمام المتأخرين من الأشعرية أبي المعالي الجويني وإمام المتأخرين من الفلاسفة والمتكلمين أبي عبدالله الرازي فإنه في كتابه بعد أن بين توقف المعاد على ثبوته وذكر ذلك غير مرة في أثناء مناظرته للفلاسفة قال في المسألة لما أورد حجج نفاة الجوهر الفرد فقال وأما المعارضات التي ذكروها واعلم أنا نميل إلى التوقف في هذه المسألة بسبب تعارض الأدلة فإن إمام الحرمين صرح في كتاب التلخيص في أصول الفقه أن هذه المسألة من محارات العقول وأبو الحسين البصري هو أحذق المعتزلة توقف فيها فنحن أيضا نختار التوقف فأي ضلال في الدين وخذلان له أعظم من مثل هذا # الوجه الثاني دعواهم أن هذا قول المسلمين أو قول جمهور متكلمي المسلمين ومن المعلوم أن هذا إنما قاله أبو الهذيل العلاف ومن اتبعه من متكلمي المعتزلة والذين أخذوا ذلك عنهم # وقد نفى الجوهر الفرد من أئمة المتكلمين من ليسوا دون من أثبته بل الأئمة فيهم أكثر من الأئمة في أولئك فنفاه حسين النجار وأصحابه كأبي عيسى برغوث ونحوه وضرار بن عمرو وأصحابه كحفص الفرد ونحوه ونفاه أيضا هشام بن الحكم وأتباعه وهو المقابل لأبي الهذيل فإنهما متقابلان في النفي والإثبات ونفته الكلابية أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب وذووه ونفاه أيضا طائفة من الكرامية كمحمد بن صابر ونفاه ابن الراوندي وليس نفي هؤلاء موافقة منهم لا للفلاسفة ولا للنظام بل قول النظام ظاهر الفساد وكذلك قول الفلاسفة أيضا وأكثر هؤلاء الذين ذكرناهم من النجارية والضرارية والكلابية والكرامية وغيرهم لا يقولون في ذلك بقول النظام والفلاسفة ولا يقولون بإثباته وذلك أن دعوى الفلاسفة قبول الأجسام والحركات والأزمنة للانقسام إلى غير نهاية باطل كما ذكره المثبتون وكذلك قول مثبتيه باطل بما ذكره نفاته من أنه لا بد من انقسامه حتى إن أبا المعالي وغيره اعترفوا بأنه غير محسوس ومن تدبر أدلة الفلاسفة القائلين بما لا يتناهى من الانقسام القائلين بوجود الجزء الذي لا يقبل الانقسام وجد أدلة كل واحدة من الطائفتين تبطل الأخرى # والتحقيق أن كلا المذهبين باطل والصواب ما قاله من قاله من الطائفة الثالثة المخالفة للطائفتين أن الأجسام إذا تصغرت أجزاؤها فإنها تستحيل كما هو موجود في أجزاء الماء إذا تصغر فإنه يستحيل هواء أو ترابا فلا يبقى موجود ممتنع عن القسمة كما يقوله المثبتون له فإن هذا باطل بما ذكره النفاة من أنه لا بد أن يتميز جانب له عن جانب ولا يكون قابلا للقسمة إلى غير نهاية فإن هذا أبطل من الأول بل يقبل القسمة إلى حد ثم يستحيل إذا كان صغيرا وليس استحالة الأجسام في صغرها محدودا بحد واحد بل قد يستحيل الصغير وله قدر يقبل نوعا من القسمة وغيره لا يستحيل حتى يكون أصغر منه وبالجملة فليس في شيء منها قبول القسمة إلى غير نهاية بل هذا إنما يكون في لمقدرات الذهنية فأما وجود مالا يتناهى بين حدين متناهيين فمكابرة وسواء كان بالفعل أو بالقوة ووجود موجود لا يتميز جانب له عن جانب مكابرة بل الأجسام تستحيل مع قبول الانقسام فلا يقبل شيء منها انقساما لا يتناهى كما أنها إذا كثرت وعظمت تنتهي إلى حد تقف عنده ولا تذهب إلى أبعاد لا تتناهى # ولكن بنى هذه الطائفة المشهورة من المتكلمين على مسمى هذا الاسم الهائل الذي هو الجوهر الفرد عندهم وهو عند التحقيق مالا يمكن أحد أن يحضر بجنسه باتفاقهم وعند المحققين لامس له وما أشبهه بالمعصوم المعلوم الذي ابتدعته القرامطة والمنتظر المعصوم الذي ابتدعته الرافضة والغوث الذي ابتدعته جهال الصوفية هو نظير ما يعظم هنا بل هؤلاء الفلاسفة المشائين وأتباعهم في الجوهر المجرد وهو ما يدعونه في النفوس والعقول من أنها شيء لا داخل العالم ولا خارجه ولا متحرك ولا ساكن ولا متصل بغيره ولا منفصل عنه وأمثال هذه الترهات فقول هؤلاء في إثبات هذا الجوهر المجرد كقول أولئك في الجوهر الفرد ثم إن هؤلاء وهؤلاء يدعون أن هذا هو حقيقة الإنسان هؤلاء يدعون أنه هذا الجوهر المجرد وهؤلاء يقولون إنه جوهر واحد منفرد أو جواهر كل منها يقوم به حياة وعلم وقدرة أو تقوم الأعراض المشروطة بالحياة ببعضها وثبت الحكم للجملة وعلى هذه المقالات يثبتون المعاد فصل # ثم قال الرازي العاشر أن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته أقرب إلى العقول من معرفة ذات الله تعالى ثم المشبهة وافقونا على أن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته على خلاف حكم الحس والخيال # يقال له إن أردت أن أفعال الله تعالى وصفاته تثبت بلا مثال فهذا حق فإن الله تعالى ^ ليس كمثله شيء ^ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله كما قال تعالى ^ ليس كمثله شيء ^ وقال تعالى ^ فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ^ وذلك أنا لا نعلم الشيء إلا أن ندركه نفسه أو ندرك ما قد يكون مماثلا له أو مشابها له من بعض الوجوه والله يعلم الأشياء كلها ونحن لا نعلم فليس لنا أن نضرب له الأمثال بلا علم # وإن أراد به أن يثبت ما يعلم بالحس أو العقل عدمه فهذا باطل وقد تقدم هذا في أول هذه المقدمة وبينا الفرق بينما يعلم عدمه وبين ما يعلم عدم مثاله كما بينا الفرق بينما يعلم عدمه وبينما لا يعلم وجوده أو كيفيته وهذا الأصل ينبغي استبصاره واستذكاره فإنه بسبب الاشتباه فيه يقع من لبس الحق بالباطل ما الله به عليم # وأيضا فإنه لا اختصاص للحس والخيال بكونهما يثبت على خلاف حكمهما فإنه إن أراد أنها تنافي ما علم بالحس والخيال تنافي معرفة أفعاله لأن الحس والخيال يدرك عدم ذلك فهذا باطل ولو أراد أنه يثبت من أفعاله مالا يعلم نظيره أو مالا يحيط العلم بحقيقته بحس ولا خيال فيقال وماله لا يعلم نظيره بعقل ولا علم ولا قياس فلا فرق بين ثبوتها بهذا الاعتبار على خلاف حكم الحس والخيال أو على خلاف حكم العلم والعقل وهذا الكلام أيضا كلام نافع في هذه المواضع # وليس لأحد أن يفرق بينهما بأن العلم والعقل يدرك من أفعاله مالا يدركه الحس والخيال لوجهين |
# أحدهما أنه لا فرق في هذا بين أفعال الله تعالى وصفاته وبين سائر الأشياء فإن الإنسان إذا أحس أمرا أو تخيله حصل له من العلم والعقل بسبب ذلك ما لم يدركه الحس والخيال كما يعقل الأمور العامة الكلية عند إحساس بعض أفرادها بالقياس والاعتبار ولا يجوز أن يقال في جميع المعقولات إنها ثبت على خلاف حكم الحس والخيال وإن أراد أحد بهذا اللفظ هذا المعنى لم يضر ذلك إذ يكون التقدير أن الإنسان ينال بعقله من العلم مالا يناله بحسه وهذا لا نزاع فيه لكن لا يقتضي ذلك تنافي المحسوس والمعقول بل ذلك يوجب تصادقهما وموافقتهما # الوجه الثاني إن الحس يمكنه إدراك كل موجود فما من شيء من الإدراك إلا ويمكن معرفته بالإحساس الباطن أو الظاهر كما قد نبهنا على ذلك فيما تقدم من هذه الأجوبة بل هذا المنازع وأصحابه قالوا من ذلك ما هو من أبلغ الأمور في مسألة الرؤية وغيرها حيث يجوزون رؤية كل موجود بل يجوزون تعلق الحواس الخمس من السمع والبصر والشم والذوق واللمس بكل موجود فلم يبق عندهم في الموجودات ما يمتنع أن يكون محسوسا فلا يصح أن يقال إنه يدرك بالعقل والعلم ما يمتنع إدراكه بالحس إلا إذا قيد الامتناع بأن يقال مالا يمكننا إحساسه في هذه الحال أو ما تعجز قدرتنا عن إحساسه ونحو ذلك وإلا فإحساسه ممكن والله تعالى قادر عليه ويفعل من ذلك ما يشاء كما يشاء ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم # ثم قال أبو عبدالله الرازي أما تقرير هذا المعنى في أفعال الله تعالى فذاك من وجوه # أحدها أن الذي شاهدناه هو تغير الصفات مثل انقلاب الماء والتراب نباتا وانقلاب النبات جزء بدن حيوان فأما حدوث الذوات ابتداء من غير سبق مادة
وطينة فهذا شيء ما شاهدناه البتة ولا يقضي بجوازه وهمنا وخيالنا مع أنا سلمنا أنه هو المحدث للذوات ابتداء من غير سبق مادة وطنية # قلت الكلام على هذا من وجوه # أحدها قوله لم نشاهد إلا تغير الصفات ليس هذا مخاطبة باللغة المعروفة والاصطلاح المشهور بل هذا يفهم قصدا فاسدا لا يقوله أحد وذلك أن الصفة في الاصطلاح المشهور هي عرض يقوم بجوهر قائم بنفسه كقيام اللون والطعم والريح بالجسم فإذا قال القائل لم نشاهد إلا تغير الصفات كان مقتضاه أن الجواهر والأجسام لا تتبدل ولا تستحيل ولا تنقلب وإنما تتغير أعراضها القائمة بها مثل تغير الشمس والقمر والنجوم بحركاتها ومعلوم أن هذا باطل بل نفس الجواهر التي هي أعيان قائمة بنفسها تنقلب وتتبدل وتستحيل كما ذكره من انقلاب الماء والتراب نباتا فلم يكن التغير في مجرد أعراض الماء والتراب وإنما ذلك مثل أن ينقل من موضع إلى موضع أو يجمع ويفرق أو يسخن ويبرد ونحو ذلك فأما إذا صار الماء والتراب نباتا فقد انقلبت الحقيقة وتبدلت وكذلك إذا صار المني حيوانا والبيضة طيرا وكذلك إذا صار النبات المأكول دما ثم عظما ولحما وعروقا ونحو ذلك فلا يقال في مثل هذا لم نشهد إلا تغير الصفة بل شهدنا تبدل الحقيقة وتغير الأعيان القائمة بنفسها التي هي جواهر بمعنى استحالتها وانتقالها من حقيقة في ذاتها وقدرها ووضعها وسائر الأمور # لكن لم نشهد تكون شيء إلا من شيء فهذا حق كما أخبر الله تعالى به في كتابه العزيز كما قال ^ خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار ^ وقال ^ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ^ وقال تعالى ^ وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة ^ وقال ^ وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ^ وقال ^ والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا ^ وقال تعالى ^ هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ^ وقال تعالى ^ والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها ^ وقال تعالى ^ والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماءا مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج ^ وهذا في كتاب الله تعالى كثير يبين خلق الأشياء بعضها من بعض وببعض وفي بعض # ويقررنا أنا نرى ذلك ونشهده كقوله تعالى ^ أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون إلى قوله تعالى أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ^ وقال تعالى ^ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من إلى قوله تعالى مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ^ وقال تعالى ^ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت ^ الآيات وقال إبراهيم عليه السلام ^ رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك الآية # الوجه الثاني قوله فأما حدوث الذوات ابتداءا من غير سبق مادة ولا طينة فهذا شيء ما شاهدناه البتة # ليست هذه المخلوقات من الماء والطين مثل الصور التي يصورها بنو آدم من المواد مع أن الذات باقية كتصوير الخاتم والدرهم ونحو ذلك من الفضة وتصوير السرير والباب ونحو ذلك من الخشب وتصوير الثوب من الغزل فإن هذه المواضع لم تحدث فيها الذوات وإنما تغيرت صفة الذات وأما الحيوانات والنباتات المشهودة فنفس هذه الذوات شهدنا حدوثها وخلقها لكن خلقت من شيء آخر ليس هو من جنسها ولا من حقيقتها وهذا من أبدع الأمور وأعظمها فلم يكن ما منه خلقت هذه الأمور وإن سماها بعض الناس مادة مثل المواد المعروفة تكون بعينها باقية في الصور وتكون من جنس الصور وإذا كان كذلك فقد شهدنا إبداع هذه الحقائق الموجودة وصفاتها بعد أن لم تكن موجودة كما قال تعالى ^ أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ^ غاية ما في هذا الباب أنا شهدنا خلقها من شيء ليس هو من جنسها ولا من حقيقتها وشهدنا أنها تخلق من أوضع الأشياء وأحقرها وأبعدها عن صفات الكمال كخلق الإنسان من تراب كما قال الشاعر % الذي حارت البرية فيه % حيوان مستحكم من جماد % # وهذا الذي شهدنا من أبلغ الإبداع أنه يخلق من الشيء مالا يكون مجانسا له ولا يكون الأصل مشتملا على ما في الفرع من الصفات فهذه الأمور المخلوقة التي لم تكن موجودة في أصلها ولا كامنة فيه هي مبدعة بعد العدم لا منقولة من وصف إلى وصف ولو كانت منقولة فنفس الصفات القائمة بها مبدعة بعد العدم فقد شهدنا إبداع الجواهر والأعراض بعد عدمها وهذا كاف في ذلك إذ لا يجب أن نشهد إبداع كل جوهر وعرض بعد العدم بل إذا شهدنا إبداع ما شاء الله من الجواهر والأعراض بعد عدمها كان ذلك محسوسا لنا ثم عقلنا بطريق الاعتبار والقياس ما لم نشهده وهكذا علمنا بجميع الأشياء نحس بعض أفرادها ونقيس ما غاب على ما شهدناه وإلا فلا يمكن أن يعلم الشخص بإحساسه كل شيء # فظهر بذلك أن طريق علمنا بأفعال الله حسا وعقلا مثل طريق علمنا بجميع الأمور وظهر أنما غاب عنا من أفعال الله وعلمناه بعقلنا ليس على خلاف ما أحسسناه وتخيلناه بل هو من جنسه ومشابه له فضلا عن أن يكون مباينا له # ونحن قد بينا فيما تقدم الفرق بينما يعلم عدمه وامتناعه بحس أو عقل وبين مالا يعلم له نظير بحس أو عقل فالأول لا يجوز أن يكون موجودا بخلاف الثاني فإنه يجوز أن يكون موجودا وهذا ينفعنا في ذات الله فإنه ^ ليس كمثله شيء ^ وأما أفعاله ومخلوقاته ففي الذي أشهدناه عبرة لما لم نشهده والغائب من جنس الشاهد وذلك لأن المماثلة ثابتة في المفعولات كما قال تعالى ^ ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ^ فلو لم يكن الغائب من أفعاله تعالى نظيرا للشاهد لم يجز رده ولا يقال إنه على خلاف حكم العقل فالحس والخيال كما في ذاته تعالى فكيف إذا كان الغائب نظير الشاهد حيث أشهدنا إبداع الجواهر وصفاتها بعد عدمها يا سبحان الله أيما أبلغ في عقل الإنسان إبداع الإنسان بعد عدمه أم إبداع طينته التي خلق منها بعد عدمها فإذا كان قد شهد هذا الجوهر العظيم الموصوف بصفات الكمال بعد عدمه أفليس ذلك أعظم من إبداع تراب أو ماء بعد عدمه والله سبحانه وتعالى لما خلق السموات والأرض خلق آدم آخر المخلوقات كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة ومن خلق آخر المخلوقات لم يمكنه أن يشهد خلق نفسه ولا ما خلق قبله كما قال تعالى ^ ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم ^ وله فيما شهده في المخلوقات عبرة فيما لم يشهده # الوجه الثالث قوله أما حدوث الذوات ابتداءا فهذا شيء ما شاهدناه البتة ولا يقضي بجوازه وهمنا ولا خيالنا # فيقال له قولك لا يقضي بجوازه وهمنا ولا خيالنا أتريد أن وهمنا وخيالنا يحيل ذلك ويمنعه أو تريد أنه لا يعلم جوازه وأيما أردت فعنه جوابان # أحدهما أن لا نسلم أن وهمنا وخيالنا يحيل ذلك ويمنعه لوجهين أحدهما أن الوهم والخيال لا يمنع كل ما لم يعلم نظيره وإن قيل إنه لا يدركه إلا أن يريد الوهم والخيال الفاسد فهذا لا نزاع فيه الثاني إن الوهم والخيال قد أدرك نظير هذا كما قدمناه من تخيل ما أحسه من إبداع الجواهر وأعراضها بعد عدمها # الجواب الثاني عن التقدير الأول أنا لو سلمنا أن وهمنا وخيالنا يحيل ذلك فليس محذورا إذا علمنا جوازه بعقلنا أو حسنا فإن أحدا لم يقل إن كل ما أحاله مجرد التوهم والتخيل يكون ممتنعا وإنما قيل ما أحالته الفطرة الإنسانية والبديهة والفرق بينهما ما تقدم # وأما الجوابان على التقدير الثاني وهو أن الوهم والخيال لا يعلمان جواز ذلك فأحدهما أن لا نسلم أن الوهم والخيال لا يعلم جواز ذلك فإن الإنسان قد يتخيل ما أحسه بحواسه من الموجودات بعد عدمها وهو يؤلف بتخيل من ذلك ما لم يتخيله كما هو عادة التخيل فيتخيل نظير ذلك وما يركبه من ذلك مما ليس له نظير كما يتخيل جبل ياقوت وبحر زئبق فيتخيل من المخلوقات ما ليس له نظير ويتخيل الإبداع الذي ليس نظير فكيف بما له نظير الثاني أنا لو سلمنا أن الوهم والخيال لا يعلم جواز ذلك لم يضر ولو لم يعلم جواز نظيره أو وجوده بحس أو عقل فكيف إذا علم ذلك فإن المدفوع ما علم بالفطرة امتناعه لا ما عجز مجرد الوهم عن معرفته # الوجه الرابع قوله مع أنا سلمنا أنه تعالى هو المحدث للذوات ابتداءا من غير سبق مادة وطنية # يقال له هذا الذي تذكره إنما ينفعك أن لو كان ما علمناه بالفطرة يدفع ما سلمناه فكيف إذا لم يدفعه ما علمناه لا بضرورة بل لا يدفعه ضرورة ولا نظر بل كيف إذا كان ما شهدناه نظيرا له ومشابها بل كيف إذا كان الذي شهدناه أبلغ من الذي سلمناه فإن الذوات التي ابتدعت ابتداءا إنما هي ذوات بسيطة كالماء ونحوه ومن المعلوم أن إبداع هذا الإنسان المركب بما فيه من الأعضاء المختلفة ومنافعها وقواها والأخلاط المختلفة ومقاديرها وصفاتها من أشياء بسيطة أعظم في الاقتدار وأبلغ في الحكمة من إبداع شيء بسيط لا من شيء لأن هذه المركبات كلها كائنة بعد عدم وتأليفها وتركيبها كذلك وما فيها من الجواهر والتأليف والصفات الكائن بعد العدم أبلغ مما في تلك البسائط وهذا كما أن ما شهدنا من الخلق الأول أبلغ مما أخبرنا به من الخلق الثاني في المعاد كما قال تعالى ^ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ^ وقال ^ ضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ^ ونظائره في القرآن فإذا كان مستقرا في الفطرة العقلية أن ابتداء الخلق أعظم من إعادته فمستقر فيها أن إبداع المركبات وتركيبها وصفاتها بعد العدم أبلغ من إبداع البسائط المفردات لكن المركب لا بد أن يكون مسبوقا # قال الرازي وثانيها أنا لا نعقل حدوث شيء وتكوينه إلا في زمان مخصوص ثم حكمنا بأن الزمان حدث لا في زمان البتة # فيقال لو قال لم نتوهم أو لم نتخيل أ لم نحس لكان مناسبا للفظ دعواه حيث ادعى أن معرفة أفعال الله على خلاف الحس والخيال ولم يدع أنها على خلاف المعقول فإن ذلك سد عليه طريق الإقرار بها ويوجب جحودها حيث لا يثبت ما يخالف المعقول إلا أن يفسر المخالف للمعقول بعدم النظير وحينئذ فلا فرق بين مخالفة المعقول والمحسوس في أن ذلك لا يكون مانعا في وجود ما يخالف المحسوس والمعقول وهو لا يتم غرضه إلا أن يبين الفرق بينهما بثبوت ما يحيله الحس دون العقل كما قدمناه # وتلخيص النكتة أن يقال إذا لم تعقل حدوث شيء إلا في زمان وأثبتت ما لم تعقله فهل هذا حجة لك في إثبات ما تعلم بعقلك امتناعه أم لا فإن كان هذا حجة لك في إثبات ما يعلم العقل امتناعه لم يكن له بعد هذا أن يحيل وجود شيء بعقله بل يجوز الممتنعات المعلوم امتناعها بالعقل ضرورة ونظرا وهذا لا يقوله عاقل وإن قال ليس هذا حجة في إثبات ما يعلم بالعقل امتناعه لم يكن ذلك نافعا لك في محل النزاع لأن المنازع يدعي أنه يعلم امتناع ما أثبتته بفطرته وهذا لم يدل على إحالة ما عيلم امتناعه بالعقل كما سلمته ولا بالحس لأنك لم تذكره # ثم يقال كوننا لم نشهد حدوث شيء إلا في زمان بمنزلة كوننا لم نشهد حدوث شيء إلا في مكان ثم كما أن هذا يقتضي افتقار كل مكان إلى مكان فكذلك ذاك يقتضي افتقار كل زمان إلى زمان وأكثر ما في ذلك عدم النظير فيما شهدناه ومجرد عدم النظير لا يكون حجة على نفي الشيء المعلوم بحس أو عقل فلم يقل أحد من العقلاء إن الشيء الذي يعلم ثبوته لا يجوز الإقرار به حتى يكون له مثل ونظير مطابق له وهذا كما أنا لم نشهد شيئا إلا له خالق ثم لا يجب أن يكون للخالق خالق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال الناس يسألونكم حتى يقولوا هذا وقد أخرجاه في الصحيحين عن عروة عن أبي هريرة ورواه أبو داود في الرد على الجهمية من سننه ورواه النسائي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله وهو أيضا فيها عن عروة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي أحدكم الشيطان فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته ورواه مسلم من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا هذا الله خلقنا فمن خلق الله قال وهو آخذ بيد رجل يعني قد سأله فقال صدق الله ورسوله قد سألني اثنان وهذا الثالث أو قال سألني واحد وهذا الثاني وراه أيضا أبو داود والنسائي من طريق آخر وفيه فإذا قالوا ذلك فقولوا الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ثم يتفل عن يساره ثلاثا # ويقال له الزمان الذي رأينا الأشياء تحدث فيه هو مقدار حركة الشمس والقمر أو ما يشبه ذلك إذ لم نشهد زمانا غير مقدار الحركة أو ما يقرب من ذلك لتنوع عبارات الناس في تفسير الزمان وإذا كان الزمان من جملة الأعراض مفتقرا إلى الحركة والمتحرك إذا كان له وجود في الخارج فمعلوم أنا شهدنا حدوث سبب الزمان الموجب له المتقدم عليه بالذات وهو الحركات والحركة والزمان متقاربان في الوجود والحركة متقدمة على الزمان بالذات وإذا كان كل منهما مقارن للآخر لا ينفك عنه فليس القول باحتياج الحركة التي هي الحدوث والانتقال إلى الزمان بأولى من القول باحتياج الزمان إلى الحركة والحدوث بل هذا الثاني أقرب لأن افتقار المعلول إلى العلة والمشروط إلى الشرط والمسبب إلى السبب أظهر من الأول # يوضح ذلك أن الزمان قد يراد به الليل والنهار كما يراد بالمكان السموات والأرض وهذا هو الذي يعنيه طوائف منهم الرازي في كتابه هذا كما ذكر ذلك حيث قال الحجة الحادية عشرة قوله ^ قل لمن ما في السموات والأرض قل لله ^ قال وهذا مشعر بأن المكان وكل ما فيه ملك لله تعالى وقوله تعالى ^ وله ما سكن في الليل والنهار ^ وذلك يدل على أن الزمان وكل ما فيه ملك لله تعالى ومجموع الآيتين يدلان على أن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات كلها ملك لله تعالى وذلك يدل على تنزيهه عن المكان والزمان قال وهذا الوجه ذكره أبو مسلم الأصفهاني في تفسيره واعلم أن في تقديم ذكر المكان على ذكر الزمان سرا لطيفا وحكمة عالية يشير إلى أنه سببه ما تقدم # قلت وإذا كان المراد بالمكان والمكانيات السموات والأرض وما فيهما وبالزمان والزمانيات الليل والنهار وما سكن فيهما فمن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى ^ خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ^ وقد قال تعالى ^ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ^ ونحو ذلك في القرآن ومعلوم أن النهار تابع للشمس وأما الليل فسواء كان عدم النور أو كان وجودا عرضيا كما يقوله قوم أو أجسام سود كما يقوله بعضهم فالله جاعل ذلك كله وهو سبحانه وتعالى كما قال عبدالله بن مسعود إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه وقد جاء في قوله تعالى ^ ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ^ إن أهل الجنة يعرفون مقدار البكرة والعشي بأنوار تظهر من جهة العرش فيكون بعض الأوقات عندهم أعظم نورا من بعض إذ ليس عندهم ظلمة وهذه الأنوار المخلوقة كلها خلقها الله تعالى # فقول القائل بعد هذا لم نعقل حدوث شيء إلا في زمان مخصوص ثم حكمنا بأن الزمان حدث لا في زمان مثل أن يقال أنا لم أعقل حدوث شيء وتكوينه إلا في ليل أو نهار ثم حكمنا بأن الليل والنهار حدثا لا في ليل ولا نهار ولم نعقل شيئا إلا في السموات والأرض ثم عقلنا حدوث السموات والأرض لا في سموات وأرض ومعلوم أن هذا الكلام من أفسد الكلام في الحس والعقل فإن الإنسان كما يشهد حدوث الأشياء لا في ليل ونهار فهو يشهد أيضا حدوث الليل والنهار في غير ليل ولا نهار # وقد يراد بالزمان مجرد التقدير بالحوادث كما يقال هذا قبل هذا بكذا وكذا وهذا بعد هذا بكذا وكذا فيكون المراد به تقدير ما بين الحوادث بحوادث أخر وهذا التقدير من جنس العدد للمعدودات فإنه بالعدد يظهر وبزيادة أحد المعدودين على الآخر ونقصانه عنه ومساواته له ثم مع ذلك فليس العدد للمعدودات أمرا موجودا في الخارج قائم بنفسه أو عرض قائم فيها وإنما هو من باب الفصل والتمييز بين بعضها وبعضها وهي ممتازة ومنفصلة بذواتها وأعيانها لا بشيء غير ذلك والعدد لها كالحيز لها كما سنذكره إن شاء الله تعالى وكذلك الوقت لها ولهذا يفرق بين الوقت والعدد كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ذكر الله مأمور به في كل حال ليس له وقت ولا عدد أي ليس له وقت مخصوص ولا عدد مخصوص كالصلاة وغيرها # وهذا موضع تغلط فيه الأذهان حيث يشتبه عليها ما يأخذه الذهن من الحقائق الموجودة في الخارج بنفس الحقاق الموجودة في الخارج كما يشتبه على بعض الناس الصور الذهنية الكلية المطلقة أنها توجد في الخارج حتى يظن أنها بعينها موجودة في الخارج فالعلم بالحقائق وبعددها وزمانها ومكانها كله متقارب ولا ريب أن الحقائق موجودة في نفسها متميز بعضها عن بعض بنفسها بما فيها من الصفات القائمة بها وما يتبع ذلك من حيزها ووقتها وعددها وليست هذه الأمور جواهر وأعراضا منفصلة عن تلك الحقائق بل هي تارة لسبب بينها وبين غيرها إنما يعقل باعتبار الغيرين ولهذا يكثر تنازع الناس في مثل هذه الأمور هل هي أمور وجودية أو عدمية وبكل حال فقول القائل إن كل وقت يفتقر إلى وقت وكل حيز إلى حيز بمنزلة قوله كل عدد يفتقر إلى عدد وقوله كل حقيقة قائمة بنفسها تفتقر إلى حقيقة قائمة بنفسها # ومما يوضح ذلك أن يقال له أيضا قول القائل ثم حكمنا بأن الزمان حدث لا في زمان أضعف من قول القائل حكمنا بأن الحركة حدثت بلا حركة فإن الزمان هو مفتقر إلى الحركة دون زمان آخر والحركة هي سبب الزمان وإن كانت مقارنة له وليست مفتقرة إلى حركة أخرى فالتعجب من حدوث حركة بلا حركة وهي سبب الزمان وأعني عن الزمان من الزمان عنها أقرب إلى الصواب من تعجب المتعجب من حدوث زمان في غير زمان وإذا كان التعجب من عدم افتقار كل حركة إلى حركة نوعا من السخف والهذيان فالتعجب من عدم افتقار كل زمان إلى زمان أبلغ منه في السخف والهذيان كما يتعجب من عدم افتقار كل فاعل إلى فاعل وهذا السؤال من آخر ما يورده ويسأل عنه الشيطان لعلمه بأنه آخر مراتب الباطل والهذيان # قال وثالثها أنا لا نعلم فاعلا يفعل بعد ما لم يكن فاعلا إلا لتغير حالة وتبدل صفة ثم إنا اعترفنا بأنه تعالى خلق العالم من غير شيء من ذلك # يقال هذه الوجوه التي أوردها هنا هي من حجج الدهرية إما القائلين بقدم العالم وإما المنكرين للصانع حيث يحتجون بها على امتناع إبداع كل شيء بعد العدم ويوجبون قدم مادة وكذلك يوجبون قدم مدة وكذلك يقولون يمتنع حدوث الفعل بدون حدوث قدرة ولا إرادة ولا علم ولا غير ذلك من أسباب الفعل وهذه حجج الدهرية المتفلسفة المشائين المنتسبين إلى معلمهم الأول آرسطو وإن كان من معظميه من يزعم أنه لم يكن قائلا بقدم العالم ولكن تكلم بكلام مجمل في ذلك كما زعمه بعض الفلاسفة اليهود فيما جمعه وألفه بين فلسفته وبين الملة التي بعث الله بها الرسل فالمقصود هنا أن نعرف أصل هذا الكلام ونعلم أن هذا الرازي وإن أورده هنا من جهة أصحابه المسلمين الموافقين على حدوث العالم في احتجاجهم على إخوان لهم مسلمين في مسائل الصفات فإن هذه الحجج هو دائما يذكرها في معارضة حجج المسلمين وسائر أهل الملك على نفي قدم العالم فتارة يظهر منه التحير وتكافؤ الأدلة وتقابل الطائفتين بمنزلة المنافق المذبذب الذي لا هو مع هؤلاء ولا مع هؤلاء وتارة ينصر المسلمين بما يصلح من الجدل ويكثر مما لا يصلح وتارة يؤيد أقوال أولئك المشركين الصابئين المبدلين تأييد عاجز عنهم أو معاون لهم أو معترض عليهم بحق أو باطل # ونحن في هذا المقام الذي غرضه أن يقرر ثبوت ما يعلم امتناعه بالبديهة ويزعم أن هذا من حكم الحس والخيال المردود واحتجاجه بما ذكره من أفعال الله تعالى نجيب عنه بأن نبين أنا شهدنا من أفعال الله تعالى ما هو نظير ما لم نشهده أو أبلغ منه وأن ما تعجب منه هو مثل ما شهدناه أو دونه وبأن نبين أنه إذا أثبت من أفعال الله تعالى ما لم نشهد نظيره فلا محذور في ذلك فإن ثبوت مالا يعلم له نظير ليس بمحذور في حس ولا عقل وبأن نبين أن الحس والعقل في ذلك سواء فلا يثبت مالا يعلم بها عدمه ويثبت مالم يعلم بها نظيره وقد ذكرنا ذلك في المادة والمدة # ونصوص المسلمين وسائر أهل الملل ومعارضتهم لهؤلاء الدهرية كثيرة حسنة لكن ليس هذا موضعها # وكذلك ما ذكره في الفاعل وهي حجة ابن سينا أفضل متأخري هؤلاء الدهرية فإنها هي التي اعتمدها حيث زعم أن الذات الواحدة لا يصدر عنها شيء بعد أن لم يكن صادرا إلا بحدوث أمر من الأمور والكلام في ذلك الأمر كالكلام في الأول فيمتنع الحدوث فيجب القدم ثم ذكر في كيفية صدور العالم بصدور العقل ثم العقل والنفس والفلك من الكلام لا يرتضيه أسخف الناس عقلا ولا يستحسن أحد أن يستعمله إلا في المضاحك والهزليات دون ما هو من أعظم الإلهيات وذكروا هم ما اختص به العالم من المقادير |
والصفات غير ذلك وما الموجب لتخصيصه بذلك دون غيرها إلى غير ذلك مما ليس هذا موضعه إذ الغرض جواب ما ذكره الرازي وهو من نمط الذي قبله أيضا لوجوه # أحدها أن غاية ما يذكره إثبات فاعل ليس له نظير وثبوت فعل ليس له نظير وهذا لا نزاع فيه وليس ذلك ممتنعا لا في حس ولا خيال ولا عقل حتى يكون نظيرا لمورد النزاع وكون ذلك على خلاف حكم الحس والخيال هو مثل كونه على خلاف حكم العقل والقياس # الوجه الثاني أن الانتهاء إلى فاعل لا فاعل له مما يعلم بالفطرة والضرورة العقلية كما يعلم بالفطرة والضرورة العقلية امتناع حدوث فعل بلا فاعل وكما قالوه في امتناع موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإذا كان هذا مما يعلم بالضرورة الفطرية كيف يجعل معارضا أيضا لما يعلم بالضرورة الفطرية فالفطرة الضرورية تعلم امتناع أن يكون لكل فاعل فاعلا وامتناع أن يكون الفعل بلا فاعل وأن يكون الفاعل لا داخل المفعول القائم بنفسه ولا خارجه وإذا كان كذلك فتمثيل الفاعل الذي لا فاعل له بالفاعل له فاعل ممتنع أيضا في الفطرة الضرورية # الوجه الثالث أن قوله لم نشهد فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا إلا لتغير حال وتبدل صفة إن أراد به استحالته من حال إلى حال بحيث أن ذاته تستحيل فليس الأمر كذلك فإن الشمس والقمر والكواكب ^ كل في فلك يسبحون ^ ومع هذا لم يتغير حالها ولم تتبدل صفاتها
وإن عنى به أن نفس الحركة هو تغير وتبدل كما يقوله من يقوله من المتكلمين كان المعنى لم نشهد فاعلا إلا متحركا ومتحولا إما حركة روحانية وإما حركة جسمانية فقوله بعد ذلك ثم إنا اعترفنا بأنه تعالى وتقدس خالق العالم من غير شيء من ذلك مما ينازعه فيه خصومه هنا وغير خصومه فإن المتكلمين يسمون هذه مسألة حلول الحوادث بذاته وقد علم أن مذهب الكرامية القول بها وهم خصومه في هذه المسألة وقد ذكر في أعظم كتبه نهاية العقول أنه ليس في هذه المسألة دليل عقلي على النفي فلا يمكنه أن يقيم عليهم فيها دليلا عقليا وغاية ما اعتصم فيها بما ادعاه من الإجماع على أن سبحانه وتعالى غير موصوف بالنقائص وإن الحادث إن كان صفة كمال فقد كان قبل ذلك ناقصا وإن لم يكن صفة كمال فالإجماع منعقد على أنه تعالى لا يوصف بغير صفة الكمال وقد تكلمنا على ما ذكر في غير هذا الموضع وإذا لم يكن في ذلك دليل عقلي لم يصح أن يكون ذلك معارضا لما يقول المنازع إنه معلوم بالفطرة الضرورية # ومن أعجب العجب قوله عن المشبهة وهم عنده الكرامية والحنابلة أنهم وافقوه على ما ادعاه من أن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته على خلاف الحس والخيال ثم يحتج على ذلك بأنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا من غير حدوث شيء بذاته وهو يعلم أن القول بحلول الحوادث في ذاته تعالى وتقدس هو شعار الكرامية وأنهم متفقون على ذلك وهذا مثل أن يقال عن المعتزلة وقد وافقونا على أن الله تعالى يحدث أفعال العباد بغير فعل منهم ثم إن القول بذلك هو مذهب أكثر أهل الحديث بل قول أئمة أهل الحديث وهو الذي نقلوه عن سلف الأمة وأئمتها وكثير من الفقهاء والصوفية أو أكثرهم وفيهم من الطوائف الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية من لا يحصي عدده إلا الله تعالى وقد ذكره هو في غير موضع من كتبه أن القول بحلول الحوادث يلزم كل الطوائف حتى المعتزلة والفلاسفة وذكر ذلك عن أبي البركات البغدادي صاحب المعتبر وهو من أعظم الفلاسفة المتأخرين قدرا وأنه قال إن ألوهيته لهذا العالم لا تتم إلا بذلك فكيف يحكى الاتفاق على خلاف ذلك # فإن قال قائل الفاعل منا وإن حدثت فيه حركة فالمحدث لها غيره وخالق العالم لا محدث لفعله إلا هو فهذا هو الفرق # قيل هذا حق كما أن ذاتنا محدثة أحدثها غيرنا وهو سبحانه قديم واجب الوجود رب كل شيء ومليكه هو الخالق وما سواه مخلوق ولهذا كان السؤال عن من خلق الله منتهى مسائل الشيطان التي يظل بها الإنسان مع ظهور فسادها بالبرهان والرازي لم يستدل بكونه فاعلا لما لا يفعله من غير محرك من خارج وإنما استدل بكونه فاعلا من غير فعل في نفسه وهذا هو الذي ينازعونه فيه وهو لو استدل بالأول لم يصح لأنها هي مسألة وجود الصانع نفسه وهو في هذا المقام مقصوده أن يبين أن أفعاله على خلاف حكم الحس والخيال ليس مقصوده أن نفسه على خلاف الحس والخيال # قال الرازي ورابعها أنا لا نعقل فاعلا يفعل إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة ثم اعترفنا بأنه تعالى وتقدس خالق العالم بغير شيء من هذا # والكلام عليه من نمط الذي قبله وإن كان هذا السؤال هو ببحوث القدرية والمعتزلة أخص كما أن الذي قبله ببحوث الفلاسفة والدهرية أخص وذلك من وجوه # أحدها أن غاية هذا ثبوت مالا نظير له وليس ذلك ممتنعا كما تقدم ولا فرق في ذلك بين حكم الحس والخيال وحكم العقل كما تقدم غير مرة # الثاني أنه هو خالق كل شيء ومن أجلب لنفسه منفعة من غيره أو دفع عن نفسه مضرة من غيره كان محتاجا إلى ذلك وهذه حال الفقر إلى غيره فما دل على أنه رب العالمين دل على غناه عن غيره وبذلك أخبر عن نفسه كما قال يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني وتمام الكلام كما بيناه قبل # الوجه الثالث أن يقال ما تعني بقولك إنا لا نعقل فاعلا يفعل فعلا إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة ثم اعترفنا بأنه تعالى خالق العالم لغير شيء من هذا أتريد أنه سبحانه منزه عن نعوت المخلوقين الناقصين المحتاجين إلى غيرهم في اجتلاب منافعهم ودفع مضارهم كما يوجد أن الحي من الإنسان وغيره يطلب ما ينفعه ويلائمه من غيره ويدفع ما يخلف عليه من الضرر من نفسه ومن غيره فهذا حق فإنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين لا يحتاج إليهم بل هو الأحد الصمد الحي القيوم وهو سبحانه لا يخاف ضرر شيء لا من نفسه ولا من غيره بل العباد عاجزون عن أن يلحقوا به ضررا أو نفعا قال تعالى في الحديث الصحيح الذي رواه رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني # أو تريد أنه سبحانه وتعالى لا يحب فعله ويرضاه ويفرح به فإن أردت هذا لم يسلم لا ذلك فإن الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة قد دل على وصفه بالمحبة والرضا والفرح # أو تريد أنه لا يحدث له من هذه الأمور ما لم يكن قبل ذلك فهذا هو الوجه الأول وقد تقدم الكلام عليه # ثم قال الرازي وأما تقرير ذلك في الصفات فذلك من وجوه أحدها أنا لا نعقل ذاتا تكون عالمة بمعلومات لا نهاية لها على التفصيل دفعة واحدة وأنا إذا جربنا أنفسنا وجدناها متى اشتغلت باستحضار معلوم معين امتنع عليها في تلك الحالة استحضار معلوم آخر ثم إنا مع ذلك نعتقد أنه تعالى وتقدس عالم بما لا نهاية له من المعلومات على التفصيل من غير أن يحصل فيه اشتباه والتباس فكان كونه تعالى عالما بجميع المعلومات أمرا على خلاف مقتضى الوهم والخيال # والكلام على هذا من وجوه # أحدها أن هذا الكلام أن علم الله ليس من جنس علومنا ولا مماثلا له وأنا لا نستطيع أن نعلم كعلم الله تعالى وهذا من أوضح الأمور وأبينها عند الخاصة والعامة فإن أحدا من الخلق كما لا يظن أن ذاته كذات الله تعالى لا يظن أن علمه كعلم الله تعالى ومن المعلوم لكل أحد أن الله أكبر وأعظم مما يعلمونه ويقولونه فيه فكذلك علمه وقدرته وسائر صفاته أكبر وأعظم من أن يعلم كنه علمه أو يوصف ولم يقل أحد من البشر أن علم الله تعالى مثل علمنا ولا توهم أحد ذلك ولا تخيله فأي شيء في هذا مما هو على خلاف مقتضى الوهم والخيال غاية ما فيه أنه ليس مثلما نتوهمه ونتخيله من نفوسنا وهذا لا ريب فيه # وهذا يظهر بالوجه الثاني وهو أن الله سبحانه ليس مثلما نعلمه ونعقله ونحسه من نفوسنا فضلا عن أن يكون مثلما نتخيله ونتوهمه من نفوسنا فلا اختصاص للوهم والخيال بذلك وإذا كان الله سبحانه ليس مثلما نحسه ونعلمه ونعقله ونتخيله فينا ولم يكن في ذلك ما يقتضي أن يكون منافيا لما نعلمه لم يجب أن يكون منافيا لما نحسه # ويتقرر هذا بالوجه الثالث وهو أن العلم بامتناع موجود لا داخل العالم ولا خارجه علم فطري ضروري ليس هو من خصائص الوهم والخيال وأما ما ذكره من إحاطة علم الله تعالى فليس عندنا اعتقاد ينفي ذلك بحال # الوجه الرابع إن كلما وصف الله به علم الله ليس عندنا اعتقاد ينفي ذلك لا محسوس ولا متوهم ولا متخيل ولا معقول إلا أن يكون من الاعتقادات الباطلة التي لم تعلم بضرورة ولا نظر ولا ريب أن ذات الله وصفاته على خلاف الاعتقادات الباطلة التي يظن أنها معقولة أو محسوسة أو متخيلة ولكن لا فرق في ذلك بينما يظن أنه معقول ومعلوم وما يظن أنه محسوس ومتخيل # الوجه الخامس أن قوى بني آدم في العلم متفاوتة تفاوتا لا ينضبط طرفاه أعظم من تفاوتهم في قوى الأبدان ولبعضهم من القوة على استحضار معلومات في وقت واحد ما ليس لبعض وليس لذلك حد معلوم للناس يعتقدون أن أحدا من البشر لا يمكن أن يكون أقوى في ذلك بل ^ فوق كل ذي علم عليم ^ حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى كما قال السلف وإذا كان بنو آدم متفاوتين في العلم والقدرة ولم يكن عجز أحدهم ما يقدر عليه الآخر من العلوم والأعمال مانعا من اعتقاده ذلك لغيره مع كونه مجانسا له مساويا في الحقيقة فلأن لا يكون عجز أحدهم عما يوصف الله تعالى به من العلم مانعا من اعتقاد وجوب ذلك في ربه عز وجل بطريق الأولى والأخرى ولا يكون ذلك معتقدا ما يخالف محسوسه ولا معقوله # الوجه السادس أنه إذا كان الآدمي يعلم من اقتدار غيره على استحضار العلوم المفصلة في زمن واحد مالا يقدر هو عليه كان ذلك دليلا عنده على أن رب العالمين أولى بأن يكون موصوفا بالعلم بمعلومات مفصلة لا يقدر العبد عليها # الوجه السابع أن العبد يعلم أن ربه يدبر أمر السموات والأرض في آن واحد لا يشغله شأنه عن شأن ومعلوم أن التدبير يحتاج إلى قدر زائد عن العلم من القدرة والمشيئة والحكمة مع أن العبد يعلم عجز نفسه عن نظيره من نحو ذلك فأن يكون معتقدا بأن ربه بكل شيء عليم وإن كان عاجزا عن ذلك بطريق الأولى والأحرى # وبالجملة فهذا الوجه من الوجوه التي ذكرها في تقريره هذه المقدمة وكذلك ما ذكره في قدرة الله تعالى وفي سمعه وفي بصره بعد هذا كما سنذكره # قال الرازي وثانيها أنا نرى كل من فعل فعلا فلا بد له من آلة وأداة فإن الأفعال الشاقة تكون سببا للكلال والمشقة لذلك الفاعل ثم إنا نعتقد أنه سبحانه وتعالى يدبر من العرش إلى ما تحت الثرى مع أنه منزه عن المشقة واللغوب والكلال # يقال له لا ريب أن الله تعالى يقول في كتابه العزيز ^ وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما ^ أي لا يكرثه ولا يثقل عليه وقال في الكتاب ^ ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ^ واللغوب الإعياء وإنما يستريح من إعياء ومنه قول أبي قتادة في حديث حمار الوحش فسعى القوم حتى لغبوا وقال أهل الجنة ^ الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب ^ وهذا مما لا يتنازع فيه المسلمون # وإذا كان كذلك فالكلام على ما ذكرته من وجوه # أحدها أن هذا بيان قدرة الله تعالى كاملة تامة لا نقص فيها ليست مثل قدرة العبادة كما ذكرنا في العلم وهذا حق ولم يقل أحد إن هذا مخالف لا للمحسوس ولا للمعقول وإنما هو مخالف لمقدار صفاتنا # الثاني أن هذا نسبة هذا أن المعلوم والمعقول والمحسوس والمتخيل نسبة واحدة فقولك إن ثبوت هذا على خلاف حكم الوهم والخيال كقول القائل إنه ثابت على خلاف حكم العقل والعلم # الثالث إن هذا معناه أن الله ليس مثلنا ولا صفاته كمقدار صفاتنا وقد مضى أن انتفاء مثل الشيء لا يوجب انتفاءه فكيف إذا كان إنما نفى مماثلته لنا فقط وإن كان الله تعالى ليس كمثله شيء وقد قدمنا أنه إن عنى ثبوته على خلاف الحس والخيال عدم النظير فهو حق لكن نفي موجود لا داخل العالم ولا خارجه معلوم بالفطرة البديهية لا بالقياس ولا بعدم النظير # الرابع أن هذه القدرة ليس عندنا اعتقاد بنفيها لا محسوس ولا معقول بخلاف وجود موجود لا داخل ولا خارجه فإن عندنا من العلوم الضرورية والنظرية ما ينفي ذلك # الخامس أن قوى بني آدم في الفعل مختلفة فإذا كان عجز أحدهم عما يقدر عليه الآخر ليس مانعا من اعتقاد ثبوت تلك القدرة مع اشتراكهم في الجنس فأن لا يكون عجز أحدهم مانعا من الإيمان بقدرة خالقه أولى وأحرى # السادس أنه إذا كان أحدهم يعلم من قدرة غيره على العمل ما ليس هو عنده ولا يكون ذلك ممتنعا لا في حسه ولا في خياله ولا في عقله فأن يعلم من قدرة خالقه ما ليس هو عنده أولى وأحرى # قال الرازي وثالثها أنا نعتقد أنه يسمع أصوات الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى ويرى الصغير والكبير فوق أطباق السموات العلى وتحت الأرضين السفلى ومعلوم أن الوهم البشري والخيال الإنساني قاصران عن الاعتراف بهذا الموجود مع أنا نعتقد أنه تعالى كذلك # يقال له لا ريب أنه سبحانه وتعالى كما قالت عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح سبحان الذي وسع سمعه الأصوات لقد كانت المجادلة تناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت وإنه ليخفى علي بعض كلامها فأنزل الله تعالى ^ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ^ وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي فتحدثوا بينهم بحديث فقال أحدهم أترون الله يسمع ما تقول فقال الآخر يسمع أن أعلنا ولا يسمع إن أسررنا فقال الثالث إن سمع منه شيئا فإنه يسمع كله فأنزل الله تعالى ^ وما كنتم تستترون أن يشهد عليك سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ^ # لكن الكلام في سعة سمعه وبصره سبحانه وتعالى كالكلام في سعة علمه وقدرته سواء وليس فيما ذكره إلا أن ذلك ليس مثل سمعنا وبصرنا وثبوت مثل هذا مما لا ينازع فيه عاقل ولا ينفيه حس ولا عقل ولا تخيل بل ثبوت مالا نظير له في الخلق لا ينفيه الحس والعقل فكيف بما ليس له نظير مساو أيضا فالعقل والحس والخيال والوهم بالنسبة إلى هذا سواء # فقوله ومعلوم أن الوهم البشري والخيال الإنساني قاصران عن الاعتراف بهذا الموجود بمنزلة قول القائل إن العقل البشري والعلم الإنساني قاصران عن الاعتراف بهذا الموجود وهو لا يقول إن الله ثابت على خلاف حكم العقل والعلم فيلزمه في الحس والوهم والخيال مثل ذلك # وأيضا فقوله على خلاف ذلك إن أراد به أن الوهم والخيال يعجز عن إدراك ذلك لم يضر فإن العجز عن إدراك الشيء من بعض الوجوه لا ينفي القدرة على معرفته من وجه آخر وإن أراد أن الوهم والخيال يدرك ما ينافي ذلك لم يصح ذلك فليس في وهمنا وخيالنا الصحيح ما ينافي ذلك وإن فرض اعتقاد فاسد |
ينافي ذلك فهو كالاعتقاد الذي يظن صاحبه أنه معقول أو معلوم وقد قدمنا أن لفظ الوهم والخيال يقال على الباطل تارة وعلى المطابق أخرى فالمطابق لا ينافي ذلك والباطل لا نزاع فيه # وأيضا فاعتقاد امتناع موجود لا داخل العالم ولا خارجه ثابت بالضرورة الفطرية والمتوهم المتخيل لا يكون ثابتا بالفطرة الضرورية كما تقدم # قال الرازي فثبت أن الوهم والخيال قاصران عن معرفة الله سبحانه وتعالى وصفاته ومع ذلك فإنا نثبت الأفعال والصفات على مخالفة الوهم والخيال وقد ثبت أن معرفة كنه الذات أعلى وأجل وأغمض من معرفة الصفات فلما عزلنا الوهم والخيال في معرفة الصفات والأفعال فلأن نعزلهما من معرفة الذات أولى وأحرى # فهذه الدلائل العشرة دالة على أن كونه سبحانه وتعالى منزه عن الحيز والجهة ليس أمرا يدفعه صريح العقل وذلك هو تمام المطلوب وبالله التوفيق # قلت قد تقدم الكلام على أصول هذا غير مرة من وجوه متعددة # أحدها أن القصور عن معرفة الشيء غير العلم بانتفائه والمنازع له قال إني أعلم انتفاء موجود لا داخل العالم ولا خارجه لم يقل إني قاصر أو عاجز عن معرفة وجوده # الثاني أن قصور الوهم والخيال لا يستلزم قصور العلم والعقل والحس والمنازع له يقول إن ذلك لا يعلم بعقل ولا غيره فإذا كان غيره معقولا لم يجب أن يكون هذا معقولا
# الثالث أن المنازع له قال أنا أعلم بالفطرة الإنسانية التامة امتناع هذا الموجود لا يقول إن ذلك نعتقده بوهمنا وخيالنا دون علمنا وعقلنا # الرابع أن جميع ما ذكره إنما يدل على ثبوت مالا نظير له لا يدل على ما نعتقد انتفاءه والأول مسلم ومورد النزاع من الثاني # الخامس أن الوهم والخيال المطابق والعلم والعقل والإحساس فيما ذكره سواء كما تقدم بيانه ثم إنه لم يعزل العلم والعقل في معرفة الله تعالى فلا يعزل الحس الصحيح وأما الفاسد فهو معزول وإن قيل إنه معقول ومعلوم كما يعزل ما يذكره الجهمية وغيرهم من أهل الإلحاد من العقليات التي يسمونها عقليات وهي جهليات # السادس أن المنازع له قد يسلم أن يعزل الوهم والخيال في معرفة أفعال الله تعالى وصفاته وذاته لكن لم يعزل الفطرة الإنسانية والمعارف الضرورية ومسألتنا من هذا الباب ولم يذكر حجة واحدة تنفي كون ذلك معلوما بالضرورة ولا يقبل الاحتجاج على خلاف ما يعرف بالضرورة # السابع أنه إنما أثبت أن أفعال الله تعالى وصفاته ليست مماثلة لأفعالنا وصفاتنا وذلك لا يقتضي كونها ثابتة على خلاف الوهم والخيال فإن الوهم والخيال لا ينفي ما لم يكن مثاله موجودا فيه بل غاية ما ذكره انتفاء المثل في الوجود والوهم والخيال لا ينفي مالا مثل له بل الوهم والخيال من أعظم الأشياء إثباتا لما لا نظير له في ما يقدره ويصوره من الأمور التي تكون موجودة فيه وليس لها نظير في الخارج # وأما قوله فهذه الدلائل العشرة دالة على أن كونه منزها عن الحيز والجهة ليس أمرا يدفعه صريح العقل وذلك تمام المطلوب # فقد تبين بأدنى نظر أنه ليس فيها وجه واحد يبين إمكان وجود ذلك لا الإمكان الذهني ولا الخارجي أعني لم يثبت أن العقل يعلم إثبات ذلك ولا أنه لا يعلم امتناعه ولو لم يكن عندنا اعتقاد ينفي إمكان ذلك بضرورة أو نظر فكيف إذا كان اعتقاد امتناع ذلك معلوما بالنظر فكيف إذا كان معلوما بالضرورة وقد تقدم أن ما أعتقد امتناعه بالضرورة وأراد الرجل أن يبين أنه غير ممتنع بالضرورة ولا بالنظر بل هو ممكن في الذهن فلا بد أن يبين أنما يعلم امتناعه بالضرورة والنظر ليس هو الذي لا يعلم امتناعه في الذهن ليبقى الإمكان الذهني مع أن الإمكان الذهني لا يستلزم الإمكان الخارجي كما تقدم فصل # ثم إن المنازعين له إذا كانوا يقولون نعلم بالضرورة امتناع ذلك وقالوا إنما يقوله النفاة إنه الحق الذي يجب وصف واجب الوجود به فإنه ممتنع وجوده معلوم امتناعه بضرورة العقل بل يقولون إنا نعلم بضرورة العقل أن رب العالمين فوق العالم فنحن نعلم بضرورة العقل وجوب ما ادعى امتناعه بالنظر وامتناع ما ادعى إمكانه بالنظر وقد يقولون نحن نعلم بالفطرة والضرورة أن الموجود الذي ليس هو صفة لغيره أو أن واجب الوجود لا يكون إلا قائما بنفسه يمتنع غيره أن يكون بحيث هو وأنه ليس خيالا وشبحا في النفس بل هو شيء موجود له التحقق والثبوت الذي يعلم بالقلوب أنه تحقق وثبوت وإن سماه المنازع تحيزا وتجسيما ونحو ذلك وتعلم بالضرورة والفطرة أنما لا يكون كذلك لا يكون إلا معدوما كما نعلم بالضرورة والفطرة أنه ما من موجودين حيين عالمين قادرين بل ما من موجودين إلا وهما مشتركان في مسمى الوجود والثبوت وأن تميز أحدهما عن الآخر بخاصيته التي تخصه سواء كان واجبا أو لم يكن وما به الاشتراك ليس هو ما به الامتياز ولا مستلزما له وإلا كان أحدهما هو الآخر إذا كان المشترك مستلزما للميز فإنه إذا لم يكن أحدهما مختصا بما يميزه بل حيث تحقق المشترك تحقق المميز والمشترك ثابت لهما فإذا كان المميز ثابت لهما لم يكن لأحدهما تميز يخصه فلا يكون أحدهما غير الآخرة إذ لا بد في المعينين من أن يمتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه وإذا كان كل منهما موصوفا بقدر مشترك والقدر المشترك أن يكون لأحدهما شبه ما بالآخر ولو من بعض الوجوه امتنع أن يكون في الوجود موجود لا يشارك الموجودات في شيء من الأمور الوجودية ولا يشابهها في شيء من ذلك ولهذا كان السلف والأئمة يقولون إن العقلاء يعلمون بعقلهم انتفاء ذلك كما قال الإمام أحمد رحمه الله في رده على الجهمية لما ذكر عنهم ما وصفوه من السلوب وأنهم قالوا كلما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه وهذا معنى قول المؤسس وذويه إنه على خلاف الحس والخيال أو العقل وقد تقدم ذكر ذلك قال فقلنا هو شيء قالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون به في العلانية فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون بأنكم لا تثبتون شيئا إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فذكر أولا أنما يقال إنه شيء ثم يقال إنه لا كالأشياء أي لا يشابهها بوجه من الوجوه بل يخالفها من كل وجه فهذا قد عرف أهل العقل أنه لا شيء لأن العلم بذلك عام في أهل العقل ولما ذكر ثانيا من يعبدون قالوا نعبد المدبر لهذا الخلق فهذا إخبار عن المعبود الذي تجب عبادته في الدين فلما قالوا هو مجهول لا يعرف بصفة قد علم المسلمون أنكم لا تثبتون شيئا لأن المسلمين يوجبون عبادة الله تعالى فذكر أولا عن عموم أهل العقل أنهم لا يثبتون شيئا وذكر ثانيا عن أهل الدين أنهم لا يعبدون شيئا ذكر في كل مقام ما يناسبه وذلك لأن المجهول لا يعرف فلا يقصد ولا يعبد ومن لا يعرف بصفة تميزه عن غيره لم يكن معلوما فلا يكون معبودا فهنا ذكر أن لا بد من صفة تميزه عن غيره والنفاة يقولون هذا تجسيم وذكر أولا أنه يمتنع أن لا يكون بينه وبين شيء من الموجودات قدر مشترك ولا شبه بوجه من الوجوه والنفاة يقولون هذا تشبيه فهم بما عنوه بلفظ التشبيه والتجسيم أوجبوا أن يكون الموصوف بنفي ذلك على المعنى الذي قصدوه معدوما بل واجب العدم ممتنع الوجود وإن كان اللفظ يحتمل نفي معان باطلة مثل نفي كونه مشابها للمخلوقات مماثلا لها من بعض الوجوه فإن نفي هذا واجب وكذلك نفي كونه يقبل التفريق والتفكيك فلا يكون صمدا أحدا هو أيضا واجب فتكلموا أيضا باللفظ المجمل المتشابه الذي يحتمل الحق والباطل ولكن قصدوا به ما هو باطل وإن قصدوا به ما هو أيضا حق أوهموا الناس أنهم لم يقصدوا به إلا نفي ما هو باطل كما قال أحمد رحمه الله يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويوهمون جهال الناس بما يشبهون عليهم فصل # ويقول المنازعون نحن نعلم بالنظر العقلي والاستدلال كما علمنا بالفطرة الضرورية امتناع وجود ما أثبته المنازع من أنه لا داخل العالم ولا خارجه ونعلم انتفاء ذلك وثبوت هذه بالكتاب والسنة والإجماع وبالنقل المتواتر عن الأنبياء المتقدمين وباتفاق أهل الفطر السليمة من جميع العقلاء فصاروا يقولون إن كل واحد من ثبوت ما يقوله ونفي ما يقوله الجاحد المخالف يعلم بالفطرة والضرورة والبديهة والذوق والوجد ويعلم بالفطرة والأدلة العقلية يعلم بالأدلة الشرعية الكتاب والسنة والإجماع ويعلم بالنقل المتواتر عن الأنبياء ويعلم باتفاق العقلاء ذوي الفطر السليمة # وإذا استدلوا بالنظر والقياس والمعقول والبراهين التي يحتج بنظيرها مخالفوهم بل بالبراهين التي هي أصح من ذلك وهي حق في أنفسها قرروا ذلك من وجوه # أحدها وفيه قاعدة جليلة جامعة وهو أن يقال لا ريب أن قياس الغائب على الشاهد يكون تارة حقا وتارة باطلا وهو متفق عليه بين العقلاء فإنهم متفقون على أن الإنسان ليس له أن يجعل كلما لم يحسه مماثلا لما أحسه إذ من الموجودات أمور كثيرة لم يحسها ولم يحس ما يماثلها من كل وجه بل من الأمور الغائبة عن حسه مالا يعلمه أو ما يعلمه بالخبر بحسب ما يمكن تعريفه به كما أن منها ما يعلمه بالقياس والاعتبار على ما شاهده وهذا هو المعقول كما أن الأول هو المسموع والمحسوس ابتداءا هو ما يحسه بظاهره أو باطنه وهذا بين # القسم الثاني وهو أنهم متفقون على أن من الأمور الغائبة عن حسه ما يعلمه بالقياس والاعتبار على ما يشهده كما يعلم ما يغيب عنه من أفراد الآدميين والبهائم والحبوب والثمار وأفراد الأطعمة والأشربة واللباس ونحو ذلك فإنما يسميه الفقهاء ونحوهم جنسا واحدا أو هو ماله اسم جامع يجمع أنواعا يميز بينها بالصفات كالحنطة والثمر والإنسان والفرس وهو الذي يسميه المنطقيون النوع وما هو أخص من ذلك وإن كان قد يسمى أيضا جنسا أو صنفا أو نوعا كالعربي والعبري والفارسي والرومي وكالتمر البرني والمعقلي ونحو ذلك لا ريب أن الإنسان لم يحس جميع أعيانه وأفراده وإنما يعلم غائبها بالقياس على شاهدها فهذا أصل متفق عليه بين العقلاء # ومن حكى من أهل الكلام أن من الأمم أمة لا تقر بشيء من المعقولات وإنما تقر بما أحسته ويذكرون ذلك عن البراهمة السمنية فلا ريب أن هذا النقل وقع فيه غلط من هؤلاء وتغليط من أولئك وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله أصل هذا النقل لما ذكر مبدأ حدوث الجهمية في هذه الملة فقال وكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من الترمذ وكان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في الله تعالى فلقي ناسا من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم فقالوا له نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له ألست تزعم أنه لك إلاها قال الجهم نعم فقالوا له هل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حسا قال لا قالوا فوجدت له مجسا قال لا قالوا فما يدريك أنه إله فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما ثم إنه استدرك حجة مثل حجة الزنادقة من النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح التي في عيسى صلى الله على نبينا وعليه هي من روح الله تعالى ومن ذات الله تعالى فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان فيأمر بما يشاء وينهى عما شاء وهو روح غائب عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني أسلت تزعم أن فيك روحا قال نعم قال فهل رأيت روحك قال لا قال سمعت كلامه قال لا قال فوجدت له حسا أو مجسا قال لا قال فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا تشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله ^ ليس كمثله شيء ^ ^ وهو الله في السموات وفي الأرض ^ و ^ لا تدركه الأبصار ^ فبنى أصل كلامه كله على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف من الله شيئا مما وصف به نفسه أو حدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كافرا وكان من المشبهة فأضل بشرا كثيرا # فقد ذكر بأن السمنية طالبوه بأن يكون إلاهه معروفا ببعض حواسه الخمس وأن مالا يعرفه هو بشيء من حواسه الخمس فإنه لا يعلمه وهذا يقتضي أنما لا يحسه الإنسان بشيء من حواسه الخمس فإنه لا يعرفه وهذا تغليظ منهم وظن أنهم يقولون إن مذهبهم أن الإنسان لا يعرف شيئا إلا ما يحسه ببعض حواسه الخمس ثم إن الجهم أجابهم بدعوى وجود موجود لا يمكن إحساسه أيضا فقطعهم مع غلطه في المناظرة ومغالطتهم أيضا ولو كانوا هم لا يقرون إلا بما أحسه أحدهم لم يكونوا قد انقطعوا بمثل هذه المناظرة لأن غايتها إثبات وجود موجود غير محسوس فيقاس الرب عليه فلو لم يكونوا يقرون بشيء من القياس العقلي لما سمعوا مثل هذا الكلام ولا أمكن مخاطبتهم به كما لا يمكن أن يحتج بقول الأنبياء على من كذبهم # ولا يقال هو أقام الحجة عليهم ببيان وجود موجود غير محسوس ثم قاس عليه لأنه يقال لو كان من أصلهم أنهم لا يقبلون القياس في المحسوس لكانوا لا يقبلونه فيما لزمهم القول به من غير المحسوس وكانوا يقولون هذا يعلم وجوده كما ذكرت فمن أين يجب علينا أن نعترف بنظيره إذا كان من أصلهم أن الشيء لا يعرف حكمه من جهة النظير # بل الذي يقال إن القوم كانوا يقولون لا يكون شيء موجودا إلا أن يمكن إحساسه فلا يصدق الإنسان بوجود مالا يمكن معرفته بشيء من الحواس لا يقولون الإنسان المعين لا يعلم إلا ما أحسه هو بل ينكر ما أخبره جميع الناس من الأمور التي تماثل ما أحسه وينكر أيضا وجود نظير ما أحسه أو لا يمكنه الاعتراف بذلك فإن هذا لا يتصور أن تقوله طائفة مدنية وقد ذكر هذا المتكلمون فقالوا إن الطائفة التي تبلغ مبلغ التواتر لا يتفقون على إنكار ما يعرف بالضرورة كما ذكر المؤسس في هذا الكتاب إن الطائفة العظيمة من العقلاء لا يجتمعون على إنكار الضروريات فلا ينقلهم ذلك السلب العام عن طائفة من العقلاء ولا يبين به أن طوائف العقلاء يقعوا في شيء من هذا السلب وكلا الأمرين باطل بل التحقيق أن العقلاء لا يتفقون على إنكار العلوم الضرورية من غير تواطئ واتفاق كما لا يتفقون على الكذب من غير تواطئ ولا اتفاق وذلك أن الله تعالى خلق الإنسان يعلم الأمور الضرورية بغير اختياره كم يجهل بعضها وخلقه بفطرته يخبر بما يعلمه إلا لمعارض يغيره عن فطرته وكذلك خلقه بفطرته يريد العدل والمصلحة إلا لمعارض فهو وإن كان ^ ظلوما جهولا ^ فذاك في كثير من الأمور أما أن تكون أمة من الأمم تجهل كل شيء أو تكذب في كل شيء أو تظلم في كل شيء فهذا لا يتفق أبدا فإن اجتماع بني آدم في الدنيا وهو الاجتماع الفطري الطبيعي الذي لا يعيشون بدونه لا يتصور مع هذا الإنكار وذلك أنهم لا بد أن يقروا بأن لأحدهم أبا وأخا ونحو ذلك ومن المعلوم أنه لم يعرف بحسه إحبال أبيه لأمه ولا ولادة أمه له وكذلك لم يحس ولادة أهله وأهل مدينته مع أنه لا بد لهم من اعتراف أن هذه أم فلان وهذا ابنها وإنما يشهد الولادة في العادة بعض النساء وكذلك لا بد أن يعرف أن آباءهم وأمهاتهم مولودون وأن أجدادهم ماتوا وأن الناس يموتون في الجملة ولم يحس كل منهم موت من غاب عنه ولا أن أحدهم يستعين بالآخر لجلب منفعة ودفع مضرة مباينة فيصلح له طعاما وشرابا أو لباسا ويحصل ذلك بأنواع الصناعات والمعاوضات الذي لم يشهد بحسه تفاصيل ذلك بل يستفيده من إخبار المباشرين له وكذلك ما يكون في قريته ومدينته من أحوال أهلها وصناعتهم وأحوالهم التي تتعلق مصلحته بها لا يعرف كل منهم كل شيء في ذلك بالمشاهدة بل بعضهم يشهد ذلك ويخبر غيره حتى يخبر بعضهم بعضا بالمدائن القريبة منهم وأحوالها ولا يخفى على سليم العقل أن الطعام الذي يأكله واللباس الذي يلبسه قد أوتي به إليه من مكان لم يشهده وصنع بأساب متنوعة لم يشهد عامتها وكذلك لا بد لكل مة من رئيس مطاع وكبير منهم لا يشهدونه وأكثرهم لا يشهدون تفاصيل أحواله التي تتعلق مصالحهم بها وإنما يتسامعون بها ولهذا جاءت الشريعة بقبول شهادة الاستفاضة في هذا وأمثاله كالموت والنسب باتفاق الفقهاء وإن كان لهم فيما يقبل فيه غير ذلك أقوال مختلفة # ففي الجملة قبول الأخبار المستفيضة والمتواترة ونحو ذلك فيما يحس جنسه هو من الأمور الفطرية الضرورية لبني آدم كما أن الأكل والشرب والنكاح لهم كذلك فمن قال إن أمة من الأمم عاشت بدون هذه العلوم والأقوال كمن قال إنها عاشت بدون هذه الحياة وهذه الأفعال # ولكن اشتبه النوع بالشخص فلما كان قولهم إنما لا يعرف بجنس الحواس لم يعترف به اشتبه ذلك بأن كل من لا يعرف هذا الجنس المعين لم يعترف به وبين القولين بون عظيم جدا فإن هذا الثاني في غاية الجحد والتكذيب ولهذا اشتد إنكار الناس كلهم لهذا القول وجعل هؤلاء المتكلمين هذا أحد أنواع السفسطة # ولكن غلطهم في تفصيل السفسطة كغلطهم في جملتها فإنهم ذكروا أن من الناس من ينكر جملة العلوم ويجحدها ومنهم من يشك ويقول لا أدري ويسمونهم المتجاهلة واللاأدرية ومنهم من يقول إن الحقائق تتبع العقائد ثم قالوا منهم من يعترف بالحسيات فقط ومنهم من يضم إلى ذلك المتواترات ويقولون إن رئيس هؤلاء شخص يقال له سفسطاء نسبوا إليه كما نسبت المانوية والجهمية إلى رئيسهم وهذا غلط فإن أمة من الأمم لا يتصور أن تنكر ذلك ولا يتصور أن عاقلا يصر على إنكار ذلك ولكن قد يعرض للعقل نوع من الفساد كما يعرض للحس فينكر المنكر لذلك ما دام به ذلك المرض والآفة العارضة لعقله أو حسه أما أن يكون ذلك مقالة ومذهبا يقولها طائفة عقلاء يعيشون بين بني آدم فهذا لا يتصور ولكن وقع اشتباه في هذا النقل فإن هذه الكلمة هي كلمة معربة وأصلها باليونانية سوفسقيا أي حكمة مموهة فإن سوفيا باليونانية هي الحكمة ولهذا يقولون فيلسوف أي محب الحكمة # وهم قسموا الحكمة القياسية إلى خمس أنواع برهانية وخطابية وجدلية وشعرية ومموهة ومفلطية فهذه المموهة المغلطية هي التي تشبه الحق وتوهم أنها حق باطلة قطعا لا يجوز أن يظن صدقها ولا أن تتأثر النفس عنها فإن الشعرية قد تتأثر النفس عنها كما يتأثر الإنسان عن أقوال الشعر التي فيها من المدح والذم ما يجزم عقله بكذبه لكن لما فيها من التخيل والتشبيه يؤثر في النفس وإن علم أنها ليست مطابقة وأما هذه المموهة فهي تشبه الحق البرهاني ونحوه مما ينبغي قبوله وهي في الحقيقة باطلة يجب ردها ولكن موهت كما يموه الحق بالباطل فسموها سوفسقيا أي حكمة مموهة # ثم إنه لما عربت الكتب اليونانية في حدود المأة الثانية وقبل ذلك وبعد ذلك وأخذها أهل الكلام وتصرفوا فيها من أنواع الباطل في الأمور الإلهية ما ضل به كثير منهم وفيها من أمور الطب والحساب مالا يضر كونه في ذلك وصار الناس فيها أشتاتا قوم يقبلونها وقوم يحلون ما فيها وقوم يعرضون ما فيها على أصولهم وقواعدهم فيقبلون ما وافق ذلك دون ما خالفه وقوم يعرضونها على ما جاءت به الرسل من الكتاب والحكمة وحصل بسبب تعريبها أنواع من الفساد والاضطراب مضموما إلى ما حصل من التقصير والتفريط في معرفة ما جاءت به الرسل من الكتاب والحكمة حتى صار ما مدح من الكتاب والسنة من مسمى الحكمة يظن كثير من الناس أنه حكمة هذه الأمة أو نحوها من الأمم كالهند وغيرهم ولم يعلموا أن اسم الحكمة مثل اسم العلم والعقل والمعرفة والدين والحق والباطل والخير والصدق والمحبة ونحو ذلك من الأسماء التي اتفق بنو آدم على استحسان مسمياتها ومدحها وإنما تنازعوا في تحقيق مناطها وتغيير مسمياتها فإن كل أمة من أهل الكتب وغير أهل الكتب تسمي بهذه الأسماء ما هو عندها كذلك من القول والعمل وإن كانت في كثير من ذلك أو أكثره إن تتبع ^ إلا الظن وما تهوى الأنفس ^ ولهذا قال تعالى وتقدس ^ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ^ فإنما يفصل النزاع بين الآدميين كتاب منزل من السماء ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين عند تنازعهم بالرد إليه كما قال تعالى وتقدس ^ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ^ وهذا ونحوه مبسوط في غير هذا الموضع # وإنما المقصود هنا أن الناقلين للمقالات وأهل الجدل صاروا يعيرون باللفظة المعربة من سوفسقيا وهي سوفسطا عن هذا المعنى الذي يتضمن إنكار الحق وتمويهه بالباطل وظن من ظن أن هذا قول ومذهب عام لطائفة في كل حق وليس الأمر كذلك وإنما هو عارض لبني آدم في كثير من أمورهم فكل من جحد حقا معلوما وموه ذلك بباطل فهو مسفسط في هذا الموضع وإن كان مقرا بأمور أخرى وهو معاند سوفسطائي إذا علم ما أنكره قال تعالى وتقدس ^ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ^ فهؤلاء سفسطائيون في هذا الجحود وإن كانوا مقرين بأمور أخرى وقال تعالى وتقدس ^ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ^ ولهذا كان جمهور من كذب بالحق الذي بعث به رسله من ذوي التميز هم من الجاحدين المعاندين وهم من شر السوفسطائين # فهكذا ما ذكروه عن السمنية إنما كان أصل قولهم أن الموجود لا بد أن يمكن أن يكون محسوسا بإحدى الحواس لا أنه لا بد لمن أقر به أن يحس به |
# وهذا الأصل الذي قالوه عليه أهل الأثبات فإن أهل السنة والجماعة المقرين بأن الله تعالى يرى متفقون على أن مالا يمكن معرفته بشيء من الحواس فإنما يكون معدوما لا موجودا # فكان حق الجهم أن يقول لهم إن أردتم أني لا بد أن أحس بإلاهي فلا يجب عندكم أن ينكر الإنسان ما لم يحسه هو وإن أردتم أنه لا بد أن يمكن أن يحس به فإلاهي يمكن أن يرى وأن يسمع كلامه وإن أردتم أنه لا بد أن يكون قد عرفه بالحس بعض الآدميين فهذا مع أنه غير واجب فقد سمع كلامه من سمعه من الرسل وهو أحد الحواس وقد رواه بعضهم أيضا عند كثير من أهل الأثبات وكان يقول لهم أتريدون أنه لا بد أن يحسه هذا الحس الظاهر أم يكفي إحساس الباطن إياه وشهوده إياه الأول منقوض بأحوالنا الباطنية الجسمانية والنفسانية وأما الثاني فمسلم وقد شهدته بعض القلوب # فعدل عن ذلك وادعى وجود موجود لا يمكن إحساسه وهو الروح وهذا هو قول المتفلسفة المشائين فيها وحجته هذه من جنس حجة أبي عبدالله الرازي لما ادعى جواز وجود موجود لا يمكن إحساسه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه واحتج على ذلك بقول هؤلاء المتفلسفة ومن وافقهم في العقول والنفوس ويقول بقولهم وقول من وافقهم من متكلمي المسلمين في النفس الناطقة فجهم أول هؤلاء ومقدمهم الأول ولهذا ألزمته هذه الحجة أن يصف الرب تعالى وتقدس من الحلول والاتحاد بنحو مما قالته النصارى في المسيح لكن أولئك خصوه
بالمسيح والجهمية تطلقه في الموجودات فقولهم في كل مكان نظير قول النصارى إنه حال في المسيح # إذا تبين ذلك فنقول المتكلمون والفلاسفة كلهم على اختلاف مقالاتهم هم في قياس الغائب على الشاهد مضطر بين كل منهم يستعمله فيما يثبته ويرد على منازعه ما استعمله في ذلك وإن كان قد استعمل هو في موضع آخر ما هو دونه وسبب ذلك أنهم لم يمشوا على صراط مستقيم بل صار قبوله ورده هو بحسب القول لا بحسب ما يستحقه القياس العقلي كما تجدهم أيضا في النصوص النبوية كل منهم يقبل منها ما وافق قوله ويرد منها ما خالف قوله وإن كان المردود من الأخبار المقبولة باتفاق أهل العلم بالحديث والذي قبله من الأحاديث المكذوبة باتفاق أهل العلم والحديث فحالهم في الأقيسة العقلية كحالهم في النصوص السمعية لهم في ذلك من التناقض والاضطراب مالا يحصيه إلا رب الأرباب # وأما السلف والأئمة فكانوا في ذلك من العدل والاستقامة وموافقة المعقول الصريح والمنقول الصحيح بحال آخر فالعصمة وإن كانت شاملة لجماعتهم فآحادهم مع ذلك لا يجترؤون في مخالفة النصوص المشهورة والمعقولات المعروفة على ما يجترئ عليه هؤلاء المسفسطون وكانوا يستعملون القياس العقلي على النحو الذي ورد به القرآن في الأمثال التي ضربها الله تعالى للناس فإن الله ضرب للناس في القرآن من كل مثل وبين بالأقيسة العقلية المقبولة بالعقل الصريح من المطالب الآلهية والمقاصد الربانية مالا تصل إليه آراء هؤلاء المتكلمين في المسائل والوسائل في الأحكام والدلائل كما قد تكلمنا على ذلك في غير موضع # والله تعالى له المثل الأعلى فلا يجوز أن يقاس على غيره قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع ولا يقاس مع غيره قياس شمول تستوي أفراده في حكمه فإن الله سبحانه ليس مثلا لغيره ولا مساويا له أصلا بل مثل هذا القياس هو ضرب الأمثال لله وهو من الشرك والعدل بالله وجعل الند لله وجعل غيره له كفوا وسميا وهم مع هذا كثير والبراءة من التشبيه والذم له وهم في مثل هذه المقاييس داخلون في حقيقة التمثيل والتشبيه والعدل بالله وجعل غيره له كفوا وندا وسميا كما فعلوا في مسائل الصفات والقدر وغير ذلك ولهذا ذكر الوزير أبو المظفر ابن هبيرة في كتاب الإيضاح في شرح الصحاح أن أهل السنة يحكون أن النطق بإثبات الصفات وأحاديثها يشتمل على كلمات متداولات بين الخالق وخلقه وتحرجوا من أن يقولوا مشتركة لأن الله تعالى لا شريك له بل لله المثل الأعلى وذلك هو قياس الأولى والأحرى فكلما ثبت للمخلوق من صفات الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه لأنه أكمل منه ولأنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه لأنه أكمل منه ولأنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال فالمعطي الكمال لغيره أولى وأحرى أن يكون هو موصوفا به إذ ليس أعطى وأنه سلب نفسه ما يستحقه وجعله لغيره فإن ذلك لا يمكن بل وهب له من إحسانه وعطائه ما وهبه من ذلك كالحياة والعلم والقدرة وكذلك ما كان منتفيا عن المخلوق لكونه نقصا وعيبا فالخالق هو أحق بأن ينزه عن ذلك وقد بسطت هذه القاعدة في غير هذا الموضع # وعلى هذا فجميع الأمور الوجودية المحضة يكون الرب أحق بها لأن وجوده أكمل ولأنه هو الواهب لها فهو أحق باتصافه بها وجميع الأمور العدمية المحضة يكون الرب أحق بالتنزيه عنها لأنه عن العدم أبعد من سائر الموجودات ولأن العدم ممتنع لذاته على ذاته وذاته بذاته تنافي العدم وما كان فيه وجود وعدم كان أحق بما فيه من الوجود وأبعد عما فيه من العدم فهذا أصل ينبغي معرفته فإذا أثبت له صفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وغير ذلك بهذه الطريق القياسية العقلية التي لله فيها المثل الأعلى كان ذلك اعتبارا صحيحا وكذلك إذا نفي عنه الشريك والولد والعجز والجهل ونحو ذلك بمثل هذه الطريق ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يستعملون مثل هذه الطريق في الأقيسة العقلية التي ناظروا بها الجهمية # وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن كون الموجود قائما بنفسه أو موصوفا أو أن له من الحقيقة والصفة والقدرة ما استحق به ألا يكون بحيث غيره وأن لا يكون معدوما بل ما أوجب أن يكون قائما بنفسه مباينا لغيره وأمثال ذلك هو من الأمور الوجودية باعتبار الغائب فيها بالشاهد صار على هذا الصراط المستقيم فكل ما كان أقرب إلى الوجود كان إليه أقرب وكلما كان أقرب إلى المعدوم فهو عنه أبعد # الوجه الثاني أن يقال من المعلوم أن لفظ الوجود هو في أصل اللغة مصدر وجدت الشيء أجده وجودا ومنه قوله تعالى ^ فلم تجدوا ماءا ^ وقوله ^ حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده ^ وقوله ^ ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ^ وأمثال ذلك فالموجود هو الذي يحده الواجد فنسبة الموجود إلى الوجود كنسبة المعلوم إلى العلم والمذكور إلى الذكر والمحس المحسوس إلى الحس والمشهود والمرئي إلى الرؤية وهذا الاسم إنما يستحقه من يكون موجودا لواجد يجده لكن هم في مثل هذا قد يقولون مشهود ومرئي وموجود ونحو ذلك لما يكون بحيث يشهده الشاهد ويراه الرائي ويجده الواجد وإن تكلموا بذلك في الوقت الذي لا يكون فيه يشهده ويراه ويجده غيره وقد لا يقولون هذا إلا في الوقت الذي يشهده الشاهد ويراه الرائي ويجده الوجد وكثيرا ما يقصدون به المعنى الأول فيطلقون الموجود على ما هو كائن ثابت لكونه بحيث يجده الواجد # وكذلك لفظ الوجود يريدون بها تارة المصدر الذي هو الأصل فيها ويريدون بها تارة المفعول أي الموجود كما في لفظ الخلق ونحوه وكذلك لفظ الفعل فإنهم يقولون وجد هذا وهذا صيغة فعل مبني للمفعول فقد يريدون بذلك أنه وجده واجد وقد يريدون بذلك أنه كان وحصل حتى صار بحيث يجده الواجد ثم لما صار هذا المعنى هو الغالب في قصدهم صار لفظ الموجود عندهم والوجود يراد به الثبوت والكون والحصول من غير أن يستشعر فيه وجود واجد له لا بالفعل ولا بالاستحقاق فهذه ثلاث معان لكن غروب هذا المعنى عن الذهن إنما كان لما لم يقصد الناطق إلا نفس الكون والثبوت وإن كان المعنى الآخر لازم له # وحينئذ فنقول اتفاق الناس على استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى دليل على تلازمها فكما أن كل ما وجده واجد فله حصول في نفسه فكما له حصول في نفسه فإنه بحيث يجده الواجد ولا يجوز أن يسمى بالموجود ما يكون حيث لا يجده الواجد لأن هذا سلب لمعنى اللفظ الذي به صح إطلاقه على هذا المسمى كما أن اسم الحي والعالم والقادر لما أطلقوه على المسمى باعتبار كونه عالما وحيا وقادرا لم يجز أن تخرج هذه المعاني من هذه الأسماء ولهذا كثيرا ممن أطلق هذا الاسم على الله تعالى لا يريد به إلا ما فيه من معنى الإضافة مثل قول الداعي يا مقصود يا موجود وقول المذكر والداعي يا من يجيب من قصده أو من طلب الله صادقا وجده وعلى هذا دل قوله ^ حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده ^ فإنما دل على هذا المعنى بلفظ الفعل الماضي وهو قوله ^ ووجد الله عنده ^ لكنه عداه إلى مفعولين وإذا كان كذلك علم أنه يجب أن يكون بحيث يجده القاصد والطالب ويجده الواجدون وهذا بعينه هو أنه بحيث يحسونه فإن وجود الشيء وإحساسه متلازمان بل هو هو لا يستعمل لفظ موجود ووجدته فيما لا يحس ولا يمكن الإحساس به البتة # وهذا معنى احتجاج المثبتة بهذا كما قال القاضي أبو يعلى حيث قال في قوله الآخر أثبت الجهة بعد أن كان ينفيها ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقولون ليس هو في جهة ولا خارج منها وقائل هذا بمثابة من قال إثبات موجود مع وجود غيره لا يكون أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده قال ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم فبينوا أن المستقر في فطر الناس أن قولهم طلبته فلم أجده في موضع ما هو يدل على أنهم لم يحسوه في أين من الأيون هذا بمنزلة قولهم فإذا هو معدوم لأن ضد المعدوم هو ما يكون حيث يجده الواجد وقولنا بحيث يجده الواجد هو إشارة إلى الأين الذي يوجد فيه فمالا أين له ولا حيث يمتنع أن يجده الواجد وما امتنع لأن يجده الواجد لم يكن موجودا بل كان معدوما كما بين أن نفي الأين والحيث ونحوهما من الظروف من جميع الوجوه كنفي المقارنة بالقبل والبعد والمع ومعلوم أن هذا لا ينطبق إلا على المعدوم فكذلك الآخر # والذي يحقق هذا أنك لست تجد أحدا من أهل الفطر السليمة مع ذكائه ونظره وجودة تصوره إلا إذا بينت له حقيقة قول السالبة قال هذا لا شيء ولهذا كثر كلام الناس فيهم بالخبر عنهم بأنهم معطلون وأنهم أعدموه وأمثال ذلك وقد استقرئت أنا في طوائف من الآدميين فوجدت فطرهم كلهم على هذا # الوجه الثالث أن يقولوا نحن نعلم بالضرورة العقلية أن الموجود إما أن يكون موصوفا وإما أن يكون صفة أو نعلم أن القائم بنفسه لا يكون إلا موصوفا وهذا متفق عليه بين الصفاتية ومن نازع في ذلك قيل له أنت توافقنا على ما هو معلوم بالفطرة من أن الموجود القائم بنفسه لا بد أن يوصف أي يخبر عنه بما هو مختص به متميز به عن غيره إذ الموجود في الخارج لا يكون مرسلا مطلقا لا يتميز بشيء بل فساد هذا معلوم بالضرورة باتفاق العقلاء المتفقين على أن الكلي لا يكون في الخارج كليا مطلقا بل لا يكون إلا مخصوصا معينا وإذا كان كذلك فلا يعني بالموصوف إلا ما يوصف سواء قيل إن الصفة ذاتية أو معنوية كقولنا الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وكذلك نعلم أن الموجود إما جسم وإما عرض وإما متحيز وإما قائم بمتحيز لمن كان يفهم معاني هذه العبارات الاصطلاحية فإن من فهم هذا وهذا وهذا وتصوره تصورا تاما حصل له حينئذ العلم البديهي والضروري الفطري فإن العلم البديهي يعنون به ما كان تصور طرفيه كافيا في التصديق به فعدم التصديق به كثيرا ما يكون لعدم التصور الصحيح للطرفين وهذه العبارات المجملة قد لا يتصور أكثر الناس من إذا هل الاصطلاح بها فإذا تصوروا معناها ومعنى الموصوف والقائم بنفسه كان علمهم بهذا كعلمهم بهذا كل ذلك فطري ولذلك اتفق على ذلك محققو المثبتة ومحققو النفاة أما النفاة العقلاء من المتفلسفة والقرامطة وأهل الوحدة وأمثال هؤلاء فقد علموا أنهم مضطرون إلى أن يقولوا هو الوجود المطلق وهو لا يتعين ولا يتخصص ولا كذا ولا كذا لعلمهم بأنه متى كانت له حقيقة معينة في الخارج وخاصة تميزها لزم أن يكون جسما متحيزا داخل العالم أو خارجه وهم قد يسلمون نفي ذلك فصاروا دائرين بين المعنى الذي سموه تجسيما وبين هذا النفي والتعطيل فذهبوا إلى هذا لكنهم ظنوا إمكان وجود ما أثبتوه في الخارج وجميع العقلاء يعلمون بالفطرة الضرورية استحالة وجود مطلق في الخارج ويعلمون أن المطلق بشرط الإطلاق وجوده في الأذهان لا في الأعيان وهؤلاء أيضا يعلمون ذلك إذا تدبروه ورجعوا إلى ما معهم من العلوم الفطرية الصحيحة العقلية # ولهذا لما خاطبت بهذا غير واحد من أفاضل أهل الوحدة الكبار وثبت هذا لهم تبين الأمر وعلموا من أين دخل الداخل على من كان عندهم أئمة العالم في التحقيق والعرفان ومن كان حاذقا في هذه الأمور منهم يقول ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صرائح العقول ولذلك عبر هذا بالكشف والذوق والمشاهدة وهذا لا يحصل إلا بالرياضة والمجاهدة والخلوة ونحو ذلك من الطرق العبادية الزهدية الصوفية # وقلت لبعض أكابرهم لما خاطبني في هذا وكان مهتما في ذلك وطلب مني أن لا أخاطبه بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وقال أنا لا أقول إنها خبر والخبر محتمل لكن أمور أخرى وكنت علمت من حاله ما علمت معه ضعف تلك الأدلة في نفسه وكان مخاطبته بالأمور العقلية أيسر عليه وأبين له وإن كان ذلك مما بينه كتاب الله تعالى الذي ضرب للناس فيه من كل مثل وجعله حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه وأخبر المؤمنين عند التنازع ^ في ظلمات ^ و ^ في قول مختلف يؤفك عنه من أفك ^ وقال ^ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ^ كما قال تعالى ^ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ^ ونحو ذلك مما يبين أن القول المختلف باطل وذم من لا يعقل مثل ذلك ويعمى عن الحق المعقول فقلت له لا نزاع في أنه قد يحصل من العلم بالكشف والمشاهدة مالا يحصل بمجرد العقل سواء كان للأنبياء فقط أو للأنبياء والأولياء أو لهم ولغيرهم لكن يجب الفرق بين ما يقصر العقل عن دركه وما يعلم العقل استحالته بين مالا يعلم العقل ثبوته وبين ما يعلم العقل انتفاءه بين محارات العقول ومحالات العقول فإن الرسل صلوات الله عليهم وسلامه قد يخبرون بمحارات العقول وهو ما تعجز العقول عن معرفته ولا يخبرون بمحالات العقول وهو ما يعلم العقل استحالته قلت وهذا بين واضح فلو قال قائل إنه يعلم بالكشف والذوق والمشاهدة أو بالأخبار عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو غير ذلك أن الواحد ليس نصف الاثنين وأن الواجب لذاته يكون ممتنعا لذاته وأن المخلوق يماثل الخالق في الحقيقة وأن الوجود كله ممكن الوجود ليس في الوجود وجود واجب ولا وجود قديم ونحو ذلك من القضايا التي يعلم العقل وجوبها وامتناعها وإمكانها فمن ادعى أنه يعلم بالكشف والبصر أو بالسماع والخير عن الأنبياء عليهم السلام ما ينافي هذا كانت هذه الدعوى باطلة فلما بينت له ذلك اعترف بهذا الأصل وبه يتبين زيف هؤلاء فلما تقرر هذا ثبت له أن العقل الصريح يمنع أن يكون في الخارج وجود كلي مطلق بشرط الإطلاق وأن الكليات بشرط إطلاقها أو عمومها إنما وجودها في الأذهان لا في الخارج وكان عارفا بهذه العلوم وبينت له ما تستلزم أقوالهم الكثيرة من الجمع بين المتناقضات التي هي معلوم استحالتها ببداية العقول وما كان كذلك فإذا ادعى أنه عرفه كشفا وشهودا أو ذوقا علم أنه خيالات فاسدة وأذواق فاسدة وذلك أنه لا بد من أحد الأمرين إما أن يكون قد شهد ما وجوده في الأذهان فاعتقد وجوده في الأعيان كما يقع لكثير من الناس ومعلوم أن شهود الشيء غير العلم بكونه في النفس أو الخارج وهؤلاء قد يحصل لهم مجرد الشهود من غير تمييز بين الموجود في النفس أو الخارج وكثيرا ما يضلهم الشيطان بتخيلات لا حقيقة لها في الخارج وإما أن يكون قد شهد ما وجوده في الخارج فظن أنه الخالق وإنما هو مخلوق ليس هو الخالق فكل شهود وذوق وكشف يدعى فيه أن المشهود بالقلب هو الله وذلك مما يناقض المعلوم بصريح العقل ويخالف الكتاب والسنة والإجماع فإنه يكون المشهود به إما في الذهن وإما في الخارج ولكن ليس هو الله ولا هو ما يقال هو وجوده ولا ذاته وبسط الكلام في هذا له موضع آخر # فإن المؤسس وأمثاله وإن كانوا هم وهؤلاء يشتركون في إنكار الأصل وهو إنكار حقيقة وجود الله ومباينته لخلقه الذي يستلزم إنكاره هذه المقالات المتناقضة وفي الإقرار يثبتون ما يخالف ذلك من الأمور الممتنعة لكن هو وأمثاله لا يقولون بهذا ويسلمون أنه ليس وجودا مطلقا بل له حقيقة تختص به يمتاز بها عن من سواه # ولكن المقصود بيان أنه هو وأمثاله كما يعلمون بصريح العقل بطلان قول هؤلاء النفاة فالمثبتة يعلمون بصريح العقل امتناع أن يكون موجودا معينا مخصوصا قائما بنفسه ويكون مع ذلك لا داخل العالم ولا خارجه وأنه في اصطلاحهم لا جسم ولا عرض ولا جسم ولا متحيز كما يعلمون أنه يمتنع أن يقال إنه لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره فإنك إذا استفسرتهم عن معنى التحيز ومعنى الجسم فسروه بما يعلم أنه الموصوف بأنه القائم بنفسه ولهذا لا يعقل أحد ما هو قائم بنفسه إلا ما يقولون هو متحيز وجسم فدعوى المدعين وجود موجود ليس بمتحيز ولا جسم ولا قائم بمتحيز أو جسم مثل دعواهم وجود موجود ليس قائما بنفسه ولا قائما بغيره # وهذا يتبين بالوجه الرابع وهو أن يقال هم لا ينازعون أن الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره والله سبحانه وتعالى قائم بنفسه وإن نازعوا في وصف غيره بأنه قائم بنفسه لتنازعهم في أن القائم بنفسه هل يراد به الموجود المستغني عن المحل أو المستغني عن المحل والمخصص والمكان وغير ذلك لكن المقصود هنا أنه لا يعقل ما هو قائم بنفسه بمعنى أنه غير حال في محل إلا ما هو مختص بما يقولون إنه جهة وإن كان حقيقته أمرا عدميا وما تصح عليه المحاذاة على اصطلاحهم وما هو في اصطلاحهم جسم ومتحيز هو المعدوم في صرائح العقول ومن قيل له هل تعقل شيئا قائما بنفسه ليس في محل وهو مع هذا ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ومع هذا إنه لا يجوز أن يكون فوق غيره ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا أمامه ولا وراءه وأنه لا يكون مجامعا له ولا مفارقا له ولا قريبا منه ولا بعيدا عنه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مماسا له ولا محايثا له وأنه لا يشار إليه بأنه هنا أو هناك ولا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يرى منه شيء دون شيء ونحو ذلك من الأوصاف السلبية التي يجب أن يوصف بها ما يقال إنه ليس بجسم ولا متحيز لقال حاكما بصريح عقله هذه صفة المعدوم لا الموجود كما سمعنا ورأينا إنه يقول ذلك عامة من يذكر له ذلك من أهل العقول الصحيحة الذكية وكما يجده العاقل في نفسه إذا تأمل هذا القول وأعرض عما تلقنه من الاعتقادات السلبية وما اعتقده من يعظمها ويعظم قائلها واعتقاده أنهم حرروا هذه المعقولات فإن هذه العقائد التقليدية هي التي تصد القلوب عما فطرت عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه # ثم إن هذه المقالات السلبية لم يقل شيئا منها إمام من أئمة المسلمين ولا نطق بها كتاب ولا سنة والطوائف المتكلمون قد أنكرها من حذاقهم من لا يحصيه إلا الله # فإن قيل الاستغناء عن المحل وصف سلبي فإذا كان القيام بالنفس وصفا سلبيا لم يدل على معنى ثبوتي وهو كونه متحيزا أو جسما # قال له منازعه أولا هذا منقوض بوصف الأجسام والجواهر بأنها قائمة بنفسها غنية عن المحل فإن هذا السلب يستلزم هذا الثبوت # وقالوا ثانيا نحن لم نجعل نفي السلب هو الثبوت وإنما قلت الشيء الموجود المحكوم عليه المخبر عنه بهذا السلب هو الذي يعلم القلب أنه محكوم عليه مخبر عنه بهذا الثبوت ونعلم أن لا يكون هذا السلب عن أمر موجود إلا مع هذا الثبوت # وقالوا ثالثا المستلزم لهذا الثبوت هو الأمر الوجودي المسلوب عنه المحل فهذا الأمر الوجودي هو الذي سموه المتحيز والجسم وقالوا رابعا وهو الوجه الخامس إن القائم بنفسه لا يقوم بالقائم بنفسه ولا يكونان في حيز واحد بل كل منهما يمتنع أن يكون بحيث هو الآخر وهذا معنى قول المتكلمين إن الأجسام لا تتداخل ولما ذكروا عن النظام أنها تتداخل قالوا هذا قريب من جحد الضرورة ومن قال تتداخل لم يرد المعنى الذي يعلم بالضرورة بطلانه ولكن النظام جعل أعراض الجسم غير الحركة أجساما كاللون والطعم والريح وهذه متداخلة في محل واحد وهذا لا نزاع فيه وإنما النزاع في تسميته أجساما فأما الجسم القائم بنفسه فلم يقل أحد أنه يداخل مثله بل إذا تحلل في تضاعيف غيره زاد ذلك الغير في نفس حجمه وإذا كان القائمان بأنفسهما لا يكون أحدهما بحيث الآخر وإن كان القيام بالنفس عبارة عن عدم المحل فمعلوم أن كل واحد منهما له حيث يخصه وهو حيزه أو له قدر يخصه وجسم يخصه ونحو ذلك من العبارات وذلك مانع من المحايثة والمداخلة وإلا فإذا قدر أن كلا من الصفتين عدمي فالأمور العدمية لا تكون مانعة من الأمور الوجودية # والمتكلمون قد ذكروا تعليق منع كون الجسم بحيث الجسم الآخر فقال المعتزلة وطائفة من الصفاتية المانع منه التحيز والموجب لهذا الامتناع التحيز وعلى هذا فيجب نفي الحكم لانتفاء علته فما لا يكون متحيزا لا يكون مانعا من ذلك ما ذكرناه وقال بعضهم الموجب لذلك تضاد كونهما وعلى هذا فما لا يكون لا يضاد غيره والأكوان إنما تكون للأجسام باتفاقهم وهو ظاهر وقال بعضهم الاستحالة والامتناع لا يعلل أي هي ثابتة للذات وعلى هذا فالمعلوم إن ذلك ثابت للذوات المتحيزة فما لا يكون متحيزا لا تعقل فيه هذه الاستحالة وعلى كل تقدير فيجب أن يكون ما ليس بمتحيز إذا كان قائما بنفسه أن لا يكون مانعا لغيره أن يداخله وهذا باطل قطعا وإذا كانت القلوب تعلم بالضرورة أن القائم بنفسه مانع لغيره من المداخلة وهذا الحكم مختص بالمتحيز علم أنها لا تعلم قائما بنفسه إلا المتحيز # الوجه السادس أن يقال ما علم به أن الموجود الممكن والمحدث لا يكون إلا جسما أو عرضا أو لا يكون إلا جوهرا أو جسما أو عرضا أو لا يكون إلا متحيزا أو قائما بمتحيز أو لا يكون إلا موصوفا أو لا يكون إلا قائما بنفسه أو بغيره يعلم به أن الموجود لا يكون إلا كذلك فإن الفطرة العقلية التي حكمت بذلك لم تفرق فيه بين موجود وموجود ولكن لما اعتقدت أن الموجود الواجب القديم يمتنع فيه هذا أخرجته من التقسيم لا لأن الفطرة السليمة والعقل الصريح مما يخرج ذلك ونحن لم نتكلم فيما دل على نفي ذلك عن الباري فإن هذا من باب المعارض وسنتكلم عليه وإنما المقصود هنا بيان أن ما به يعلم هذا التقسيم في الممكن والمحدث هو بعينه يعلم به التقسيم في الموجود مطلقا والمعتزلة ومن اتبعهم الذين يخرجون القديم من هذا التقسيم مما اعتقدوه لما اعتقدوه وهذا قول طائفة من الفلاسفة لا جميعهم وكذلك ذاك قول طائفة من المتكلمين لا جميعهم وكما أن قول هؤلاء الفلاسفة لم يكن مانعا للمتكلمين ومن وافقهم من الفلاسفة من هذا التقسيم فكذلك قول هؤلاء المتكلمين ليس مانعا لمن خالفوه من جماهير الناس وأهل الكلام والفلسفة من هذا التقسيم # ولهذا قال أئمة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والنجارية والضرارية ومن أخذ ذلك عنهم من متكلمي الصفاتية كالأستاذ أبي المعالي إمام الحرمين وأمثاله في تقسيم الموجودات الموجود إما أن كون له أول وإما أن يكون بلا أول والذي له أول هو الحادث وهذه قسمة بديهية مستندة إلى إثبات ونفي الحوادث إلى المحل وهذه القسمة أيضا تستند إلى نفي وإثبات قال ولو قيل هذه القسمة قسمة الموجودات لم يكن بعيدا غير أن الوجود الأول لا بدو له ولا نهاية لوجوده وكذلك أيضا لا نهاية لذاته ولا نهاية لصفاته وجودا وحكما فكذلك لا يتطرق إلى ذات القديم ولا إلى صفاته الأوهام ولا تجول فيه الأفكار # قلت وهذا لا يمنع من التقسيم فإن وصفه بالنهاية وعدمها فيه ما هو معروف في موضعه وهو لا يريد بسلبها أن ذاته لا تتناهى إنما يريد أنها بحيث لا يقال فيها هي متناهية أو ليست متناهية فهي عنده لا تقبل أحدا من الوصفين كما لا تقبل الوصف بالمحايثة والمباينة والدخول والخروج ونحو ذلك والخلو عن هذين الوصفين فرع إمكان ذلك أو ثبوته فلا يجعل دليلا على ما يقتضي وجوده إذ الشيء لا يكون دليلا على نفسه إذا كان مطلوبا بالدليل فكيف تكون دعوى الإمكان والثبوت دليلا على وجود الشيء قبل العلم بوجوده # وأيضا فقوله لا تتطرق إليه الأوهام ولا تجول فيه الأفكار إن أراد به لا تحيط به ولا تدركه فهذا حق وإن أراد به لا تثبته ولا تقر به فهذا باطل # وأيضا فعدم التناهي وعدم تطرق الأوهام والأفكار لا يمنع صحة التقسيم كما إذا قلنا الموجود إما قديم وإما حادث والموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وإما خالق وإما مخلوق وقد قال أولا في أقسام الموجودات تنقسم قسمين موجود لا افتتاح لوجوده وهذا القديم سبحانه وصفاته وموجود لوجوده افتتاح وهو الحادث قال وهذه قسمة بديهية مستندة إلى إثبات ونفي لأن الموجود إما أن يكون له أول وإما أن لا يكون له أول فإذا كان قد أدخله في تقسيم الموجود إلى قديم ومحدث فكذلك يجب أن يدخله في قسمة الموجود إلى مستقل ومفتقر بل هذا التقسيم أبين وأوضح والعقلاء متفقون عليه فإنه لا نزاع بينهم أن الباري سبحانه هو موجود مستقل غير مفتقر كما أنهم متفقون على أنه قديم غير محدث لكن العلم باستقلاله وقيامه بنفسه هو أولى به وأبين وأسبق في القلب من كونه قديما كما أن العلم بوجوده أولى به من العلم بوجوب وجوده إذ لو لم يكن مستقلا بنفسه غنيا عن المحل امتنع أن يكون واجبا بخلاف العكس فإن ما لم يكن قديما وحده أو لم يكن واجبا بنفسه يمتنع أن يكون مستقلا أو موجودا فصار هذا مع هذا كالذات والصفات # وأيضا فإذا كان الموجود الأزلي لا بدو له ولا نهاية لوجوده وذلك لا يمنع من دخوله في تقسيم الموجود إلى قديم وحادث فكذلك كونه لا نهاية لذاته وضعا إن صح ذلك لا يكون مانعا من دخوله في التقسيم إلى مستقل ومفتقر # ومما يبين ذلك أن التقسيم الأول بالنسبة إلى الدهر والزمان كالتقسيم الثاني بالنسبة إلى الحيز والمكان فإن الحادث بالنسبة إلى الدهر والزمان كالمفتقر إلى محل بالنسبة إلى الحيز والمكان والقديم لا تحصره الأزمنة كالمستقبل الذي لا تحويه الأمكنة # ثم قال هؤلاء المحدث الذي يستغني عن المحل هو الجوهر في اصطلاح المتكلمين والمفتقر إلى المحل هو العرض ويشمل القسمين اسم العالم ثم إن طائفة من متكلمة المعتزلة لما أثبتوا أعراضا لا في محل كالإرادة والكراهة والفناء اتفق سائر العقلاء على أن هذا خروج عن المعقول لكونه أثبت مالا يقوم بنفسه لا في محل فكذلك من أثبت قائما بنفسه ليس مباينا لغيره فإن علم العقل باستحالة عرض لا في محل كعلمه باستحالة قائم بنفسه ليس بمباين أو ليس بجسم كما أن الأول فيه جمع بين المتناقضين في الحس والخيال والعقل كذلك في الثاني جمع بين المتناقضين في الحس والخيال والعقل # ثم قالوا فإن قيل هل في المقدور حدوث ما يخرج عن القسمين # قلنا إنما يوصف الرب سبحانه وتعالى بالاقتدار على الممكنات وليس ذلك من الممكنات فإن الذي يحصره ويضبطه الذكر حسا أو حكما على هذا الحكم قسمان أحدهما موجود وهو جرم متحيز لو اتصل بمثله اتصل به على طريق المجاورة لا بالمداخلة والحقيقية بل ينحاز أحدهما عن الآخر ويختص عنه بجهة ويصير أحد جهاته ولو نظر الناظر إليهما أدركهما شيئين متجاورين لكل واحد منهما حظ من المساحة وما هذا وصفه قد يسمى قائما بنفسه لاستغنائه عن محل يقوم به فيكون صفة له ومعنى تحيزه شغله الحيز وأنه إذا وجد في فراغ أخرجه عن كونه فراغا وما هذا وصفه يسمى جوهرا وأما القسم الثاني وهو الذي لو قدر شيئان منه لا يمتنع حصولهما في محل واحد وحيث واحد ولا يتصور ازدحامهما فيه # ومن تأمل ما ذكرنا من القسمين وأنصف علم استحالة تقدير قسم ثالث خارج عن القسمين وهذا الكلام يتناول الموجود مطلقا ويقال فيه مطلقا ما قاله في المحدث فإن قوله الذي يضبطه الذكر حسا أو حكما يعم ذلك في الموجود لا يفرق في ذلك بين كونه قديما أو محدثا بل ضبط الذكر حسا أو حكما لهذين القسمين هو للموجود مطلقا من غير تقييد بحدوث أو قدم ويبين ذلك أن الذكر يضبط هذين القسمين قبل علمه بانقسام الموجود إلى محدث وقديم وقبل علمه باستحالة وصف القديم بأحدهما أو بهما أو جواز ذلك عليه # وبالجملة فحكم الفطرة إن كان مقبولا في هذا التقسيم فهو مقبول مطلقا وإن لم يكن مقبولا فليس مقبولا مطلقا إذ الفطرة لا تفرق ولهذا كان يقول غير واحد من الفضلاء العالمين بالفلسفة والشريعة ما ثم إلا مذهب المثبتة أو الفلاسفة وما بينهما متناقض وثبت أن الفلاسفة أكثر تناقضا # الوجه السابع أن ما به يعلم أنه لا بد لكل موجود في الخارج من صفة وخاصة ينفصل بها ويتميز بها عما سواه يعلم أنه لا بد لكل موجود من حد ومقدار ينفصل به عما سواه إذ كل موجود فلا بد له من صفة تخصه وقدر يخصه وليس المراد بالحد هنا الحد النوعي فإن ذلك هو القول الدال على المحدود وهو كلي لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه وإذا أريد بالحد نفس المحدود وحقيقته فليس في الخارج محدود كلي بشرط كونه كليا بل يقال حقيقة هذا تشبه حقيقة هذا فالحدود على هذا تتشابه وتتماثل إذا عني بها حقيقة الموجودات الخارجية ولا بد لكل موجود من هذه الحدود والحقائق كما ذكرنا وتقدير موجود قائم بنفسه ليس له صفة ولا قدر هو الذي يراد بالكيفية والكمية كتقدير موجود ليس قائما بنفسه ولا بغيره وهو الذي يراد بالعرض والجوهر ولهذا كان السلف والأئمة يقولون إن الكيف غير معقول وغير معلوم ويقولون إن لله عز وجل حدا لا يعلمه إلا هو فهم دائما ينفون علم العباد بكيفية الرب وكيفية صفاته وبحده وحد صفاته لا ينفون ثبوت ذلك في نفسه بل ينفون علمنا به |
# يبين هذا أن الذي قاله أئمة أهل الكلام في الصفة يقال مثله في القدر قال الأستاذ أبو المعالي ذهب قدماء المعتزلة إلى أن حقيقة الإله قدمه وذلك أخص وصفة وقال بعضهم حقيقته وجوب وجوده وقال أبو هاشم أخص وصف الإله به حال هو عليها يوجب كونه حيا عالما قادرا قال فهذا قول جهم لا بيان له قال وأما أصحابنا فقال بعضهم حقيقته تقدسه عن مناسبة الحوادث في جهات الاتصالات وقال بعضهم حقيقته غناه وقال بعضهم حقيقته قيامه بنفسه بلا نهاية قال وهذه العبارات تشير إلى نفي الحاجة وقال الأستاذ يعني أبا إسحاق حقيقة الإله صفة تامة اقتضت له التنزه عن مناسبة الحدثان قال أبو المعالي وهذا أيضا فيه إيهام لأنه يلقى من صفة النفي إثبات قال وحكى القاضي أبو جعفر السمناني عن القاضي أبي بكر حقيقة الإله لا سبيل إلى إدراكها هذا الأوان قال وسنعود إلى هذا في كتاب الإدراكات قال وكان شيخنا أبو القاسم القشيري يقول هو الظاهر بآياته الباطن فلا سبيل إلى درك حقيقته وقال الأستاذ أبو المعالي لا شك في ثبوت وجوده سبحانه وتعالى فأما الموجود المرسل من غير اختصاص بصفة تميزه عن غيره فمحال لكن ليس يتطرق إليها العقول ولا هي علم هجمي ولا علم مبحوث عنه إنا لا نقول إن حقيقة الإله لا يصح العلم بها فإنه سبحانه وتعالى يعلم حقيقة نفسه وليس للمقدور الممكن من مزايا العقول عندنا موقف ينتهي إليه ولا يمتنع في قضية العقل مزية لو وجدت لاقتضت العلم بحقيقة الإله
# قلت المقصود هنا أنه بين امتناع أن يكون وجوده مرسلا وهو المطلق من غير اختصاص بصفة تميزه عن غيره وأنه يعلم تلك الحقيقة وجوز أن يعلمها العباد # وأما الذي أحال عليه في كتاب الإدراكات فإنه قال في باب الرؤية فصل # قال ضرار بن عمرو إن الباري يستحيل أن يدرك بالحواس الخمس ولكن يجوز أن يخلق الله تعالى لأهل الثواب حاسة سادسة تخالف الحواس الخمس فيدركونه بها ثم قال هذا الرجل لله عز وجل مائية لا يعلمها في وقتنا إلا هو ثم تردد فقال مرة لا يصح أن يعلم مائية الرب تعالى في الدنيا والعقبى غيره وقال مرة بل يعلمها من يدرك الرب تعالى ويراه وهو سبحانه رأى نفسه عالم بمائيته ونحن إذا رأيناه علمنا مائيته قال القاضي أبو بكر الخلسة قد تطلق والمراد بها الإدراك يقال أحس فلان إذا أدركه وقد يراد بها الجارحة فإن أراد ضرار بالحاسة الجارحة والبينة المخالفة لبقية الحواس شاهدا فقد سبق الرد على من قال الإدراك مفتقر إلى بينة وإن زعم أن الإدراك هو الذي أثبته خارج من قبيل الإدراكات إلا أنه مخالف لها مخالفة متعلقه متعلق الإدراكات فهذا صحيح ولكنه أخطأ في تسميته سادسا وإن هو أومى فيما ذهب إليه إلى اختلاف الإدراكات فتخرج الإدراكات شاهدا عن الخمس والخمسين قال القاضي فلو قال قائل فما مذهب الرجل قلنا مذهبه إثبات الرؤية بشرط بينة سادسة وصرف الحاسة إلى البينة والتأليف دون الإدراك # قلت الحاسة يراد بها الإدراك ويراد بها القوة التي في العضو والسادس يجوز أن يراد به البينة والتأليف ويجوز أن يراد به القوة ويجوز أن يراد به الإدراك أي يخلق جنسا من الرؤية مخالفا للجنس الموجود في الدنيا وهذا من جنس قول هؤلاء الذين يقولون يرى لا في جهة وليس المقصود هنا ذلك # قال وأما المائية التي أثبتها فقد صار إلى إثباتها بعض الكرامية ولم يسلكوا في ذلك مسلك ضرار فإنه من نفاة الصفات وإن عنى بها صفة نفسه وحالا فهو مذهب أبي هاشم فإنه صار إلى أنه سبحانه وتعالى في ذاته على صفة وحالة وهي أخص وصفه وبها يخالف خلقه وهذا تصريح بمذهب ضرار وإنما اختلفا في العبارة فإن أبا هاشم سماها خاصة وسماها ضرار مائية وقد رددنا على أبي هاشم مذهبه في إثبات الأحوال وقال القاضي أبو بكر لا بعد عندي فيما قاله ضرار فإن الرب سبحانه وتعالى يخالف خلقه بأخص صفاته فيعلم على الجملة اختصاص الرب بصفة يخالف بها خلقه ولا سبيل إلى صرف الأخص إلى الوجود والعدم ولا شك في امتناع صرفها إلى الصفات المعنوية فهذا أقصى ما يقال في ذلك قال وقد تردد القاضي في أن الذين يرون الله في الدار الآخرة هل يعلمون تلك الصفة التي يسميها أخص وصفه وسماها ضرار مائية أم لا فمرة قال يعلمونها ومرة قال لا يعملها أحد إلا الله تعالى قال وقد قدمنا من مذهب الأستاذ أبي إسحاق أنه أوجب لله صفة توجب التقديس عن الأحياز والجهات والانفراد بنعوت الجلال فإنا نعلم أنه ليس من قبيل ما نشاهده من الجواهر والأعراض وأنه مما لا يتصور في الأوهام ولسنا نعني بقولنا ليس في العالم ولا خارج العالم نفي وجوده تعالى كما نسبتنا إلى ذلك المجسمة وإنما نعني به إثبات وجود غير محدود بوجه ومن أثبت لله حدا ونهاية من وجه فيلزمه إثبات النهاية من سائر الجهات فإن قول القائل إنه في العالم أو خارج العالم يقتضي حدا ونهاية يصح لأجلهما عليه الدخول في العالم أو الخروج منه وقال بعض المتكلمين أخص وصفه وجوب وجوده وقال بعض أصحابنا أخص وصفه قيامه بنفسه مع انتفاء النهاية والحجمية وهذا معنى قول الأستاذ ولم ينقل عن شيخنا أبي الحسن رحمه الله تعالى في ذلك شيء غير أنه قال إنما ينفرد الرب سبحانه عن الأغيار بالآلهية وهي قدرته على الاختراع واستحقاقه لنعوت الجلال وذكر الأستاذ أبو بكر في كتاب الانتصار عن بعض الأصحاب أنه قال لله سبحانه وتعالى مائية ثم فسرها بصفاته التي تفرد بها عن المخلوقات من العلم المحيط والقدرة الكاملة والإرادة النافذة وغير ذلك من تقدسه عن سمات الحدث ومن الكرامية من أثبت لله كيفية ومائية فإن عنوا بالمائية ما أشار أليه القاضي والأستاذ وما أراهم يريدون ذلك فيبقى بيننا وبينهم الاختلاف في الاسم فنحن نقول المائية تقتضي الجنس والكيفية تقتضي الكمية والشكل ويتعالى الله عن ذلك فإنه ليس نوعا لجنس ولا جنسا لنوع بل هو الأحد الصمد # قلت ليس هذا موضع بسط الكلام على هذا فإن قوله المائية تقتضي الجنس إنما يعني أن يكون له ما يجانسه أي يماثله في حقيقته وليس الأمر كذلك فإن من أثبت له مائية وهي الحقيقة التي تخصه ويمتاز بها عن غيره لم يلزمه أن تكون تلك المائية من جنس المائيات كما أن الذين يطلقون عليه اسم الذات لا يلزمهم أن تكون ذاته من جنس سائر الذوات وإن فسر ذلك بثبوت قدر ما يتفقان فيه فهذا لا بد منه على كل تقدير ولفظ الجنس فيه عدة اصطلاحات فإن فسر بما يوجب مثلا لله فهو منتف عنه وإن فسر بالحد اللغوي الذي هو مدلول الأسماء المتواطأة والمشككة كما في اسم الحي والعليم والقدير ونحو ذلك من الأسماء فهذا لا بد منه باتفاق أهل الأثبات والنزاع في ذلك معروف عن الملاحدة ومن ضاهاهم ونفي ذلك تعطيل محض # وأما قوله الكيفية تقتضي الكمية والشكل فإنه إن أراد أنها تستلزم ذلك فمعلوم أن الذين أثبتوا الكيفية إنما أرادوا الصفات التي تخصه كما تقدم وإذا كان هذا مستلزما للكمية فهو الذي يذكره المنازعون أنه ما من موصوف بصفة الأولة قدر يخصه وأكثر أهل الحديث والسنة من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله وغيرهم لا ينفون ثبوت الكيفية في نفس الأمر بل يقولون لا نعلم الكيفية ويقولون لا تجري ماهيته في مقال ولا تخطر كيفيته ببال بل كما قال الشريف أبو علي ابن أبي موسى وأبو الفرج المقدسي وغيرهما وهو موافق لقول السلف رضي الله عنهم والأئمة كما قالوا لا يعلم كيف هو إلا هو كما قال مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول وأمثال هذا كثير في كلامهم ومنهم من ينفي ذلك ويقول لا ماهية له فتجري في مقال ولا كيف فيخطر ببال وهذا قول ابن عقيل وغيره وهذا موافق لقول نفاة الصفات # فقد تبين أن الأقوال في وجود الحق على مراتب فمن قال إنه وجود مطلق فقوله باطل بالبديهة ومن قال إنه يتميز بصفات سلبية مثل امتناع عدمه ونحو ذلك فهو نظيره بل هو هو ومن قال يتميز ببعض الصفات المعنوية كعلمه وقدرته قيل له وإن اختص بذلك لكن لا بد من ذات موصوفة بتلك الصفة وأن تكون الذات لها حقيقة في نفسها يتميز بها عن سائر الحقائق وإن القول الرابع وهو أن له حقيقة يختص بها هو الصواب ومعلوم أن الموجود ينظر في نفسه وفي صفته وفي قدره وإن كان اسم الصفة يتناول قدره ويستلزم ذاته أيضا # فإذا علم بصريح العقل أنه لا بد له من وجود خاص أو حقيقة يتميز بها ولا بد له من صفات تختص به لا يشركه فيها أحد فيقال وكذلك قدره فإن الموجود لا يتصور أن يكون موجودا إلا بذلك ودعوى وجود موجود بدون ذلك دعوى تخالف البديهة والضرورة العقلية وكذلك حكموا على من نفى ذلك بالتعطيل لأنه لازم قوله وإن كان لا يعلم لزومه # والتحقيق أنه جمع في قوله بين الإقرار بما يستلزم وجوده والإقرار بما يستلزم عدمه فهو مقر به من وجه منكر له من وجه متناقض من حيث لا يشعر ولهذا يقول المشايخ العارفون إن هؤلاء المنكرين لا تتنور قلوبهم ولا يفتح عليها ولا ينالون زينة أولياء الله تعالى الكاملين لما عندهم من الجحود والإنكار المانع لهم من حقيقة معرفة الله تعالى ومحبته والقرب منه فإنهم التزموا التكذيب بالحق الذي تقربهم معرفته وقصده إلى الله تعالى ففاتهم من معرفة الله وقصده والتقرب إليه بقلوبهم ما به ينالون ولايته التي نعت بها أولياءه المتقين العاملين وإن كانوا قالوا من ذلك بحسب ما عندهم من الإيمان والتقوى # الوجه الثامن إنه قد ثبت بالسنة المتواترة وباتفاق سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة أهل الإسلام الذين ائتموا بهم في دينهم أن الله سبحانه وتعالى يرى في الدار الآخرة بالأبصار عيانا وقد دل على ذلك القرآن في مواضع كما ذلك مذكور في مواضعه والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة متواترة في الصحاح والسنن والمساند وقد اعتنى بجمعها أئمة مثل الدارقطني في كتاب الرؤية وأبي نعيم الأصبهاني وأبي بكر الآجري وطوائف كثيرون وفي الصحيحين نحو عشرة أحاديث فيها أن رؤية الأبصار ليست ممتنعة # والجهمية الذين يدخلون في هذا الاسم عند السلف كالمعتزلة والنجارية والفلاسفة ينكرون الرؤية ويقولن لأن ذلك يستلزم أن يكون بجهة من الرائي وأن يكون جسما متحيزا وذلك منتف عندهم ومسألة الرؤية كانت من أكبر المسائل الفارقة بين السنة المثبتة وبين الجهمية حتى كان علماء أهل الحديث والسنة يصنفون الكتب في الأثبات ويقولون كتاب الرؤية والرد على الجهمية وكذلك الأحاديث التي تنكرها الجهمية من أحاديث الرؤية وما يتبعها ويعدون من أنكر الرؤية معطلا # قال الخلال في كتاب السنة أخبرني حنبل قال سمعت أبا عبدالله يقول وأدركنا الناس وما ينكرون من هذه الأحاديث شيئا أحاديث الرؤية وكانوا يحدثون بها على الجملة يمرونها على حالها غير منكرين لذلك ولا مرتابين قال وسمعت أبا عبدالله يقول القوم يرجعون إلى التعطيل في قولهم ينكرون الرؤية قال وسمعت أبا عبدالله يقول قالت الجهمية إن الله لا يرى في الآخرة ونحن نقول إن الله يرى لقول الله تعالى ^ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ^ وقال تعالى لموسى ^ فإن استقر مكانه فسوف تراني ^ فأخبر الله تعالى أنه يرى وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر رواه جرير وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال كلكم يخلو به ربه إن الله يضع كنفه على عبده فيسأله ماذا عملت هذه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تروى صحيحة عن الله تعالى أنه يرى في الآخرة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مدفوعة والقرآن شاهد أن الله يرى في القيامة وقول إبراهيم لأبيه ^ يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ^ فثبت أن الله يسمع ويبصر وقال الله تعالى ^ يعلم السر وأخفى ^ وقال ^ إنني معكما أسمع وأرى ^ وقال أبو عبدالله فمن دفع كتاب الله ورده والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واخترع مقالة من نفسه وتأول رأيه فقد خسر خسرانا مبينا وسمعت أبا عبدالله يقول من قال إن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر وكذب بالقرآن ورد على الله أمره يستتاب فإن تاب وإلا قتل وروى عن يعقوب بن بختان أنه سمع أبا عبدالله يقول صارت حجتهم كفرا صراحا يقولون إن الله تبارك وتعالى لا يرى في الآخرة وسمعته يقول كفرهم ضروب وعن حنبل سمعت أبا عبدالله يقول إن الله لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة فثبت في القرآن وفي السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين # وقال الإمام أبو سعيد عثمان بن سعيد في نقضه على الجهمي المريسي العنيد فيما افترى على الله تعالى في التوحيد ثم انتدب المريسي الضال لرد ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤية في قوله عليه السلام إنكم سترون ربكم يوم القيامة لا تضامون في رؤيته كما لا تضامون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر فأقر الجاهل بالحديث وصححه وثبت روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تلطف لرده وإبطاله بأقبح تأويل وأسمج تفسير ولو قد رد الحديث أصلا كان أعذر له من تفاسيره هذه المقلوبة التي لا يوافقه عليها أحد من أهل العلم ولا من أهل العربية فادعى الجاهل أن تفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم سترون ربكم لا تضامون في رؤيته تعلمون أن لكم ربا لا تشكون فيه كما لا تشكون في القمر أنه قمر لا على أن أبصار المؤمنين تدركه جهرة يوم القيامة لأنه نفى ذلك عن نفسه بقوله ^ لا تدركه الأبصار ^ قال وليس على معنى المشبهة فقوله ^ ترون ربكم ^ تعلمون أن لكم ربا لا تعتريكم فيه الشكوك والريب ألا ترون أن الأعمى يجوز أن يقال ما أبصره أي ما أعلمه وهو لا يبصر شيئا ويجوز أن يقول الرجل نظرت في المسألة وليس للمسألة جسم ينظر إليه فقوله نظرت فيها رأيت فيها فتوهمت المشبهة الرؤية جهرة وليس ذلك من جهة العيان # فيقال لك أيها المريسي أقررت بالحديث وثبته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الحديث بحلقك لما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرن التفسير بالحديث فأوضحه ولخصه فجمعهما جميعا إسناد واحد حتى لم يدع لمتأول فيه مقالا فأخبر أمته بروية العيان نصا كما توهم هؤلاء الذين سميتهم بجهلك مشبهة فالتفسير فيه مأثور مع الحديث وأنت تفسره بخلاف ما فسره الرسول صلى الله عليه وسلم من غير أثر تأثره عمن هو أعلم منك فأي شقي من الأشقياء وأي غوي من الأغوياء يترك تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم المقرون بحديثه المقبول عند العلماء الذي يصدقه ناطق الكتاب ثم يقبل تفسيرك المحال الذي لا تأثره إلا عن من هو أجهل منك وأضل # أليس قد أقررت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ترون ربكم لا تضامون فيه كما لا تضامون في رؤية الشمس والقمر يعني معاينة قلت وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لا تشكون يوم القيامة في ربوبيته وهذا التفسير مع ما فيه من معاندة الرسول محال باطل خارج عن المعقول لأن الشك في ربوبية الله زائل عن المؤمن والكافر يوم القيامة وكل مؤمن وكافر يعلم يومئذ أنه ربهم لا يعتريهم في ذلك شك فيقبل الله ذلك من المؤمن ولا يقبله من الكافرين ولايعذرهم يومئذ بمعرفتهم ويقينهم به فما فضل المؤمن على الكافر يوم القيامة عندك في معرفة الرب إذ مؤمنهم وكافرهم لا يعتريه في ربوبيته شك # أو ما علمت أيها المريسي أنه من مات ولم يعرف قبل موته أن الله ربه في حياته حتى يعرفه بعد مماته فإنه يموت كافرا ومصيره النار أبدا ولن ينفعه الإيمان يوم القيامة يرى من آياته إن لم يكن آمن به من قبل فما موضع بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين برؤية ربهم يوم القيامة إذ كل مؤمن وكافر في الرؤية يومئذ سواء عندك إذ كل لا يعتريه فيه شك ولا ريبة # أولم تسمع أيها المريسي قول الله تعالى ^ ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ^ ^ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا ^ فقد أخبر تعالى عن الكفار أنهم به يومئذ موقنون فكيف المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين سألوه هل نرى ربنا تعالى قد علموا قبل أن سألوه أن الله ربهم لا يعتريهم في ذلك شك ولا ريب أو لم تسمع ما قال الله تعالى ^ يوم تأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ^ يقال في تفسيره إنها طلوع الشمس من مغربها فإذا لم ينفع الرجل إيمانه عند الآيات في الدنيا فكيف ينفعه يوم القيامة فيستحق به النظر إلى الله تعالى فاعقل أيها المريسي ما يجلب عليك كلامك من الحجج الآخذة بحلقك # وأما إدخالك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حقق من رؤية الرب تعالى يوم القيامة فإنما يدخل على من عليه نزل وقد عرف ما أراد الله تعالى به وعقل فأوضحه تفسيرا وعبرة تعبيرا ففسر الأمرين جميعا تفسيرا شافيا كافيا سأله أبو ذر هل رأيت ربك يعني في الدنيا قال نور أنى أراه حدثنا الحوضي وغيره عن يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبدالله بن سفيان عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا معنى قوله ^ لا تدركه الأبصار ^ في الحياة الدنيا فحين سئل عن رؤيته في المعاد قال نعم جهرة كما ترى الشمس والقمر ليلة البدر ففسر رسول الله صلى الله عليه وسلم المعنيين على خلاف ما ادعيت # والعجب من جهلك بظاهر لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ تتوهم في رؤية الله جهرة أنها كرؤية الشمس والقمر ثم تدعي أنه من توهم من سميتهم بجهلك مشبهة فرسول الله صلى الله عليه وسلم في دعواك أول المشبهة إذ شبه رؤيته برؤية الشمس والقمر كما شبهه هؤلاء المشبهون في دعواك # وأما أغلوطتك التي غلطت بها جهال أصحابك في رؤية الله تعالى يوم القيامة فقلت ألا ترى أن قوم موسى حين قالوا ^ أرنا الله جهرة ^ أخذتهم الصاعقة وقالوا ^ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ^ وقالوا ^ أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا ^ فادعيت أن الله تعالى أنكر عليهم ذلك وعابهم بسؤالهم الرؤية # فيقال لهذا المريسي تقرأ كتاب الله وقلبك غافل عما يتلى عليك فيه ألا ترى أن أصحاب موسى سألوا موسى رؤية الله في الدنيا إلحافا فقالوا ^ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ^ ولم يقولوا حتى نرى الله في الآخرة ولكن في الدنيا ^ فأخذتهم الصاعقة ^ لظلمهم وسؤالهم ما حظره على أهل الدنيا ولو قد سألوه رؤيته في الآخرة كما سأل أصحاب محمد محمدا صلى الله عليه وسلم لم تصبهم تلك الصاعقة ولم يقل لهم إلا ما قال محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه إذ سألوه هل نرى ربنا يوم القيامة فقال نعم لا تضارون في رؤيته فلم يعبهم الله تعالى ولا رسوله بسؤالهم عن ذلك بل حسنه لهم وبشرهم بشرى جميلة كما رويت أيها المريسي عنه وقد بشرهم الله تعالى بها قبله في كتابه فقال عز من قائل ^ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ^ وقال للكفار ^ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ^ |
# إلى أن قال وقد فسرنا أمر الرؤية وروينا ما جاء فيها من الآثار في الكتاب الأول الذي أمليناه في الجهمية وروينا منها صدرا في صدر هذا الكتاب أيضا فالتمسوها هناك واعرضوا ألفاظها على قلوبكم وعقولكم تنكشف لكم عورة كلام هذا المريسي وتأويله ودحوض حجته إن شاء الله تعالى # وهو في الكتاب الأول الذي أحال عليه ذكر في ذلك عدة من الأحاديث والآثار مثل حديث جرير وأبي هريرة وأبي سعيد المشهورين الطويلين وهذه في الصحيحين ومثل حديث صهيب في قوله تعالى ^ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ^ وحديث أبي موسى وجابر في الورود وهذه في صحيح مسلم ومثل ابن عمر في الدجال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وهذه الألفاظ في الصحيح وذكر حديث أبي بكر الصديق المرفوع وحديث عبادة في الدجال وحديث ابن الحسين عن بعض الصحابة وحديث ابن عباس وحديث أنس في يوم المزيد وحديث عمار بن ياسر الذي فيه أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وحديثا عن ابن عمر في النظر وهذه الأحاديث في السنن والمساند وذكر الآثار عن الصديق وحذيفة وأبي موسى وابن أبي ليلى والضحاك وعامر بن سعد في تفسير الزيادة أنها النظر إلى وجه الله تعالى وذكر قول أبي موسى فكيف بكم إذا رأيتم الله جهرة وذكر أيضا النظر إليه عن عمار وأنس والضحاك وعكرمة وكعب وعمر بن عبدالعزيز والذي تركه من ذلك أكثر مما رواه # ثم قال أبو سعيد فهذه أحاديث كلها وأكثر منها قد رويت في الرؤية على تصديقها والإيمان بها أدركت أهل الفقه من مشائخنا ولم يزل المسلمون
قديما وحديثا يروونها ويؤمنون بها لا يستنكرونها وينكرونها ومن أنكرها من أهل الزيغ نسبوه إلى الضلال بل كان من أكبر رجائهم وأجزل سؤالهم الله تبارك وتعالى في أنفسهم النظر إلى وجه الله الكريم خالقهم يوم القيامة حتى ما يعدلون به شيئا من نعيم الجنة قال وقد كلمت بعض أولئك المعطلة وذكر كلاما طويلا في تقرير الرؤية والجواب عن شبه النفاة إلى أن قال # وقال بعضهم إنا لا نقبل هذه الآثار قلت أجل ولا كتاب الله تعالى تقبلون أراكم إن لم تقبلوها أتشكون أنها مروية عن السلف مأثورة عنهم مستفيضة فيهم يتوارثونها عن أعلام الناس وفقهائهم قرنا بعد قرن قالوا نعم قلنا فحسبنا بإقراركم بها عليكم حجة لدعوانا أنها مشهورة مروية تداولها العلماء والفقهاء فما تواتر عنهم مثلها حجة لدعواكم التي كذبتها الآثار كلها فلا تقدرون أن تأتوا فيها بخبر ولا أثر وقد علمتم إن شاء الله تعالى أنه لا يستدرك سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأحكامهم وقضاياهم إلا هذه الآثار والأسانيد على ما فيها من الاختلاف وهي السبب إلى ذلك والنهج الذي درج عليه المسلمون وكانت إمامهم في دينهم بعد كتاب الله تعالى منها يقتبسون العلم وبها يقضون وبها يفتون وعليها يعتمدون وبها يتزينون يورثها الأول منهم الآخر ويبلغها الشاهد منهم الغائب احتجاجا واحتسابا في أدائها إلى من لم يسمعها يسمونها السنن والآثار والفقه والعلم ويضربون في طلبها شرق الأرض وغربها يحلون بها حلال الله تعالى ويحرمون بها حرامه ويميزون بها بين الحق والباطل والسنن والبدع ويستدلون بها على تفسير القرآن ومعانيه وأحكامه ويعرفون بها ضلالة من ضل عن الهدى فمن رغب عنها فإنما يرغب عن آثار السلف وهديهم ويريد مخالفتهم ليتخذ دينه هواه وليتأول كلام الله برأيه خلاف ما عنى الله به فإن كنتم من المؤمنين وعلى منهاج أسلافهم فاقتبسوا العلم من أثرهم واقتبسوا الهدى في سبيلهم وارضوا بهذه الآثار إماما كما رضي بها القوم لأنفسهم إماما فلعمري ما أنتم أعلم بكتاب الله منهم ولا مثلهم ولا يمكن الاقتداء بهم إلا باتباع هذه الآثار على ما تروى فمن لم يقبلها فإنه يريد أن يتبع غير سبيل المؤمنين وقال الله ^ ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ^ # فقال قائل منهم لا بل نقول بالمعقول قلنا هنا ضللتم عن سواء السبيل ووقعتم في تيه لا مخرج لكم منه لأن المعقول ليس لشيء واحد موصوف بحدود عند جميع الناس فيقتصر عليه ولو كان كذلك لكان راحة للناس ولقلنا به ولم نعد ولكن الله تبارك وتعالى قال ^ كل حزب بما لديهم فرحون ^ فوجدنا المعقول عند كل حزب ما هم عليه والمجهول عندهم ما خالفهم فوجدنا فرقكم معشر الجهمية في المعقول مختلفين كل فرقة منكم تدعي أن المعقول عندها ما تدعو إليه والمجهول ما خالفها فحين رأينا المعقول اختلف منا ومنكم ومن جميع أهل الأهواء ولم نقف له على حد بين في كل شيء رأينا أرشد الوجوه وأهداها أن ترد المعقولات كلها إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المعقول عند أصحابه المستفيض بين أظهرهم لأن الوحي كان ينزل بين أظهرهم فكانوا أعلم بتأويله منا ومنكم وكانوا مؤتلفين في أصول الدين لم يتفرقوا فيه ولم تظهر فيهم البدع والأهواء الجائزة عن الطريق فالمعقول عندنا ما وافق هديهم والمجهول ما خالفهم ولا سبيل إلى معرفة هديهم وطريقهم إلا هذه الآثار وقد انسلختم منها وانتفيتم منها بزعكمم فأنى تهتدون # قلت كلام السلف والأئمة كثير في مسألة الرؤية وتقرير وجودها بالسمع وتقرير جوازها بالعقل وتقرير أن نفي جوازها مستلزم للتعطيل وقد نبه السلف ومتكلمة الصفاتية على ما هو معلوم بالمعقول أنه من قال إنه لا يمكن رؤيته فقد لزمه أن يعطله ويجعله معدوما لأنه إذا كان موجودا جازت رؤيته # ثم للناس هنا طريقان أحدهما وهي طريقة أبي محمد ابن كلاب وغيره كأبي الحسن ابن الزاغوني أن كل ما هو قائم بنفسه فإنه تجوز رؤيته ولم يلتزم ذلك في سائر الأعراض والصفات والثانية وهي طريقة أبي الحسن الأشعري ومن اتبعه وقد سلكها القاضي أبو يعلى وغيره أن كل موجود تصح رؤيته سواء كان قائما بنفسه أو قائما بغيره وقد قرروا ذلك بطرق منها ما هو غير بين ويرد عليه أسولة والتزموا لأجل ذلك لوازم يظهر فسادها وقد بينا في غير هذا الموضع كيف تقرر الطريقة العقلية في ذلك على وجه يفيد المقصود ولكن نشير هنا إشارة فنقول # معلوم أن الرؤية تعلق بالموجود دون المعدوم ومعلوم أنها أمر وجودي محض لا يسيطر فيها أمر عدمي كالذوق الذي يتضمن استحالة شيء من المذوق وكالأكل والشرب الذي يتضمن استحالة المأكول والمشروب ودخوله في مواضع من الآكل والشارب وذلك لا يكون إلا عن استحالة وخلق وإذا كانت أمرا وجوديا محضا ولا تتعلق إلا بموجود فالمصحح لها الفارق بين ما يمكن رؤيته ومالا يمكن رؤيته إما أن يكون وجودا محضا أو متضمنا أمرا عدميا والثاني باطل لأن العدم لا يكون له تأثير في الوجود المحض فلا يكون سببا له ولا يكون أيضا شرطا أو جزءا من السبب إلا أن يتضمن وجودا فيكون ذلك الوجود هو المؤثر في الوجود ويكون ذلك العدم دليلا عليه ومستلزما له ونحو ذلك وهذا من الأمور البينة عند التأمل # ومن قال من العلماء إن العدم يكون علة للأمر الثبوتي أو جزء علة أو شرط علة فإنما يقولون ذلك في قياس الدلالة ونحوه مما يستدل فيه بالوصف على الحكم لا يقول أحد إن نفس العدم هو المقتضى للوجود ولا يقول إن الوصف المركب من وجود وعدم هما جميعا مقتضيان للوجود المحض وشروط العلة هي من جملة أجزاء العلة التامة # وإذا كان المقتضي لجواز الرؤية والمصحح للرؤية والفارق بينما تجوز رؤيته وبينما لا تجوز إما أن يكون وجودا محضا فلا حاجة بنا إلى تعيينه سواء قيل هو مطلق الوجود أو القيام بالنفس أو بالعين بشرط المقابلة والمحاذاة أو غير ذلك مما يقال إنه مع وجوده تصح الرؤية ومع عدمه تمتنع لكن المقصود أنه أمور وجودية # وإذا كان كذلك فقد علم أن الله تعالى هو أحق بالوجود وكماله من كل موجود إذ وجوده هو الوجود الواجب ووجود كل ما سواه هو من وجوده وله وله الكلام التام في جميع الأمور الوجودية المحضة فإنها هي الصفات التي بها يكون كمال الوجود وحينئذ فيكون الله وله المثل الأعلى أحق بأن تجوز رؤيته لكمال وجوده ولكن لم نره في الدنيا لعجزنا عن ذلك وضعفنا كما لا نستطيع التحديق في شعاع الشمس بل كما لا تطيق الخفاش أن تراها لا لامتناع رؤيتها بل ضعف بصره وعجزه كما قد لا يستطاع سماع الأصوات العظيمة جدا لا لكونها لا تسمع بل لضعف السامع وعجزه ولهذا يحصل لكثير من الناس عند سماع الأصوات العظيمة ورؤية الأشياء الجليلة ضعف أو رجفان أو نحو ذلك مما سببه ضعفه عن الرؤية والسماع لا لكون ذلك الأمر مما تمتنع رؤيته وسماعه ولهذا وردت الأخبار في قصة موسى عليه الصلاة و السلام وغيره بأن الناس إنما لا يرون الله في الدنيا للضعف والعجز والله سبحانه وتعالى قادر على أن يقويهم على ما عجزوا عنه وتمام بسط هذا وتقريره له في موضع آخر # وأنما المقصود أن نقول إذا ثبتت رؤيته فمعلوم في بداية العقول أن المرئي القائم بنفسه لا يكون إلا بجهة من الرائي وهذه الرؤية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر فأخبر أن رؤيته كرؤية الشمس والقمر وهما أعظم المرئيات ظهورا في الدنيا وإنما يراهم الناس فوقهم بجهة منهم بل من المعلوم أن رؤية مالا يكون داخل العالم ولا خارجه ممتنع في بداية العقول وهذا مما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم من السلف والأئمة وأهل الحديث والفقه والتصوف وجماهير أهل الكلام المثبتة والنافية والفلاسفة وإنما خالف فيه فريق من أصحاب الأشعري ومن وافقهم من الفقهاء كما قد يوافقهم القاضي أبو يعلى في المعتمد هو وغيره ويقولون ما قاله أولئك في الرؤية إنه يرى لا في جهة ويلتزمون ما اتفق أهل العقول على أنه من الممتنع في بداية العقول بل يقولون إن المعلوم ببداية العقول أنه لا يرى إلا ما هو متحيز أو قائم بمتحيز ومن ادعى رؤية ما ليس بمتحيز ولا قائما بمتحيز فقد خرج عن ضرورات العقول باتفاق عقلاء بني آدم من جميع الطوائف إلا هذا الفريق الذي اتفق الناس على تناقضهم فإن موافقيهم من الجهمية الفلاسفة والمعتزلة ونحوهم على إمكان وجود موجود ليس بمتحيز ولا حال فيه وعلى إمكان معرفة ذلك بالعقل وإن كانوا عند جمهور العقلاء مخالفين لضرورة العقل فإنهم لا يوافقونهم على أن من كان كذلك فإنه يرى بل هؤلاء يوافقون جمهور العقلاء في أن مالا يكون متحيزا ولا حالا في متحيز لا يمكن رؤيته حتى إن أئمة أصحاب الأشعري المتأخرين كأبي حامد وابن الخطيب وغيرهما لما تأملوا ذلك عادوا في الرؤية إلى قول المعتزلة أو قريب منه وفسروها بزيادة العلم كما يفسرها بذلك الجهمية والمعتزلة وغيرهم وهذا في الحقيقة تعطيل للرؤية الثابتة بالنصوص والإجماع المعلوم جوازها بدلائل المعقول بل المعلوم بدلائل العقول امتناع وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن تعلقها به لكن هؤلاء المثبتة الذين وافقوا عامة المؤمنين على إمكان رؤيته وانفردوا عن الجماعة بأنه يرى لا فوق الرائي ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا في شيء من جهاته هم قد وافقوا أولئك الجهمية في وجود موجود يكون كذلك فموافقتهم لهؤلاء في إمكان وجود موجود بهذا الوصف أبعد عن الشرع والعقل من قولهم يمكن رؤية هذا الموجود ولهذا تنكر الفطر وجوده أعظم مما تنكر رؤيته بتقدير وجوده كما قد ذكرنا أن قولهم هو فوق العرش وليس بجسم أقرب من قولهم لا داخل العالم ولا خارجه # وهذا أيضا مما عظم فيه إنكار المدعين للجمع بين الشريعة والفلسفة كالقاضي أبي الوليد ابن رشد الحفيد فإنه قال في كتابه الذي سماه مناهج الأدلة في الرد على الأصولية وقال ما ذكرناه عنه قبل هذا في مسائل الجسم ومسألة الجهة وزعم ما ذكرناه عنه إلى قوله ولذلك اضطررنا نحن أيضا إلى وضع قول في موافقة الحكمة للشريعة قال وإذا تبين هذا فلنرجع إلى حيث كنا فنقول إن الذي بقي علينا من هذا الخبر ومن المسائل المشهورة هي مسألة الرؤية فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي بوجه ما داخلة في هذا الجزء المتقدم لقوله تعالى ^ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ^ ولذلك أنكرها المعتزلة وردت الآثار الواردة في الشرع بذلك مع كثرتها وشهرتها فشنع الأمر عليهم وسبب وقوع هذه الشبهة في الشرع أن المعتزلة لما اعتقدوا انتفاء الجسمية عنه سبحانه وتعالى واعتقدوا وجوب التصريح بها لجميع المكلفين ووجب عندهم إذا انتفت الجسمية أن تنتفي الجهة وإذا انتفت الجهة انتفت الرؤية إذ كل مرئي في جهة من الرائي فاضطروا لهذا المعنى لرد الشرع المنقول واعتلوا للأحاديث بأنها أخبار آحاد وأخبار الآحاد لا توجب العلم مع أن ظاهر القرآن معارض لها أعني قوله تعالى ^ لا تدركه الأبصار ^ # وأما الأشعرية فراموا الجمع بين الاعتقادين أعني بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس فعسر ذلك عليهم ولجؤوا في ذلك إلى حجج سوفسطائية مموهة أعني الحجج التي توهم أنها حجج وهي كاذبة وذلك أنه يشبه أن يكون في الحجج ما يوجد في الناس أعني أنه كما يوجد في الناس الفاضل التام الفضيلة فيوجد فيهم من هو دون ذلك في الفضل ويوجد فيهم من يوهم أنه فاضل وليس بفاضل وهو المرائي وكذلك الأمر في الحجج أعني أن منها ما هو في غاية اليقين ومنها ما هو دون اليقين ومنها حجة مرائية وهي التي توهم أنها يقين وهي كاذبة والأقاويل التي سلكها الأشعرية في هذه المسألة منها أقاويل في دفع دليل المعتزلة ومنها أقاويل لهم في إثبات جواز الرؤية لما ليس بجسم وأنه ليس يعرض من فرضها محال # فأما ما عاندوا به قول المعتزلة أن كل مرئي فهو في جهة من الرائي فمنهم من قال إن هذا إنما هو حكم الشاهد لا حكم الغائب وإن هذا الموضوع ليس هو من المواضع التي يجب فيها نقل حكم الشاهد إلى الغائب وأنه جائز أن يرى الإنسان ما ليس في جهة إذا كان جائزا أن يرى الإنسان بالقوة المبصرة نفسها دون عين وهؤلاء اختلط عليهم إدراك العقل مع إدراك البصر فإن العقل هو الذي يدرك ما ليس في جهة أعني في مكان وأما إدراك البصر فظاهر من أمره أن من شرطه أن يكون المرئي منه في جهة ولا في كل جهة فقط بل في جهة ما مخصوصة ولذلك ليس تتأتى الرؤية بأي وضع اتفق أن يكون البصر من المرئي بل بأوضاع محدودة وشروط محدودة أيضا وهي ثلاثة أشياء حضور الضوء والجسم الشفاف المتوسط بين البصر والمبصر وكون المبصر ذا ألوان ضرورة والرد لهذه الأمور المعروفة بنفسها في الإبصار هو رد للأوائل المعلومة بالطبع للجميع وإبطال لجميع معلوم المناظرة والهندسة # وقد قال القوم أعني الأشعرية إن أحد المواضع التي يجب أن ينقل فيها حكم الشاهد إلى الغائب هو الشرط مثل حكمنا أن كل عالم حي لكون الحياة تظهر من الشاهد شرطا في وجود العلم وإن كان ذلك قلنا لهم وكذلك تظهر في الشاهد أن هذه الأشياء هي شروط في الرؤية فألحقوا الغائب فيها بالشاهد على أصلكم # وقد رام أبو حامد في كتابه المعروف بالمقاصد أن يعاند هذه المقدمة أعني كل مرئي في جهة من الرائي بأن الإنسان يبصر ذاته في المرآة وأن ذاته ليست منه في جهة غير جهة مقابلة وذلك أنه لما كان يبصر ذاته وكانت ذاته ليست تحل في المرآة التي في الجهة المقابلة فهو يبصر ذاته في غير جهة وهذه مغالطة فإن الذي يبصر هو خيال ذاته والخيال منه هو في جهة إذ كان الخيال في المرآة والمرآة في جهة # وأما حجتهم التي أتوا بها في إمكان رؤية ما ليس بجسم فإن المشهور عنهم في ذلك حجتان إحداهما وهي أشهر عندهم ما يقولونه من أن الشيء |
لا يخلو أن يرى من جهة ما هو متلون أو من جهة أنه جسم أو من جهة أنه لون أو من جهة أنه موجود وربما عددوا جهات أخر غير هذه الموجودة ثم يقولون وباطل أن يرى من قبل أنه جسم إذ لو كان ذلك كذلك لما رؤي اللون وباطل أن يرى لمكان أنه لون إذ لو كان كذلك لما رؤي الجسم وإذا بطلت جميع هذه الأقسام التي تتوهم في هذا الباب فلم يبق أن يرى الشيء إلا من قبل أنه موجود والمغالطة في هذا القول بينة فإن المرئي منه ما هو مرئي بذاته ومنه ما هو مرئي لذاته وهذه هي حال اللون والجسم فإن اللون مرئي بذاته والجسم مرئي من قبل اللون ولذلك لما لم يكن له لون لم يبصر ولو كان الشيء إنما يرى من حيث هو موجود فقط لوجب أن تبصر الأصوات وسائر المحسوسات الخمس فكان يكون البصر والسمع وسائر الحواس الخمس حاسة واحدة وهذه كلها خلاف ما يعقل # وقد اضطر المتكلمون لمكان هذه المسألة وما أشبهها إلى أن يسلموا أن الألوان ممكنة أن تسمع والأصوات ممكنة أن ترى وهذا كله خروج عن الطبع وعن ما يمكن أن يعقله الإنسان فإنه في الظاهر أن حاسة البصر غير حاسة السمع وأن محوس هذه غير محوس تلك وأن آلة هذه غير آلة تلك وأنه ليس ممكن أن ينقلب البصر سمعا كما ليس يمكن أن يعود اللون صوتا والذين يقولون إن الصوت يمكن أن يبصر في وقت ما فقد يجب أن يسألوا فيقال لهم ما هو البصر فلا بد أن يقولوا هو قوة تدرك بها المرئيات الألوان وغيرها ثم يقال لهم ما هو السمع فلا بد أن يقولوا هو قوة تدرك بها الأصوات فإذا وضعوا هذا قيل لهم فهل البصر عند إدراكه هو بصر فقط أو سمع فقط فإن قالوا هو سمع فقط فقد سلموا أنه لا يدرك الألوان وإن قالوا إنه بصر فقط فليس يدرك الأصوات وإذا لم يكن بصرا فقط لأنه يدرك الأصوات ولا سمعا فقد لأنه يدرك الألوان
فهو بصر وسمع معا وعلى هذا فتكون الأشياء كلها شيئا واحدا حتى المتضادات وهذا شيء فيما أحسبه يسلمه المتكلمون من أهل ملتنا أو يلزمهم تسليمه يعني هؤلاء الأشعرية وهو رأي سوفسطائي لأقوام قدماء مشهورين بالسفسطة # وأما الطريقة الثانية التي سلكها المتكلمون في جواز الرؤية فهي الطريقة التي اختارها أبو المعالي في كتابه المعروف بالإرشاد وتلخيصها أن الحواس إنما تدرك ذوات الأشياء وما تنفصل به الموجودات بعضها من بعض فهو أحوال ليست بذوات فالحواس لا تدركها وإنما تدرك الذوات والذات هي نفس الموجود المشترك لجميع الموجودات فإذا الحواس إنما تدرك الشيء من حيث هو موجود وهذا كله في غاية الفساد ومن أبين ما يظهر به فساد هذا القول أنه لو كان البصر إنما يدرك الأشياء لما أمكنه أن يفرق بين الأبيض والأسود لأن الأشياء لا تفترق بالشيء الذي تشترك فيه وإلا لكان بالجملة لا يمكن في الحواس لا في البصر أن يدرك فصول الألوان ولا في السمع أن يدرك فصول الأصوات ولا في الطعم أن يدرك فصول المطعومات وللزم أن تكون مدارك المحسوسات بالحس واحدا فلا يكون فرق بين مدرك البصر وهذا كله في غاية الخروج عما يعقله الإنسان وإنما تدرك الحواس ذوات الأشياء المشار إليها لمحسوساتها الخاصة بها فوجه المغالطة في هذا هو أن ما يدرك ذاتيا أخذ أنه مدرك بذاته ولولا النشأ على هذه الأقاويل وعلى التعظيم للقائلين بها أمكن أن يكون فيها شيء من الإقناع ولا وقع بها التصديق لأحد سليم الفطرة # والسبب في مثل هذه الحيرة الواقعة في الشريعة حتى ألجأت القائمين بنصرتها في زعمهم إلى مثل هذه الأقاويل الهجينة التي هي ضحكه من عنى بتمييز أصناف الأقاويل أدنى عناية هو التصريح في الشرع بما لم يأذن الله ورسوله به وهو التصريح بنفي الجسمية للجمهور وذلك أن من العسير أن يجتمع في اعتقاد واحد أن ها هنا موجودا ليس بجسم وأنه مرئي بالأبصار لأن مدارك الحواس هي في الأجسام أو أجسام ولذلك رأى قوم أن هذه الرؤية هي مزيد علم في ذلك الوقت وهذا أيضا لا يليق الإفصاح به للجمهور وأنه لما كان العقل من الجمهور لا ينفك من التخيل بل ما لا يتخيلون هو عندهم عدم وكان تخيل ما ليس بجسم لا يمكن والتصديق بوجود ما ليس بمتخيل غير ممكن عندهم عدل الشرع عن التصريح لهم بهذا المعنى فوصف لهم نفسه سبحانه وتعالى بأوصاف تقرب من قوة التخيل مثل ما وصفه به من السمع والبصر والوجه وغير ذلك مع تعريفهم أنه لا يجانسه شيء من الموجودات المتخيلة ولا يشبهه ولو كان القصد تعريف الجمهور أنه ليس بجسم لما صرح لهم بشيء من هذا بل لما كان أرفع الموجودات المتخيلة هو النور ضرب المثال به إذ كان النور هو أشهر الموجودات عند الحس والتخيل وبهذا النحو من التصور أمكن أن يفهموا المعاني الموجودة في المعاد أعني تلك المعاني مثلت لهم بأمور متخيلة محسوسة فإذا متى أخذ الشرع في أوصاف الله تعالى على ظاهره لم تعرض فيه هذه الشبهة ولا غيرها لأنه إذا قيل له نور وأنه له حجابا من نور كما جاء في القرآن والسنن الثابتة ثم قيل إن المؤمنين يرونه في الدار الآخرة كما ترى الشمس لم يعرض في هذا شك ولا شبهة في حق الجمهور ولا حق العلماء وذلك أنه قد تبرهن عند العلماء أن تلك الحال مزيد علم لكن متى صرح به للجمهور بطلت عندهم الشريعة كلها أو كفروا المصرح لهم بها فمن خرج عن منهاج الشريعة في هذه الأشياء فقد ضل عن سواء السبيل # وأنت إذا تأملت الشرع وجدته مع أنه قد ضرب للجمهور في هذه المعاني المثالات التي لم يمكن تصورهم إياها دونها فقد نبه العلماء على أن تلك المعاني نفسها التي ضرب مثالاتها للجمهور فيجب أن يوقف عند حد الشرع في نحو التعليم الذي خص به صنفا صنفا من الناس وألا يختلط التعليمان كلاهما فتفسد الحكمة الشرعية النبوية ولذلك قال عليه السلام إنا معشر الانبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم وأن نخاطبهم على قدر عقولهم ومن جعل الناس شرعا واحدا في التعليم فهو كمن جعلهم شرعا واحدا في عمل من الأعمال وهذا كله خلاف المحسوس والمعقول # وقد تبين لك من هذا أن الرؤية معنى ظاهر وأنه ليس يعرض فيه شبهه إذا أخذ الشرع على ظاهره في حق الله تبارك وتعالى أعني إذا لم يصرح فيه بنفي الجسمية ولا بإثباتها # قلت قد عرف أن هذا الرجل يرى رأي الفلاسفة وإنما أخبرت به الرسل في الإيمان بالله واليوم الآخر أكثره أمثال مضروبة وهذا من أفسد الآراء وهو قول حذاق المنافقين الزنادقة وإن كانوا لا يعلمون أن ذلك نفاقا وزندقة بل يحسبونه كمال التحقيق والمعرفة كما يحسب ذلك هؤلاء المتفلسفة وليس هذا الموضع موضع بيان ذلك # وإنما المقصود أنه مع كونه في الباطن يرى رأي الفلاسفة والمعتزلة في الرؤية وأنها مزيد علم ما يرى نحوا منه طائفة من متأخري الأشعرية فقد علم أنه لا يمكن إثبات الرؤية التي أخبر بها الشارع مع نفي ما يقولون إنه الجسم بل إثباتها مستلزم لما يقولون إنه الجسم والجهة فقد تبين أنه من جمع بين هذين فإنه مكابر للمعقول والمحسوس وهذا مما قد بينه بالدليل فيقبل منه # وأما زعمه أنها في الباطن مزيد علم فهو لم يذكر على ذلك حجة وقد بين فيما تقدم أنه لا صحة له على أصل ذلك وهو نفي كونه جسما إلا إثبات أن النفس الناطقة ليست بجسم وبين فساد ما احتج به المتكلمون على أنه ليس بجسم بحجج واضحة ومعلوم أن الأصل الذي بنى عليه هو هذا النفي وهي مسألة النفس أضعف بكثير وأن جمهور العقلاء يضحكون مما يقوله هؤلاء في النفس من الصفات السلبية أكثر مما يضحكون ممن يثبت رؤية مرئي ليس هو في اصطلاحهم بجسم ولا في جهة كما قد بيناه في غير هذا الموضع # وأما دعواه ودعوى غيره من الجهمية من المعتزلة ونحوهم أن الرؤية التي أخبر بها الرسول مزيد علم فمن سمع النصوص علم بالاضطرار أن الرسول إنما أخبر برؤية المعاينة # وأيضا فإن أدلة المعقول الصريحة تجوز هذه الرؤية وإن لم يسلك في ذلك ما ذكروه من المسالك الضعيفة فإن تلك المسالك إنما ضعفت لأن أصحابها أثبتوا رؤية ما ليس في جهة ولا هو متحيز ولا حال في متحيز فاحتاجوا لذلك أن يحذفوا من الرؤية الشروط التي لا تتم الرؤية بدونها لاعتقادهم امتناع تلك الشروط في حق الله تعالى فأما إذا قيل إن الرؤية المعروفة يصح تعلقها بكل قائم بنفسه وإن شرط فيها أن يكون المرئي بجهة من الرائي وأن يكون متحيزا وقائما بمتحيز كانت الأدلة العقلية على إمكان هذه الرؤية مالا يمكن العقلاء أن يتنازعوا في جوازها وإنما ينفيها من نفاها لظنه أن الله تعالى ليس فوق العالم وأنه على اصطلاحهم ليس بجسم ولا متحيز ولا حال في المتحيز ونحو ذلك من الصفات السلبية التي ابتدعوها مع مخالفتها لصحيح المنقول وصريح المعقول # والمقصود أن المنازعين للمؤسس يقولون له نحن نثبت بالكتاب والسنة والإجماع ونثبت بالأدلة العقلية الصريحة إمكان رؤية الرب نثبت بالضرورة وبالنظر أن الرؤية لا تتعلق إلا بما يكون في اصطلاحهم في جهة وإلا بما يكون متحيزا أو حالا في المتحيز وإذا ثبت أن الرؤية لا تتعلق إلا بمتحيز أو حال في المتحيز مع أن المصحح لها هو الوجود وكماله ثبت أنه ليس في الموجودات مالا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز بل ثبت امتناع وجود ذلك وهذا يبقي هذه الصفة في النفس وفي الملائكة وفي الرب سبحانه وتعالى كما تقدم من الوجوه وكما ذكروه من الضرورة العقلية # الوجه التاسع أن يقال قد ثبت بالفطرة التي اتفق عليها أهل الفطر السليمة وبالنقول المتواترة عن المرسلين من الأخبار وما نطقت به كتب الله واتفق عليه المؤمنون بالرسل قبل حدوث البدع أن الله تعالى عز وجل فوق العالم وثبت أيضا بالكتاب والسنة والإجماع أنه استوى على العرش فالعلو على العالم معروف بالفطرة والمعقول وبالشرعة والمنقول وأما الاستواء فإنما علم بالسمع المنقول وأكثر أهل الكلام والفلسفة من النفاة والمثبتة يقولون هذا لا يمكن إلا أن يكون جسما متحيزا فيكون التحيز من لوازم علوه على العرش كما قد يقول ذلك أهل الفطر السليمة إذا بين لهم معنى الكلام وهذا يقتضي المعقول والمنقول يستلزم ذلك وهذه المقدمة الثانية قد قررها المؤسس ومتأخرو أصحابه في غير موضع والأولى قد قررها عامة الناس من المثبتين للصفات وسائر أهل الفطر السليمة حتى أئمة أصحابه وإذا ثبت هذا في واجب الوجود امتنع أن يكون غيره من النفس وغيرها موصوفا بهذا السلوب لأن أحدا لم يقل ذلك من العقلاء ولأن الفطرة والشرعة يقضي ذلك فيها أيضا فإنهم يعلمون بهذه الطرق أن جميع هذه الأمور داخلة في العالم وجزء منه يمتنع أن تكون لا داخلة فيه ولا خارجة منه فصل # ثم قال الرازي ولنختم هذا الباب بما روي عن أرسطا ليس أنه كتب في أول كتابه في الإلهيات من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى # قال أبو عبدالله الرازي وهذا الكلام موافق للوحي والنبوة فإنه ذكر مراتب تكوين الجسد في قوله تعالى ^ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ^ فلما آل الأمر إلى تعلق الروح بالبدن قال ^ ثم أنشأناه خلقا آخر ^ وذلك كالتنبيه على أن كيفية تعلق الروح ليس مثل انقلاب النطفة من حال إلى حال بل هذا نوع آخر مخالف لتلك الأنواع المتقدمة فلهذا السبب قال ^ ثم أنشأناه خلقا آخر ^ فكذلك الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية وتأمل في صفاتها فذلك له قانون فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى وعقلا آخر بخلاف العقل الذي به اهتدى إلىمعرفة الجسمانيات وهذا آخر الكلام في هذه المقدمة # قلت والكلام على هذا من وجوه # أحدها أن هذا الكلام هو وما ذكره من الحجة أشبه بكلام أهل الجهل والضلال ومن لا يدري ما يخرج منه من المقال من كلام أهل العقل والعلم والبيان وهو أشبه بكلام جهال القصاص والمغالطين من كلام العلماء المجادلين بالحق وما أحسن ما قال الإمام أحمد رحمه الله في بشر المريسي إمام الجهمية قال كان صاحب خطب لم يكن صاحب حجج بل هذا الكلام دون كلام أهل الخطب والحجج # الثاني أن يقال له ألم يكن في أثارة الأنبياء والمرسلين ما يستغنى به في أعظم المطالب وأشرف المعارف عن ما يروى عن معلم المبدلة من الضالين الذين انتقلوا عن الحنيفية الثابتة بالعقل والدين وهو رأس هؤلاء الدهرية ثم هذا الكلام لم تعلم أنه ثابت عنه وإنما قلت بما يروى عنه فهو منقطع هؤلاء الصابئة المبدلين # الثالث أنه لو نقل واحد في هذا الباب شيئا من الإسرائيليات عن المتقدمين لم تقم به حجة إن لم يكن ذلك ثابتا بنقل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عنهم وأما يذكره لنا أهل الكتابين ومن أسلم منهم عن الأنبياء المتقدمين فليس لنا تصديقه ولا تكذيبه إن لم يكن فيما علمناه ما يدل على صدقه أو كذبه كما في صحيح البخاري عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا ^ آمنا بالله وما أنزل إلينا ^ الآية وفي سنن أبي داود عن ابن أبي تميلة الأنصاري عن أبيه أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل من اليهود مر بجنازة فقال يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله أعلم قال اليهودي إنها تتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله ورسله فإن كان باطلا لم تصدقوه وإن كان حقا لم تكذبوه وروى البخاري أيضا عن الزهري عن عبدالله بن عبدالله بن عتبة أن ابن عباس قال كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث الكتب عهدا بالرحمن تقرؤونه محضا لم يشب وقد أخبركم ربكم أن أهل الكتاب بدلوا كلام الله وغيروه وكتبوا بأيديهم وقالوا هو ^ من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ^ ألا نهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم لا والله ما رأينا أحدا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم وروى البخاري أيضا عن الزهري أخبرني حميد بن عبدالرحمن سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب # فإذا كان أهل الكتاب الذي أنزله الله تعالى والذي وجب علينا أن نؤمن بما فيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم و ^ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم ^ الآية وقال قولوا آمنا بالله ورسله إذا رووا لنا شيئا من ذلك لم نصدقه إن لم نعلم من غير ذلك أنهم صادقون وهم يقرؤون ذلك بلسان الأنبياء ثم يترجمون لنا بالعربية # فهؤلاء الذين قرؤوا كتب الصابئة من الفلاسفة وغيرهم بلغتهم اليونانية وغيرها ثم ترجموها بالعربية كيف نقبل ذلك منهم والمنقول عنهم ليسوا أنبياء ولا ممن يصدقون لو شافهونا إذ كان من علماء أهل الكتابين لم يقبل ما يقولونه فكيف وهم من الصابئة المتكلمين في العلم الإلهي بما يخالف ما جاءت به الرسل عليهم السلام وهم أشد تبديلا وتغييرا من أهل الكتابين بشيء كثير فكيف في كلام مرسل لم يوجد في كتبهم وإنما نقل عنهم مطلقا |
# الوجه الرابع أن جميع العقلاء الذين خبروا كلام آرسطو وذويه في العلم الإلهي علموا أنهم من أقل الناس نصيبا في معرفة العلم الإلهي وأكثر الناس اضطرابا وضلالا فإن كلامه وكلام ذويه في الحساب والعدد ونحوه من الرياضيات مثل كلام بقية الناس والغلط في ذلك قليل نادر وكلامهم في الطبيعيات دون ذلك غالبه جيد وفيه باطل وأما كلامهم في الإلهيات ففي غاية الاضطراب مع قلته فهو لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقي ولا سمين فينتقل هو قليل كثير الضلال عظيم المشقة يعرفه كل من له نظر صحيح في العلوم الإلهية فكيف يستدل بكلام مثل هؤلاء في العلم الإلهي وحالهم هذه الحال # وهذا المصنف هو القائل لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي غليلا ولا تروي عليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن هذا بمنزلة أن يستدل الرجل في مسائل الحلول والتثليث بكلام بطرس صاحب الرسائل التي عند النصارى وهو ممن غير دين المسيح وبدله وقد اعترف أساطين الفلسفة بأن العلم الإلهي لا سبيل لهم إلا العلم واليقين فيه وإنما يؤخذ فيه بالأولى والأخلق الأحرى وممن ذكر ذلك عنهم صاحب هذا الكتاب أبو عبدالله الرازي الذي سماه المطالب العالية فإذا كانوا معترفين بأنه ليس عندهم علم ولا يقين في العلم الإلهي كيف يستدل بكلامهم فيه # الوجه الخامس يقال له لم تقبل هذه الوصية التي نقلتها عن الذي ائتممت به من أئمة الضلال وذلك أنه قال من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى وهذا يناسب ترتيب تعاليمه حيث ينقل أتباعه
من درجة إلى درجة كما ينقلهم من المنطق والرياضي إلى الطبيعي ثم إلى الإلهي الذي لهم فجعل ذلك معلقا على إرادة الشرع في المعارف الإلهية وأنت جعلت ما تذكره من النظر في هذا الباب اعتقادا واجبا على جميع المسلمين خاصتهم وعامتهم بل كفرت في الكتاب من خالفك فلو تركت الناس على ما هم عليه إلا من أراد أن يشرع في معارفك لكنت متابعا لهذا الإمام المضل لكنك ابتدأت بخطاب ذلك الملوك والعامة وغيرهم ممن لم يرد الشروع في معارفك الإلهية # الوجه السادس أن يقال ما معنى قوله فليستحدث لنفسه فطرة أخرى والفطرة هي الخلقة التي فطر الله عباده عليها أتريد أن يبدل خلقته وما فيها من قوى الإدراك والحركة وهذا غير مقدور للبشر فإن الله تعالى فطر عباده على ذلك أم تريد أن يترك ما فطر عليه من المعارف والعلوم ويستحدث لنفسه معارف تخالف ذلك وهذا هو الذي يصلح أن يريده فهذا أمر بتبديل فطرة الله تعالى التي فطر عليها عباده وهي طريقة المبتدعة المبدلين لفطرة الله تعالى وشرعته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أو يشركانه فأهل الكتاب المنزل بدلوا وحرفوا من كتاب الله تعالى ما به بدلوه وحرفوه وهم مع الصابئين والمشركين القائمين بالنظر العقلي بدلوا من فطرة الله التي فطر الله عباده عليها وغيروا منها ما غيروه # ولهذا قيل إن آرسطو هذا بدل طريقة الصابئة الذين كانوا قبله والذين كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر الذين أثنى عليهم القرآن فهذا الكلام المنقول عنه يوافق ذلك وهؤلاء المحرفة المبدلة في هذه الأمة من الجهمية وغيرهم اتبعوا سنن من كان قبلهم من اليهود والنصارى وفارس والروم فغيروا فطرة الله تعالى وبدلوا كتاب الله والله سبحانه وتعالى خلق عباده على الفطرة التي فطرهم عليها وبعث إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه فصلاح العباد وقوامهم بالفطرة المكملة بالشريعة المنزلة وهؤلاء بدلوا وغيروا فطرة الله وشرعته خلقه وأمره وأفسدوا اعتقادات الناس وإراداتهم إدراكاتهم وحركاتهم قولهم وعملهم من هذا وهذا كما بدل الذين ظلموا من بني إسرائيل القول الذي أمروا به والعمل الذي أمروا به ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قيل لهم ^ ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ^ فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة # وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن مبدأ التجهم في هذه الأمة كان أصله من المشركين ومبدلة الصابئين من الهند واليونان وكان من مبدلة أهل الكتاب من اليهود وأن الجعد بن دهم ثم الجهم بن صفوان ومن اتبعهما أخذوا ذلك عنهم # وأنه بعد ذلك أواخر المائة الثانية وقبلها وبعدها اجتلبت كتب اليونان وغيرهم من الروم من بلاد النصارى وعربت وانتشر مذهب مبدلة الصابئة مثل آرسطو وذويه ظهر في ذلك الزمان الخرمية وهم أول القرامطة الباطنية الذين كانوا في الباطن يأخذون بعض دين الصابئين المبدلين وبعض دين المجوس كما أخذوا عن هؤلاء كلامهم في العقل والنفس وأخذوا عن هؤلاء كلامهم في النور والظلمة وكسوا ذلك عبارات وتصرفوا فيه وأخرجوه إلى المسلمين وكان من القرامطة الباطنية في الإسلام ما كان وهم كانوا يميلون كثيرا إلى طريقة الصابئة المبدلين وفي زمنهم صنفت رسائل إخوان الصفا وذكر ابن سينا أن أباه كان من أهل دعوتهم من أهل دعوة المصريين منهم وكانوا إذ ذاك قد ملكوا مصر وغلبوا عليها قال ابن سينا وبسبب ذلك اشتغلت في الفلسفة لكونهم كانوا يرونها وظهر في غير هؤلاء من التجهم ما ظهر وظهر بذلك تصديق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرا بشبر وذراعا بذراع فقيل يا رسول الله كفارس والروم قال فمن الناس إلا أولئك # ومعلوم أن أهل الكتاب أقرب إلى المسلمين من المجوس والصابئين والمشركين فكان أول ما ظهر من البدع فيه شبه من اليهود والنصارى والنبوة كل ما ظهر نورها انطفت البدع وهي في أول الأمر كانت أعظم ظهورا فكان إنما يظهر من البدع ما كان أخف من غيره كما ظهر في أواخر عصر الخلفاء الراشدين بدعة الخوارج والتشيع ثم في أواخر عصر الصحابة ظهرت القدرية والمرجئة ثم بعد انقراض أكابر التابعين ظهرت الجهمية ثم لما عربت كتب الفرس والروم ظهر التشبه بفارس والروم وكتب الهند انتقلت بتوسط الفرس إلى المسلمين وكتب اليونان انتقلت بتوسط الروم إلى المسلمين فظهرت الملاحدة الباطنية الذين ركبوا مذهبهم من قول المجوس واليونان مع ما أظهروه من التشيع وكانت قرامطة البحرين أعظم تعطيلا وكفرا كفرهم من جنس كفر فرعون بل شر منه # الوجه السابع أن يقال هذه الوصية مخالفة لما بعث الله تعالى به رسله وأن يقروهم على فطرتهم التي فطروا عليها وبذلك جاءتهم الرسل لم يأمروهم باستحداث فطرة غير الفطرة التي فطروا عليها ولا بتغيير تلك الفطرة كما أمرهم هؤلاء المبدلون لفطرة الله تعالى وكتبه والله سبحانه وتعالى قد فطر عباده على الإقرار به وعبادته وحده قال تعالى ^ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ^ وهؤلاء الصابئة المبدلون ومن بدل دينه من اليهود والنصارى وسائر المشركين هم ^ من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ^ هم من الذين اختلفوا من بعد ما كانوا أمة واحدة كما قال تعالى ^ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم ^ # ولهذا يوجد في هؤلاء الصابئة المتفلسفة وغيرهم من الاختلاف والافتراق في أصول الدين أعظم مما يوجد بين اليهود والنصارى لأن أهل الكتاب أقرب إلى الهدى من الصابئين فمبتدعتهم دون مبتدعة الصابئين والتفرق والاختلاف في الصابئين أكثر ولهذا فيهم من عبادة الأصنام والكواكب والشرك مالا يوجد منه في أهل الكتابين وإن كان قد وجد فيهم من الشرك ما وجد فهو في أولك أعظم وهؤلاء وأمثالهم هم الذين بدلوا وغيروا ما فطر الله تعالى عليه عباده وأرسل به رسله وصار فيهم من الاستكبار وطلب العلو ودعوى التحقيق في العلوم والمعارف وعلو الهمة في الأعمال ما هم في الحقيقة متصفون عنده كما قال تعالى فيهم ^ الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ^ وقال تعالى وتقدس ^ فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ^ وقال تعالى ^ وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ^ # وبالجملة فهؤلاء وأشباههم أعداء الرسل وسوس الملل وخطاب القرآن لهم كثير جدا فإنهم أئمة لأتباعهم وهم من السادة والكبراء الذين قال الله تعالى في أتباعهم ^ إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا أنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ^ وكان فرعون موسى من أكابر ملوك هؤلاء وقد ذكر الله تعالى في قصته في القرآن ما فيه عبرة وكذلك مشركو قريش الذين كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم أولا كان فيهم الشبه بهؤلاء أن يكونوا أئمة من كفر بعدهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الناس تبع لقريش في هذا الشأن مؤمنهم تبع لمؤمنهم وكافرهم تبع لكافرهم # وكان في أئمة الكفر الوحيد الذي قال الله تعالى ^ ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا إلى قوله تعالى إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ^ فاستعمل نظر أهل المنطق من التفكير الذي يطلب به الحد الأوسط ثم التقدير الذي هو القياس الذي ينتقل فيه من الحد الأوسط إلى المطلوب وكذب بكون القرآن كلام الله تعالى وجعله كلام البشر وهذا في الحقيقة قول هؤلاء المتفلسفة كما قد بيناه في غير هذا الكتاب # فأمر الأمة بقبول وصية أمثال هؤلاء دون أن يذكر في ذلك ما أوصى الله تعالى به عباده وما وصت به رسله والوصية متضمنة تبديل فطرة الله تعالى بفطرة أخرى من أعظم تبديل الفطرة في العلوم والأعمال وذلك من تبديل دين الله فصل # قال أبو عبدالله الرازي المقدمة الثانية اعلم أنه ليس كل موجود يجب أن يكون له نظير وشبيه وأنه ليس يلزم من نفي النظير والشبيه نفي ذلك الشي واحتج عليه بثلاث حجج ثم قال فظهر فساد قول من يقول لا يمكن أن نعقل وجود موجود لا يكون متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه إلا إذا وجدنا له نظيرا فإن عندنا الموصوف بهذه الصفة ليس إلا الله وبينا أنه لا يلزم من عدم النظير والشبيه عدم الشيء فثبت أن هذا الكلام ساقط بالكلية # قلت نفي النظير والمثل والكفئ والسمي ونحو ذلك عن الله سبحانه وتعالى متفق عليه بين المسلمين الذين يؤمنون بالقرآن وقد بينا فيما تقدم بالدلائل القاطعة الشرعية والعقلية أنه يمتنع أن يكون لله مثل بوجه من الوجوه وبينا أن التماثل بينه وبين خلقه ممتنع لذاته وأنه يستلزم كون الشي الواحد موجودا معدوما قديما محدثا خالقا مخلوقا ممكنا والحجج الثلاثة التي ذكرها الرازي في هذا المطلوب ضعيفة كما سنبينه إن شاء الله وإن كانت هذه المقدمة في نفسها حقا إذا فسرت بما يوافق الكتاب والسنة والعقل الصريح فإن هذا الرجل ربما يقول الحق ولكن تكون الحجج التي يقيمها عليه ضعيفة وكثيرا ما يقول ما ليس بحق وكثيرا ما يتناقض وهو في هذه المقدمة لم يثبت نفي الشبيه والنظير عن الله تعالى ولكن أراد أن يثبت أنه لا يجب أن يكون لكل موجود نظير وشبيه فأثبت سلب هذا العموم لم يثبت نفي النظير عن الله تعالى ومتى ثبت نفي المثل عن الله تعالى ثبت سلب هذا العموم لانتقاض هذه القضية العامة الكلية ولا يلزم من ثبوت نقيض هذه القضية وسلبها ثبوت نفي المثل عن الله فإنه إذا لم يجب أن يكون لكل موجود نظير لم يلزم من ذلك عدم وجود النظير لكل موجود إذ نفي الوجوب لا ينفي الوجود ولو ثبت أن في الموجودات مالا نظير له بل ما يجب نفي النظير عنه لم يثبت بمجرد هذا الإبهام أنه الله إلا بدليل آخر فكيف إذا لم يثبت إلا مجرد عدم وجوب النظير لكل موجود # وإذا عرف مضمون هذه المقدمة فإن ما استفاد بها قوله فثبت فساد قول من يقول إنه لا يمكننا أن نعقل وجود موجود لا يكون متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه إلا إذا وجدنا له نظيرا # وإذا كان هذا هو الذي استفاده بهذه المقدمة فينبغي أن يعلم أن هذا الكلام لا يقوله من يجزم بقول ولا يقوله أحد من أهل الأقوال المعتبرة وما أعلم أحدا يقوله ممن يذكر له قول لكن لعله قد قاله بعض الجهال بالمذاهب والدلائل وأهل الريب والشك في ذلك وذلك أن المنازعين له عندهم يعلم بضرورة العقل ونظره امتناع وجود موجود لا داخل ولا خارجه وإذا كان هذا ممتنعا عندهم لم يجز أن يكون لهذا الممتنع نظير ولم يجز أن يقول عاقل إن هذا الممتنع لا أعقله إلا إذا كان له نظير فإن هذا يكون تعليقا لعقله على وجود نظيره ويكون عاقلا له إذا كان له نظير ومتى جوز وجود نظيره لم يكن هو في نفسه ممتنعا عنده والقائل لهذا إن كان يعتقد امتناعه لم يجز أن يكون له في نفسه وجود فضلا عن أن يجوز وجود نظير له وان كان يعتقد إمكانه لم يحتج عقله إلى وجود نظير لكن قد يقول هذا من لا يعلم امتناعه ولا إمكانه ويقول أنا لا أعقل شيئا إلا بشيء له نظير فهذه المقدمة تبطل هذا القول لو كان أقام حجة صحيحة عليها # وتحقيق الأمر أن لفظ النظير إن أراد به هذا القائل أني لا أعقل شيئا إن لم يكن له نظير من كل وجه فهذا لا ينفعه فإنه سلم أن الله تعالى ليس له نظير من كل وجه وإن قال إن لم يكن له نظير من بعض الوجوه يعنى أن يكون بينه وبين غيره مشابهة في شيء فالرازي لم يقم دليلا على إفساد هذا بل قد سلم في كتبه أن هذا في كتبه أن هذا يقول كل أحد قال في كتابه نهاية العقول وهو أجل ما صنفه في الكلام في المسألة الثالثة في أن مخالف الحق من أهل الصلاة هل يكفر أولا قال قال أبو الحسن الأشعرى في أول كتاب مقالات الاسلاميين اختلف المسلمون بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء ضلل بعضهم بعضا فصاروا فرقا متباينين إلا أن الإسلام يجمعهم ويعمهم قال فهذا مذهبه وعليه أكثر الأصحاب ومن الأصحاب من كفر المخالفين قال فأما الفقهاء فقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال لا أرد شهادة كل أهل الأهواء والأقوال إلا الخطابية فانهم يعتقدون حل الكذب وأما أبو حنيفة فقد حكى الحاكم صاحب المختصر في كتاب المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر أحدا من أهل القبلة وحكى الرازى عن الكرخي وغيره مثل ذلك قال وأما المعتزلة فالذين كانوا قبل أبو الحسين تحامقوا وكفروا أصحابنا في إثبات الصفات وخلق الأعمال قال وأما المشبهة فقد كفرهم مخالفوهم من أصحابنا ومن المعتزلة وكان الاستاذ أبو اسحق يقول أكفر من يكفرني فكل مخالف يكفرنا نكفره وإلا فلا قال والذي نختاره أنا لا نكفر أحدا من أهل القبلة وهذا الذي اختاره آخرا خلاف ما ذكره في تأسيسه ومحصلة من تكفير المجسمة ومن غيرهم # والمقصود هنا أنه ذكر حجج من كفر المشبهة وتكلم عليها فقال وأما تكفير المشبهة فقد كفرهم أصحابنا والمعتزلة من وجوه إلى أن قال ورابعها أن الأمة مجمعة على أن المشبه كافر ثم المشبه لا يخلو إما أن يكون هو أن يذهب الى كون الله تعالى وتقدس مشبها لخلقه من كل الوجوه أوليس والأول باطل لأن أحدا من العقلاء لم يذهب الى ذلك ولا يجوز أن يجمعوا على تكفير من لا وجود له بل المشبه الذي يثبت الاله على صفة يشبهه فيها بخلقه والمجسم كذلك لأنه إذا اثبت جسما مخصوصا غير معين فإنه يشتبه عليه بالأجسام المحدثة فثيت أن المجسم مشبه وكل مشبه كافر بالإجماع فالمجسم كافر # ثم قال في الجواب عن هذا قوله المجسم مشبه والمشبه كافر قلنا إن عنيتهم بالمشبه من يكون قائلا بكون الله تعالى وتقدس شبيها بخلقه من كل الوجوه فلا شك في كفره لكن المجسمة لا يقولون بذلك فلا يلزم من قولهم بالتجسيم قولهم بذلك ألا ترى أن الشمس والقمر والنمل والبق أجسام ولا يلزم من اعترافنا باشتراكهما في الجسمية كوننا مشبهين للشمس والقمر بالنمل والبق # قال وإن عنيتم بالمشبه من يقول بكون الله تعالى شبيها بخلقه من بعض الوجوه فهذا لا يقتضي الكفر لأن المسلمين اتفقوا على أن الله موجود وشيء وعالم وقادر والحيوانات أيضا كذلك وذلك لا يوجب الكفر وإن عنيتم بالمشبه من يقول الإله جسم مختص بالمكان فلا نسلم انعقاد الإجماع على تكفير من يقول بذلك بل هو دعوى الإجماع في محل النزاع فلا يلتفت إليه # قلت هذا الكلام منه تسليم لأن كون الله شبيها بخلقه من لعض الوجوه متفق عليه بين المسلمين لاتفاقها على أن الله تعالى موجود وشيء وعالم وقادر وعلى هذا فما من موجود إلا وله شبيه من بعض الوجوه لاشتراكها في الوجود والشبه فقوله بعد هذا لا يجب أن يكون لكل موجود نظير وشبيه إن عنى به شبيها به من كل وجه فقد ذكر أن أحدا من العقلاء لم يذهب الى ذلك وإن عنى به شبيها من بعض الوجوه فقد ذكر أن هذا محل وفاق بين المسلمين وإن أراد نوعا من التشبيه فهو لم يذكره في هذه المقدمة ولم يوضح سبيلا # ومن العجب أنه ذكر في نهايته على لسان منازعيه إجماع المسلمين على تكفير المشبهة وأنه ليس هو الذي يذهب إلى كون الله تعالى وتقدس شبيها بخلقه من كل الوجوه فإن هذا لم يذهب إليه عاقل فتعين أن يكون هو الذي أثب الإله على صفة شبهه معها بخلقه ثم ذكر هو إجماع المسلمين على كون الله شبيها بخلقه من بعض الوجوه فالذي ذكر أولئك إجماع المسلمين على تكفير قائله ذكر هو إجماع المسلمين على القول به # وهذا الذي قرره في نهاية العقول في علم الأصول الذي صنفه بعد هذا الكتاب وقرر في أوله أن علم أصول الدين أجل العلوم وأشرفها وأعلاها وأنهاها قال ثم إن جماعة من الأفاضل الذين لا يوجد أمثالهم إلا على تباين الأعصار ونوادر الأدوار لما طال اقتراحهم لدي وكثر إلحاحهم علي في تصنيف كتاب في أصول الدين يشتمل على نهايات الأفكار العقلية وغايات المباحث العلمية صنفت هذا الكتاب بتوفيق الله تعالى على نحو ملتمسهم وأوردت فيه من الدقائق والحقائق ما لا يكاد يوجد في شيء من كتب الأولين والآخرين والسابقين واللاحقين من الموافقين والمخالفين وإن كتابي يتميز على سائر الكتب المصنفة في هذا المعنى بثلاثة أمور أحدها الاستقصاء في الأسولة والأجوبة والتعمق في بحار المشكلات على وجه ربما يكون انتفاع صاحب كل مذهب بكتابي هذا أكثر من انتفاعه بالكتب التي صنفها أصحاب ذلك المذهب فإني أوردت من كل كلام زبدته ومن كل بحث نقاوته حتى أني إذا لم أجد لأصحاب ذلك المذهب كلاما بعول عليه ويلتفت إليه في نصرة مذهبهم وتقرير مقالتهم استنبطت من نفسي أيضا ما يمكن أن يقال في تقرير ذلك المذهب وتحرير ذلك المطلب وإن كنا نرد بالعاقبة كل رئي ونزيف كل رواية سوى ما اختاره أهل السنة والجماعة ونبين بالبراهين الباهرة والأدلة القاهرة أن ذلك الذي يجب له الانقياد بالسمع والطاعة # وثانيهما استنباط الأدلة الحقيقية والبراهين اليقينية المفيدة للعلم الحقيقي واليقين التام لا الا لزامات التي المقصود من إيرادها مجرد التعجيز وألافحام |
# وثالثها الترتيب العجيب والتلفيق الأنيق الذي يوجب إلزامه على ملتزمه إيراد جميع مداخل الشكوك والشبهات والإجتناب على الحشو والاطناب وهذا كله لا يعلمه إلا من تقدم تحصيله لأكثر كلام العلماء وتحقق وقوعه على مجامع العقلاء من المحقين والمبطلين والموافقين والمخالفين حتى يمكن بعد ذلك فهم ما فيه من الأدلة العقلية والشكوك العويصة القوية فأني قل ما تكلمت في المبادىء والمقدمات بل أكثر العناية كان مصروفا إلى تخليص النهايات والغايات # قال ولما خرج الكتاب على هذا الوجه سميته نهاية العقول في دراية الأصول ليكون الاسم موافقا واللفظ مطابقا للمعنى وجعلته خالصا لوجه الله تعالى الكريم وطلب مرضاته والفوز العظيم بثوابه والهرب من أليم عذابه وسألت الله تعالى أن بعظم لي الإنتفاع للمسلمين في الدارين ويجعله سبب السعادة في المنزلتين أنه قريب مجيب # فهذا وصفه لكلامه في هذا الكتاب الذي صنفه بعد هذا وقد نقض فيه ما ذكر في هذا الكتاب في اسم المشبهة وتكفيرهم وذكر اتفاق المسلمين على إثبات التشبيه من بعض الوجوه وإذا كانوا متفقين عليه كيف يكون صاحبه هو المشبه المذموم في قول المسلمين وذكر أن القائلين بالجسم واختصاص الله تعالى بالمكان وإن عناهم متكلم بلفظ فلا حجة على تكفيرهم # وقد ذكر في هذا الكتاب ضد هذين القولين في اسم التشبيه وفي تكفير المشبه مع أن الحج التي ذكرها في هذا الكتاب من جانب منازعه قوية عظيمة توافق ما رجع إليه في نهايته فقال في القسم الرابع وقد جعله ثلاثة فصول قال # الفصل الثاني في أن المجسم هل يوسف بأنه مشبه أم لا قال المجسم إنا وإن قلنا إنه جسم مختص بالحيز والجهة إلا أنا نعتقد أنه بحلاف سائر الأجسام في ذاته وحقيقته وذلك يمنع من القول بالتشبيه فإن إثبات المساواة في بعض الأمور لا يوجب إثبات التشبيه ويدل على ذلك أنه تعالى صرح في كتابه بالمساواة في الصفات الكثيرة ولم يقل أحد بأن ذلك يوجب التشبيه فالأول قال سبحانه وتعالى في صفة نفسه ^ إنني معكما أسمع وأرى ^ وقال في صفة الإنسان ^ فجعلناه سميعا بصيرا ^ الثاني قال ^ واصنع الفلك بأعيننا ^ وقال في الإنسان ^ ترى أعينهم تفيض من الدمع حزنا ^ الثالث قال ^ بل يداه مبسوطتان ^ وفي الإنسان ^ بما قدمت يداك ^ وقال في نفسه ^ مما عملت أيدينا أنعاما ^ وفي الإنسان ^ يد الله فوق أيديهم ^ الرابع قال ^ الرحمن على العرش استوى ^ وفي الإنسان ^ لتستووا على ظهوره ^ الخامس قال في صفة نفسه ^ العزيز الجبار ^ ووصف الخلق بذلك فقال إخوة يوسف ^ أيها العزيز ^ وقال ^ كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ^ والسادس سمى نفسه ^ العظيم ^ ثم وصف العرش فقال ^ رب العرش العظيم ^ والسابع وصف نفسه ^ الحفيظ العليم ^ ووصف يوسف بها فقال ^ إني حفيظ عليم ^ وقال ^ وبشروه بغلام عليم ^ وقال في آية أخرى ^ بغلام حليم ^ الثامن سمى تحيتنا سلاما فقال ^ تحيتهم يوم يلقونه سلام ^ وسمى نفسه سلاما كما صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من الصلاة اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام التاسع المؤمن قال # تعالى ^ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ^ ووصف نفسه تعالى به فقال ^ السلام المؤمن ^ العاشر الحكم قال الله ^ ألا له الحكم ^ ووصفنا به فقال ^ فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ^ الحادي عشر الراحم ^ الرحيم ^ وهو ظاهر الثاني عشر الشكور فقال ^ إن ربنا لغفور شكور ^ الثالث عشر العلي والإنسان يسمى بذلك منهم كعلي رضي الله عنه الرابع عشر الكبير قال في نفسه ^ وهو العلي الكبير ^ وقال ^ إن له أبا شيخا كبيرا ^ وقال في حكاية عن المرأتين ^ وأبونا شيخ كبير ^ الخامس عشر الحكيم والله تعالى وصف نفسه وكتابه السادس عشر الشهيد قال في حق الخلق ^ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ^ وقال في حق نفسه ^ أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ^ السابع عشر قال الله تعالى ^ فتعالى الله الملك الحق ^ وقال ^ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ^ ^ الملك يومئذ الحق للرحمن ^ ^ ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق ^ ^ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ^ الثامن عشر الوكيل قال تعالى ^ وهو على كل شيء وكيل ^ وقد يوصف الخلق بذلك فيقال فلان وكل فلانا التاسع عشر المولى قال تعالى ^ ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ^ ثم قال تعالى في حقنا ^ ولكل جعلنا موالي ^ والنبي صلى الله عليه وسلم قال من كنت مولاه فعلي مولاه العشرون الولي قال تعالى ^ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ^ وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل وقال تعالى ^ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ^ الحادي والعشرون الحي قال الله تعالى ^ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ^ وقال ^ وجعلنا من الماء كل شيء حي ^ الثاني والعشرون قال تعالى ^ إنما هو إله واحد ^ ويقع هذا الوصف على أكثر الأشياء فيقال ثوب واحد وإنسان واحد الثالث والعشرون الثواب قال الله تعالى ^ إن الله كان توابا رحيما ^ وسمى الخلق به فقال ^ إن الله يحب التوابين ^ الرابع والعشرون الغني قال الله تعالى ^ والله الغني ^ وقال ^ إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء ^ وقال النبي صلى الله عليه وسلم خذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم الخامس والعشرون النور قال الله تعالى ^ الله نور السموات والأرض ^ وقال ^ يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ^ السادس والعشرون الهادي قال الله تعالى ^ ولكن الله يهدي من يشاء ^ وقال ^ إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ^ السابع والعشرون الاستماع قال الله تعالى ^ فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون ^ وقال لموسى ^ فاستمع لما يوحى ^ الثامن والعشرون القديم قال تعالى ^ حتى عاد كالعرجون القديم ^ # قال واعلم أنه لا نزاع في أن لفظ الموجود والشيء والواحد والذات والمعلوم والمذكور والعالم والقادر والحي والمريد والسميع والبصير والمتكلم والباقي واقع على الحق سبحانه وتعالى وعلى خلقه فثبت بما ذكرناه أن المشابهة من بعض الوجوه لا توجب أن يكون قائله موصوفا بأنه شبه الله بالخلق وبأنه مشبه ونحن لا نثبت المشابهة بينه وبين خلقه إلا في بعض الأحوال والصفات إلا أنا نعتقد أنه تعالى وإن كان جسما إلا أنه بخلاف سائر الأجسام في ذاته وحقيقته فثبت أن إطلاق اسم المشبه على هذه الطائفة كذب وزور وهذا جملة كلامهم في هذا الباب # قال واعلم أن حاصل هذا الكلام من جانبنا أنا قد دللنا في القسم الأول من هذا الكتاب على أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية فلو كان الباري جسما لزم أن يكون مثلا لهذه الأجسام في تمام الماهية وحينئذ فيكون القول بالتشبيه لازما أما ما لم يدل الدليل على أن الأشياء المتساوية في الموجودية والعالمية والقادرية فإنه لا يجب تماثلها في تمام الماهية فظهر الفرق # قلت قد ذكر ما ذكر في حجج الذين سماهم مجسمة مع تقصير فيها فإنها حجج كثيرة جدا ومع هذا فلم يمكنه أن يمنعهم ثبوت التشبيه من بعض الوجوه كما قرره ولا أمكنه أن يمنع أن هذا ثابت بالكتاب والسنة واتفاق المسلمين لكن ادعى أن التجسيم يوجب إثبات مثل لله في تمام ماهيته وذلك ليس تشبيها في بعض الأمور بل هو مماثلة في كمال الحقيقة والماهية # قلت ولا ريب أن من أثبت لله مثلا في كمال حقيقته فهو مشبه بل هو أعظم من أن يقال مشبه بل هو جاعل لله تعالى كفوا وشبها ولذا قال فالأشياء المستركة في الموجودية والعالمية والقادرية لا يجب تماثلها في تمام الماهية قلت وهذا حق فإن اشتراك الشيئين في كونهما موجودين أو عالمين أو قادرين لا يوجب استواءهما في حقيقتهما # والغرض أنه في هذا الكتاب أيضا قد اعترف بأن التشبيه من بعض الوجوه ثابت بالكتاب والسنة واتفاق العقلاء فضلا عن المسلمين لكن خصومه المجسمة إنما عابهم بإثباتهم المشابهة في تمام الماهية وهذا مورد النزاع بينه وبينهم وسنذكر إنشاء الله تعالى ما يجب من الحكم بالقسط بينه وبينهم إذا انتهينا إلى ذكر حججه التي أحال عليها ونبين أن الأجسام كلها هل هي مستوية في تمام ماهيتها وكمال حقيقتها أم لا إذ هذا ليس موضع الكلام في ذلك وهذا الفصل وإن كان ذكره في آخر الكتاب فذكرناه في هذا الموضع لنبين اعترافه واعتراف سائر الخلق بما قامت عليه الأدلة الشرعية والعقلية من ثبوت المشابهة في بعض الأمور وأن ذلك لا يستلزم التماثل في الحقيقة وظهر بذلك ما في هذا اللفظ من العموم والخصوص والإطلاق والتقييد # والمقصود هنا أن لفظ الشبيه والنظير فيه إجمال كبير واشتراك في اللفظ وإجمال في المعنى فإن أراد بما نفاه بهذه المقدمة نفي التشبيه من كل وجه فهذا محل وفاق ولا ينفعه ذلك وإن أراد به نفي التشبيه من بعض الوجوه فقد ذكر أن هذا متفق على ثبوته فلم يرد نفيه ولم يقم دليلا على نفيه والقول الذي ذكره عن بعض منازعيه لا يمكننا عقل موجود لا متصل ولا منفصل إلا إذا وجدنا له نظيرا قد ذكرنا أنه لا يقوله من يعلم امتناع موجود لا متصل ولا منفصل ولا يقوله من يعلم إمكانه وإنما يقوله الواقف الذي يطلب للشيء نظيرا وقد ذكر هذا الرازي أنه لا يطلب أحد من العقلاء نظيرا من كل وجه وذكر أن الشبيه من بعض الوجوه ثابت للرب سبحانه وتعالى باتفاق المسلمين فضلا عن أن يكون ثابتا لغيره وهذا المنازع له لا يطلب إلا نظيرا من بعض الوجوه فإذا كان مطلوبه حاصلا باتفاق المسلمين لم يكن قوله فاسدا فأحد الأمرين لازم إما أن لا يكون قال أحد هذا القول أو يكون هذا القول حقا مسلما بالاتفاق وعلى التقديرين فلا تصح مناظرة قائله # فإن قيل هذا المنازع طلب نظيرا في مورد النزاع وهو أني لا أثبت موجودا لا داخل العالم ولا خارجه إن لم يكن له شبيه من هذا الوجه والمخالفون له لا يثبتون المشابهة من هذا الوجه # قيل هذا حق وهو تشبيه من وجه مخصوص لكن المصنف لم يثبت جواز وجود موجود بدون هذا التشبيه الخاص إذ لو أثبت ذلك لكان قد أثبت جواز موجود لا يكون داخل العالم ولا خارجه وذلك لو أثبت كانت له مغنيا عن هذه المقدمة بل ادعى أنه لا يجب الوجود الشبيه والنظير لكل موجود ولفظ الشبيه مجمل كما ذكره هو وإذا كانت الدعوى مجملة تحتمل مورد النزاع وما هو أعم منه وما هو أخص منه لم تكن إقامة الدليل عليها دافعة للخصم وهذا بين # وأما حججه فإنه قال الحجة الأولى أن بديهة العقل لا تستبعد وجود موجود موصوف بصفات مخصوصة بحيث يكون كل ما سواه مخالفا له في تلك الخصوصية إذا لم يكن هذا مدفوعا في بداية العقول علمنا أنه لا يلزم من عدم نظير الشيء عدم ذلك الشيء # وعلى هذا وجوه الأول إن عدم استبعاد البديهة لا يقتضي عدم استبعاد العلم النظري وكذلك كونه غير مدفوع في بديهة العقل لا يقتضى أنه لا يكون مدفوعا في نظره فإن حاصل هذا أنه لا يعلم بالبديهة امتناع هذا وفرق بين أن لا يعلم بالبديهة امتناعه وبين أن يعلم بالبديهة إمكانه وإذا لم يعلم بالبديهة امتناعه لم يجز أن يقال فعلمنا أنه لا يلزم من عدم نظير الشيء عدم الشيء فإن هذا لم يعلم مما ذكره إنما أفاد عدم العلم البديهي بوجود موجود لا نظير له لم يعدم وجود علم بإمكانه ولو كان قد قال نعلم بالبديهة أن الشيء قد يكون موجودا ولا يكون له نظير أو نعلم بالبديهة إمكان وجود شيء لا نظير له لكان الدليل تاما لكن هو لم يذكر إلا الإمكان الذهني دون الخارجي والإمكان الذهني ليس فيه علم لا بالامتناع ولا بالإمكان ولكن العلم بالإمكان الخارجي فيه بالإمكان # الثاني أن الذي ادعاه أنه لا يستبعد وجود موجود موصوف بصفات مخصوصة بحيث يكون كل ما سواه مخالفا له في تلك الخصوصية وهذا إثبات للمخالفة في الخصوصية وإن كانت المشابهة ثابتة في غير الخصوصية بحيث يكون بينهما قدر مشترك وقدر مميز والمنازع له لم ينف وجود هذا بل قد حكى الإجماع على أن أحدا من العقلاء لم يثبت المشابهة من كل وجه فلا يفيده هذا الوجه # الثالث أن المنازع له الذي ذكره في هذه المقدمة طلب إثبات شيء يكون لا داخل العالم ولا خارجه وذكر أنه لا يقر بهذا إلا إذا علم المشابهة في هذا فإن لم يقم دليلا على أن وجود الموجود لا يقتضي وجود شبيه له من هذا الوجه إما دليلا يخص هذا الوجه أو دليلا يعم هذا الوجه وغيره لم يكن قد استدل وهذا الدليل إنما فيه جواز المخالفة في تلك الخصوصية ولا يلزم من جواز المخالفة في تلك الخصوصية جواز المخالفة في كونه لا داخل العالم ولا خارجه # ثم قال الحجة الثانية وهو أن الشيء إما أن يتوقف على وجود ما يشابهه أو لا يتوقف والأول باطل لأنهما لو كانا متشابهين وجب استواؤهما في جميع اللوازم فيلزم من توقف وجود هذا على وجود الثاني توقف الثاني على وجود الأول بل توقف كل واحد منهما على نفسه وذلك محال في بداية العقول # يقال هذه الحجة أفسد من التي قبلها من وجوه # أحدها أن هذه إنما تنفي وجوب التشابه الموجب للاستواء في جميع اللوازم وهذا هو التماثل وقد حكى الإجماع على أن أحدا من العقلاء لا يثبت لله مثلا يشاركه في جميع اللوازم ولا ريب أن انتفاء هذا الظاهر وإذا كان أحد من العقلاء لم يقل بهذا لم ينفعه في دفع ما ذكره عن منازعه الذي طلب التشابه في صفة واحدة لا في جميع اللوازم # الوجه الثاني أنه كثيرا ما يحتج بمثل هذه الحجة في كتبه وهي من الأغاليط ولا يميز بين دور التقدم والتأخر وبين دور التفاوت وذلك أنه يمتنع أن يكون كل من الشيئين علة للآخر لأن العلة متقدمة للمعلول فيلزم أن يكون كل منهما علة للآخر ومعلولا له فيلزم تقدمه عليه وتأخره عنه وذلك يلزم تقدمه على نفسه بدرجتين وتأخره عن نفسه بدرجتين ويستلزم كونه علة لنفسه ومعلولا لنفسه لأنه يكون علة علته ومعلولا معلوله جميعا ولا يمتنع أن يكون كل من الشيئين مقارنا للآخر بحيث لا يوجد إلا معه كالأمور المتضايفة مثل الأبوة والبنوة ونحو ذلك وهذا دور الشروط فيجوز أن يكون وجود كل من الأمرين شرطا في وجود الآخر بحيث لا يوجد إلا معه فهذا جائز ليس بممتنع فقوله وجود الشيء إما أن يتوقف على وجود ما يشابهه إن أراد بالتوقف توقف العلل بحيث يكون كل منهما موجودا مع الآخر فلم قال إن هذا ممتنع # قوله لأن التشابه يقتضي الاستواء في اللوازم فيلزم من توقف وجود هذا على وجود الثاني توقف وجود الثاني على وجود الأول # يقال له غايته إنه توقف كل منهما على وجود الآخر وهذا أول المسألة وهو توقف الشيء على وجود ما يشبهه فلم قلت إن هذا محال إذا أريد بالتوقف وجوب وجوده معه لا وجوب وجوده به ومعلوم أن هذا لا يقتضي وقف الشيء على نفسه وأن هذا ليس بمحال في بداية العقول بل المحال أن يكون وجود كل منهما بوجود الآخر وفرق بين كون وجوده معه أو وجوده به فهذه الحجة كما قال الإمام أحمد رحمه الله في هؤلاء يتمسكون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم # الوجه الثالث أن يقال نختار القسم الثاني وهو أن وجود الشيء لا يتوقف على وجود ما يشبهه بل يجوز وجوده بدونه لكن لم قلت إذا كان وجوده لا يتوقف على النظير أنه لا يجب أن يكون له نظير وإن لم يتوقف عليه وجوده كمعلولي العلة الواحدة لا يتوقف أحدهما على الآخر بأن كان وجود أحدهما مستلزما لوجود الآخر # وأيضا فالمنازع الذي ذكرته لا يمكننا أن نعقل وجود موجود لا يكون متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه إلا إذا وجدنا له نظيرا إنما نفى عقل نفسه فلم قلت إنه إذا جاز وجود هذا الموجود يمكن عقلنا له وهذا لا يحصل إلا إذا ثبت أنه يمكن أن يعقل كل ما جاز وجوده وهذا لم تذكر عليه حجة # ثم قال الحجة الثالثة هو أن تعين كل شيء من حيث أنه هو ممتنع الحصول في غيره وإلا لكان ذلك الشيء عين غيره وذلك باطل في بداية العقول فثبت أن تعين كل شيء من حيث أنه هو ممتنع الحصول في غيره فعلمنا أن عدم النظير والمساوي لا يوجب القول بعدم الشيء |
# يقال هذه الحجة أفسد من غيرها وهي أيضا من غلطاته فإنه لم يذكر فيها ما يدل على مطلوبه لوجوه # أحدها أن إثبات نظير الشيء وشبهه ومثله يقتضي أن يكون عين أحدهما ليست عين الآخر إذ لو كانت عينه عينه لم يكن مثله ونظيره بل كان هو إياه وإذا كان نفس إثبات النظير يقتضي التغاير في التعيين صار وجود النظير مستلزما لامتناع كون أحدهما عين الآخر وثبوت اللازم لا يقتضي عدم الملزوم فكون عين الشيء يمتنع أن يكون لغيره لا يقتضي نفي ذلك كما لا يقتضي ثبوته وإذا لم يكن مقتضيا ثبوت النظير ولا نفيه لم يكن فيه إعدام الدليل على وجوب النظير وعدم الدليل ليس دليل العدم فتبين أن ما ذكره لا يمنع وجوب النظير كما لا يوجب ثبوت النظير ولكن غايته أنه لا يدل على ثبوت النظير # لكن قد يقول هو إذا كان تعيينه يمتنع أن يكون لغيره فلا يقتضي وجود التعيين وجوده ولا عدمه # فيقال هذه الحجة لم تفد غير ما هو معروف بدونها من أنه يمكن العقل أن يتصور وجود الشيء الذي ليس له نظير وأن ذلك ممكن فإن هذه الحجة ليس فيها إقامة دليل خاص على نفي الحاجة إلى النظير وإنما غايتها وجود عين الشيء من غير نظير ولو قال قائل قد يكون وجود الشيء موقوفا على نظيره لكون وجوده مشروطا بوجود النظير أو وجود الغير كالأمور المتضايفة وأنتم لم تقيموا دليلا على نفي وجوب التلازم فإنه ليس في حجته ما ينفي التلازم لكان قوله صحيحا لكن يقال نحن نتصور إمكان وجوده بدون التلازم فلا حاجة إلى حجته # يبين ذلك أنه يكون امتناع كون عين الشيء حاصلا في غيره يمنع وجوب الشبيه أو النظير فإن ذلك يستلزم أن يكون إثبات الشيء مستلزما
لعدمه لأن إثبات التشابه والتناظر والتساوي يقتضي ثبوت التغاير في التعيين وأن أحدهما ليست عين الآخر فلو كان هذا التغاير في التعيين مانعا من وجوب مشابه لكان لازما الشيء بل بعض معناه مانعا من وجوبه فإن اللازم لا يمنع وجوب الملزوم ولا يوجب وجوده # الوجه الثاني أن كون تعيين الشيء ممتنع الحصول في غيره لا يقتضي عدم نظير ذلك التعيين في الثاني وإنما يقتضي عدم نفس ذلك التعيين في الثاني والمنازع إنما يثبت نظير التعيين في الثاني لا نفس التعيين فلم قلت إن نظير ذلك التعيين غير واجب فإن قلت يلزم أن يكون لكل نظير نظيرا قيل له كل من التعيينين نظير الآخر # الوجه الثالث أن تعين الشيء في اقتضائه لنفي وجوب لمثل كما هو في اقتضائه لنفي وجود المثل ثم من المعلوم أنه إذا كان امتناع حصول العين في الغير يقتضي نفي المثل وجب أن لا يكون لشيء من الأشياء نظير ولا شبيه ولا مثل فإنه ما من شيء إلا له عين مخصوصة يمتنع حصولها في غيره فإن كان عدم حصول عين الشيء في غيره يقتضي عدم مثله ونظيره فليس في الوجود ماله نظير وشبيه وهذا من أبطل الأشياء وإذا لم يكن تعيين الشيء مانعا من وجود النظير لم يكن مانعا من وجوب النظير فإنه لا يدل على هذا ولا هذا فصل # قال الرازي المقدمة الثالثة أن القائلين بأنه تعالى جسم اختلفوا فمنهم من يقول إنه على صورة الإنسان ثم المنقول عن مشبهة الأمة أنه على صورة الإنسان الشاب وعن مشبهة اليهود أنه على صورة إنسان شيخ وهؤلاء يجوزون الانتقال والذهاب والمجيء على الله تعالى وأما المحققون من المشبهة فالمنقول عنهم أنه على صورة نور من الأنوار # وقال وذكر أبو معشر المنجم أن سبب إقدام الناس على اتخاذ عبادة الأوثان دينا لأنفسهم هو أن القوم في الدهر الأقدم كانوا على مذهب المشبهة وكانوا يعتقدون أن إله العالم نور عظيم فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنا هو أكبر الأوثان على صورة الإله وأوثانا أخرى أصغر من ذلك الوثن على صورة الملائكة واشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة فثبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب المشبهة # واعلم أن كثيرا من هؤلاء يمتنع من جواز الحركة والسكون على الله تعالى وأما الكرامية فهم يقولون بالأعضاء والجوارح بل يقولون إنه مختص بما فوق العرش ثم إن هذا المذهب يحتمل وجوها ثلاثة فإنه تعالى إما أن يقال إنه ملاق للعرش وإما أن يقال إنه مباين عنه ببعد منتاه وإما أن يقال إنه مباين ببعد غير متناه وقد ذهب إلى كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة طائفة من الكرامية واختلفوا أيضا في أنه تعالى مختص بتلك الجهات لذاته أو لمعنى قديم وبينهم اختلاف في ذلك فهذا تمام الكلام في المقدمات وبالله التوفيق # قلت هذا الكلام فيه تقصير كثير في معرفة مذاهب الناس وتحقيقها وذلك أن القائلين بأن الله تعالى فوق العرش والقائلين بالصفات الخبرية وهم السلف وأهل الحديث وأئمة الأمة وجماهيرها وجمهور الصفاتية من الكلابية والأشعرية والكرامية وجمهور المشهورين بالإمامة في الفقه والتصوف في الأمة من جميع الطوائف جمهورهم لا يقول هو جسم ولا ليس بجسم لما في اللفظين من الإجمال والاشتراك المشتمل على الحق والباطل ومنهم طوائف يقولون هو جسم وطوائف يقولون ليس بجسم ثم إن كثيرا من أئمة السنة والحديث أو أكثرهم يقولون إنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه بحد ومنهم من لم يطلق لفظ الحد وبعضهم أنكر الحد وممن ذكر ما عنده في ذلك من مذاهب أهل الحديث والكلام وإن كان بمقالات أهل الكلام أخبر أبو الحسن الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين الذي من أو ما ذكر فيه أخذ الرازي وغيره مذهبه في عدم تكفير أهل الصلاة # قال أبو الحسن هذه حكاية قول جملة أصحاب الحديث وأهل السنة جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وأن الله سبحانه وتعالى إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال ^ الرحمن على العرش استوى ^ وأن له يدين بلا كيف كما قال ^ خلقت بيدي ^ وكما قال تعالى ^ بل يداه مبسوطتان ^ وأن له عينين بلا كيف كما قال ^ تجري بأعيننا ^ وأن له وجها كما قال تعالى ^ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ^ وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله كما قال المعتزلة والخوارج وأقروا أن لله علما كما قال ^ أنزله بعمله ^ وكما قال ^ وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ^ وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله تعالى كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله تعالى القوة كما قال ^ او لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ^ وذكر مذهبهم في القدر إلى أن قال ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في اللفظ و الوقف من قال بالوقف أو اللفظ فهو مبتدع عندهم لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق ويقولون إن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرىالقمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون قال تعالى ^ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ^ وأن موسى عليه السلام سأل الله تعالى الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكا فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا بل يراه في الآخرة وذكر مذهبهم في باب الإيمان والوعيد والأسماء والأحكام إلى أن قال ويقولون إن الله لم يأمر بالشر بل نهى عنه وأمر بالخير فلم يرض بالشر وإن كان مريدا له وذكر مذهبهم في الصحابة والخلافة والتفضيل # ثم قال ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول هل من مستغفر فأغفر له كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول هل من مستغفر فأغفر له ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال تعالى ^ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ^ ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لا يبتدعوا في دينهم مالم يأذن به الله ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال ^ وجاء ربك والملك صفا صفا ^ وأن الله تعالى يقرب من خلقه كيف شاء كما قال ^ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ^ وذكر مذهبهم في الأمراء والصلاة خلفهم وترك الخروج عليهم وأشياء غير ذلك ثم قال وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب ثم قال فأما أصحاب عبدالله بن سعيد القطان يعني ابن كلاب فإنهم يقولون بأكثر مما ذكرناه عن أهل السنة ويثبتون أن الله لم يزل حيا عالما قادرا سميعا بصيرا عظيما جليلا كبيرا كريما مريدا متكلما جوادا ويثبتون العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والعظمة والجلال والكبرياء والإرادة والكلام صفات لله تعالى وذكر غير ذلك قال وكان يزعم أن الباري لم يزل ولا مكان ولا زمان قبل الخلق وأنه على ما لم يزل وأنه مستو على عرشه كما قال وأنه فوق كل شيء # ثم قال ذكر قول زهير الأثري فأما أصحاب زهير الأثري فإن زهيرا كان يقول إن الله تعالى بكل مكان وأنه مع ذلك مستو على عرشه وأنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجيء يوم القيامة كما قال ^ وجاء ربك ^ بلا كيف ويزعم أن القرآن كلام محدث غير مخلوق وأن القرآن يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد وإن إرادة الله ومحبته قائمان بالله تعالى ويقول بالاستثناء كما يقول أصحاب الاستثناء المرجئة الذين حكينا قولهم في الوعيد ويقول في القدر بقول المعتزلة وذكر قوله في الإيمان أنه موافق لقول المرجئة # قال وأما أبو معاذ التومني فإنه يوافق زهيرا في أكثر أقواله ويخالفه في القرآن ويزعم أن كلام الله غير محدث ولا مخلوق وهو قائم بالله لا في مكان وكذلك قوله في إرادته ومحبته وقال في باب اختلاف الناس في الباري هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان وهل تحمله الحملة أو يحمله العرش وهل هم ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف من الملائكة اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة قد ذكرنا قول من امتنع من ذلك وقال إنه في كل مكان حال وقول من قال لا نهاية له وأنه هاتين الفرقتين أنكرت القول بأنه في مكان دون مكان # قال وقال القائلون هو جسم خارج من جميع صفات الجسم ليس بطويل ولا عريض ولا عميق ولا يوصف بطعم ولا لون ولا مجسة ولا شيء من صفات الأجسام وأنه ليس في الأشياء ولا على العرش إلاعلى معنى أنه فوقه غير مماس له وأنه فوق الأشياء وفوق العرش ليس بينه وبين الأشياء أكثر من أنه فوقها # قال وقال هشام بن الحكم إن ربه تعالى في مكان دون مكان وأن مكانه هو العرش وأنه مماس للعرش وأن العرش قد حواه وحده وقال بعض أصحابه أن الباري قد ملأ العرش وأنه مماس له قال وقال بعض من ينتحل الحديث إن العرش لم يمتلىء به وأنه يقعد نبيه صلى الله عليه وسلم معه على العرش # قال وقال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم ولا يشبهه الأشياء وأنه على العرش كما قال ^ الرحمن على العرش استوى ^ ولا نقدم بين يدي الله تعالى في القول بل نقول استوى بلا كيف وأن له وجها كما قال ^ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ^ وأن له يدين كما قال ^ خلقت بيدي ^ وأن له عينين كما قال ^ تجري بأعيننا ^ وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال تعالى ^ وجاء ربك والملك صفا صفا ^ وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث ولم يقولوا شيئا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم # وقالت المعتزلة إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى وقال بعض الناس الاستواء القعود والتمكن # قال واختلف الناس في حملة العرش ما الذي تحمل قال قائلون الحملة تحمل الباري تعالى وإنه إذا غضب ثقل على كواهلهم وإذا رضي خف فيتبينون غضبه من رضاه وأن العرش له أطيط إذا ثقل عليه كأطيط الرحل قال الأشعري وقال بعضهم ليس يثقل الباري ولا يخف ولا تحمله الحملة ولكن العرش هو الذي يخف ويثقل وتحمله الحملة قال وقال بعضهم الحملة ثمانية أملاك وقال بعضهم ثمانية أصناف قال وقال قائلون إنه تعالى على العرش وإنه بائن منه لا بعزلة وإشغال لمكان غيره بل بينونة ليس على العزلة والبينونة من صفات الذات # قال أبو الحسن الأشعري واختلفوا يعني الأمة في العين واليد الوجه على أربع مقالات فقالت المجسمة له يدان ورجلان ووجه وعينان وجنب يذهبون إلى الجوارح والأعضاء وقال أصحاب الحديث لسنا نقول في ذلك إلا ما قال الله تعالى أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول وجه بلا كيف ويدان وعينان بلا كيف وقال عبدالله ابن كلاب أطلق اليد والعين والوجه خبرا لأن الله تعالى أطلق ذلك ولا أطلق غيره فأقول هي صفات لله تعالى كما قال في العلم والقدرة والحياة إنها صفات # وقالت المعتزلة بإنكار ذلك إلا الوجه وقالت اليد بمعنى النعمة وقوله تجري بأعيننا أي بعلمنا والجنب بمعنى الأمر وقالوا في قوله تعالى ^ أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله أي في أمر الله وقالوا نفس الباري هي هو وكذلك ذاته هي هو وتألوا قوله ^ الصمد ^ على وجهين أحدهما أنه السيد والآخر أنه المصمود إليه بالحوائج قال وأما وجهه فإن المعتزلة قالت فيه قولين قال بعضهم وهو أبو الهذيل وجه الله هو الله تعالى وقال غيره معنى قوله ^ ويبقى وجه ربك ^ أي يبقى ربك من غير أن يكون يثبت وجها يقال إنه هو الله تعالى أو لا يقال ذلك فيه # قال واختلفوا في رؤية الله تعالى بالإبصار على تسع عشرة مقالة فقال قائلون يجوز أن نرى الله بالإبصار في الدنيا ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات وأجاز بعضهم عليه الحلول في الأجسام وأصحاب الحلول إذا رأوا إنسانا يستحسنونه لم يدروا لعل إلههم فيه وأجاز كثير ممن أجاز رؤيته في الدنيا مصافحته وملامسته ومزاورته إياهم وقالوا إن المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذ أرادوا ذلك حكي ذلك عن أصحاب مضر وكهمس وحكي عن أصحاب عبدالواحد بن زيد أنهم كانوا يقولون إن الله تعالى يرى على قدر الأعمال فمن كان عمله أفضل رآه أحسن وقد قال قائلون إنا نرى الله تعالى في الدنيا في النوم فأما في اليقظة فلا وروي عن رقبة بن مصقلة أنه قال رأيت رب العزة في النوم فقال لأكرمن مثواه يعني سليمان التيمي صلى الفجر بطهر العشاء أربعين سنة قال وامتنع كثير من القول إنه يرى في الدنيا ومن سائر ما أطلقوه وقالوا إنه يرى في الآخرة |
| الساعة الآن 06:51 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
HêĽм √ 3.2 OPS BY: ! ωαнαм ! © 2011-2012
جميع الحقوق محفوظة لمركز دراسات وأبحاث علوم الجان العالمي