فلسطين.. الصراع بين الطب النفسي والشعوذة

فلسطين.. الصراع بين الطب النفسي والشعوذة
2003/10/20
فلسطين- ميرفت عوف




لم نكن نحتاج لعنوان منزل نقصده في غزة المدينة وتحديدًا في شارع "المنطار"، بل كان كافيًا ذكر الاسم كي يوصلك السائق إلى البيت وكأنه وزارة التزمت مكانًا ما منذ سنين، قصدنا الباب الشمالي للزقاق، وما إن نطقنا باسم "أم بسام جندية" حتى سار أطفال الزقاق يصطحبونا للبيت، وكانت الساعة الثانية بعد الظهر.

طرقنا باب البيت الكبير وفي غرفة واسعة استقبلتنا ابنة "أم بسام"، وعند استفسارنا عن الأم أخبرتنا الابنة أنها خرجت قاصدة منزل عريس "مربوط" وهي الحالة الوحيدة التي تخرج فيها "أم بسام" من البيت، طلبت الابنة منا الانتظار فأخذنا نتبادل أطراف الحديث مع بنات وأحفاد "أم بسام"، فكان الجميع يتسابق لسرد قصص النجاح أو عرض بعض من مشاكل عالجتها.

ولم ننتظر طويلاً، فلقد كانت "أم بسام" ملتزمة بموعدها معنا رغم رفضها المتكرر الحديث لوسائل إعلام قصدتها قبلنا، ابتسمت أم بسام وصافحتنا برفق شديد بيدها اليمنى الموجوعة.

"مخاوية جن"

"أم بسام" امرأة في الستين من عمرها تقول: منذ 42 عامًا بدأت العمل بعلاج الناس من السحر، وذلك بعد أن خاواني جني مسلم اسمه محمد، ولم أكن بتاتًا مؤذية لأحد، بل على العكس تمامًا أعمل فقط من أجل رفع الإيذاء عن الآخرين من سحر.. ربط.. رفق، وذلك بذكر آيات الله وبعض الأعشاب الطبيعية.

وتضيف: فالمشاكل كثيرة والذي يقدرنا الله عليه نعمله، فمن أصعب المشاكل التي واجهتني "السحر السفلي"، أما أكثرها سرعة في العلاج فهي المشاكل الاجتماعية الخاصة بالعلاقة بين الرجل وزوجته أو بالعكس.

سافرت "أم بسام" لليونان والعراق والأردن بناء على طلب أناس هناك تكفلوا هم بمصاريف السفر وهوتفت من السعودية لوصف علاج ما قد يفك سحرًا أو ربطًا أو عملاً على اختلاف المسميات، وفي انتفاضة الأقصى فقدت بعضًا من زبائنها في داخل الخط الأخضر أو الضفة الغربية.

قطع الحديث هنا مع "أم بسام" ودخلت علينا امرأة في الثلاثين من عمرها، وكان التشخيص من قبل "أم بسام" سهلاً فهي في حالة مس جني سرعان ما صنعت له "أم بسام" خليطا من أخشاب شجر معين ودسته في أنف المرأة، وهذا -كما تصف "أم بسام"- سوف يحرق الجني ويسهل عملية هروبه من الجسد، وأخذت تقرأ آيات من الذكر الحكيم وأشياء أخرى لم نفهمها، كانت الحالة سهلة كما تصفها أم بسام ولها أيضًا مراجعة.

وتوضيحًا تقول "أم بسام": هناك حالات صعبة يكون الجني فيها غير مسلم نلجأ خلالها إلى دفتر توراة يهودي نكتب منه مقاطع معينة ونحرقها تحت الملبوس من الجن فيركز هذا الشخص، وإذا لم يخرج الجني في هذه الحالة نحرق ملعقة على نار حتى يحمر لونها، ثم نمسها على الجانب الأيسر أو الأيمن للمركوب من الجن أو كف يده وهنا لا يصاب إلا الجن بهذه النار ويشعر الملبوس بأنها شيء مثلج، وقد نحتاج لأكثر من جلسة لخروج الجن من الجسد على اختلاف أنواعهم.

ولم تكن الظروف الاقتصادية التي تعيشها الأراضي الفلسطينية سوى دافع للبعض للجوء لأم بسام كي تعمل على تسهيل إيجاد فرص عمل بكتابة ورقية قرآنية رغم أنها أمية، فقد لجأت لها مؤخرًا امرأة كي تعمل لها ما يسهل دخول زوجها أراضي 48 للعمل، أما عن الظروف النفسية التي تسببها الجرائم الإسرائيلية المرتكبة بحق الفلسطينيين فقد لجأ البعض لأم بسام كي تقوم بعلاج اضطرابات نفسية مست بالذين يقطنون قريبًا من مناطق التماس.

الشعوذة أم الطب النفسي

يوضح الدكتور "سمير زقوت" -اختصاصي نفسي واجتماعي ببرنامج غزة للصحة النفسية- أن الأمراض النفسية والعقلية ما زالت مصدرًا للشعور بالعيب عند الكثير من الناس، وهذا ما يجعل علاجها صعبًا؛ لأن الكثير من الناس لا يبدءون العلاج إلا بعد فوات الأوان، وربما يذهبون إلى مشعوذ أو دجال في أحد الأزقة بعيدًا عن الأهل والأقارب؛ لئلا يعلم هؤلاء بالمصيبة والعار الذي حل بهم!

ويؤكد الدكتور "زقوت" أنه لا بد من تطوير العلاج النفسي، حيث تشير نتائج الدراسات إلى نسبة نجاح ما بين 50-75% من حالات المرض النفسي والسلوكي، وهذا ليس بكافٍ، فلا بد من التطوير للوصول إلى نسبة أعلى. ولعل الفشل في علاج نسبة من المرض النفسي متوقع وله أسباب متعددة منها عدم ثقة بعض المرضى بالأطباء النفسيين، وعدم تناوله العلاج لاعتقاده أنه يسبب الإدمان، كما أن عدم صراحة المريض في طرح مشاكله خلال العلاج وإخفاء بعض المعلومات يعد من الأسباب المهمة.

أما عن أهم أسباب انتشار ظاهرة الشعوذة في فلسطين فيؤكد الدكتور "الزقوت" أن الجهل بأمور الدين عند البعض يعتبر سببًا حاسمًا في انتشار الشعوذة والسحر، ولو أنهم رجعوا إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأدركوا خطأ ما يفعلون. فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهنًا أو ساحرًا وصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد".

كما أن الخوف من وهم المرض النفسي من الأسباب المهمة، حيث إن كثيرًا من الناس يلجأ للدجالين خوفًا من أن يوهم هو أو أحد أبنائه بأنه مجنون، وهذا يؤثر على مستقبله -أو مستقبلها- من ناحية الزواج والعمل والحياة الاجتماعية، فمن السهل القول إنه تلبس فلان أو فلانة جني، ومن الصعب القول إنه مريض نفسي، فالجن قوة خارقة تستطيع أن تفعل ما تريد أما المرض النفسي فهو الجنون.

ويوضح زقوت أنه يمكن الربط بشكل واضح بين الاحتلال والسحر والشعوذة، فالضغط النفسي وما يمارسه الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني دفع شريحة معينة منهم إلى اللجوء للشعوذة والسحر والدجل هربا نحو المجهول، ولعل عامل اليأس والقنوط الناتج عن استمرارية الصراع أدى بهذه الفئة إلى الهروب لهذا النوع الباطل من الشعوذة، كما أن بعض الناس حاولوا من أجل المادة والربح تلبيس الدجل والشعوذة بلباس الإسلام، وابتدعوا في الرقية الشرعية، وكذبوا على الناس بادعائهم أنهم يعالجون الناس بالقرآن.

مسئولية من؟

ويرى د. زقوت أن المسئولية هي مسئولية الدولة أو الحكومة في أي بلد من البلدان التي يحكمها القانون، حيث إن ممارسة أي مهنة يحتاج إلى أصول وقوانين، وممارسة الدجل والشعوذة والسحر أمر خارج عن القانون، هذا من جانب، ومن جانب آخر فالمسألة ترتبط كذلك بمدى ثقافة المجتمع والوعي، حيث إن الدجالين والمشعوذين يمارسون ألاعيبهم؛ لأن هناك من يشتري بضاعتهم ويعزز سلوكهم الخاطئ عن طريق الاستمرار في الذهاب إلى أماكنهم، وكلما زاد الوعي قلّ تعزيز سلوك هؤلاء الدجالين، فالمسئولية أيضًا تقع على المؤسسات غير الحكومية والتي لا بد أن تلعب دورًا لتوعية أفراد المجتمع وبيان خطر هؤلاء الدجالين.

نعالج أنفسنا بأنفسنا

يقول الدكتور "صالح الرقب" أستاذ مشارك في قسم العقيدة بكلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية بغزة: إن الأدلة على وجود السحر في الكتاب والسنة ثابتة وواضحة، ويصف "الرقب" علاج السحر بقوله: إن القرآن الكريم شفاء وهدى للناس، قال تعالى: "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا"، وقد عالج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعض المسلمين بالقرآن من كثير من الأمراض كالسحر والصرع والمس والحسد، فالقرآن الكريم خير حافظ للإنسان من السحر، فعلى من أصابه السحر أو غيره من الأمراض النفسية قراءة القرآن الكريم والاستعانة بأشرطة الرقية الصحيحة بحيث يقرأ هو ذلك أو أحد أقاربه، كما أن هناك علاجًّا ماديًّا كالخرائط القرآنية وطرق أخرى وردت في شرح البخاري كالاستعانة بورق السدر أو الحبة السوداء وغيرها كثير، وكل ذلك لا يحتاج بالطبع للذهاب للمشعوذين الجهلة.

ويوضح الدكتور "الرقب" أن الاستعانة بالقرآن الكريم من قبل الشخص المصاب أو ذويه لا يتعارض بتاتًا مع الطب النفسي البشري؛ لأن الأصل في الطبيب المسلم الاستعانة بالله وكتابه في علاج المريض، كما ينتقد الذهاب للعيادات القرآنية من أجل العلاج. ويتساءل: هل يصعب قرءاة القرآن الكريم والقيام بذلك بأنفسنا دون الاعتماد على ناس أغلبهم يتظاهر بأنه يستعين بالقرآن.

ويضيف الدكتور "الرقب": بالطبع كانت ظروف الانتفاضة قاسية أثرت على الكثير من الناس، فقبل عدة أيام زارت زوجتي إحدى معارفها وفجأة انهمرت السيدة بالبكاء، وكنت أنا في غرفة المكتب فناديت زوجتي للاستفسار.. أخبرتني بأنها تعاني من مشاكل وضغوط كثيرة فطلبت من زوجتي أن تصف لها علاج ورق السدر.

فهناك العديد من المشاكل التي قد تواجه الناس طبقًا لتلك الظروف؛ لذا أدعو الجميع إلى التمسك بكتاب الله سبحانه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعدم التوجه للفتاحين والمشعوذين؛ لأنهم حتى إذا كانت نوايا البعض منهم صادقة فنحن لسنا بحاجة إلا لعلاج أنفسنا بأنفسنا.